آفة الكبر 3
وأسباب الكبر وبواعثه المهيجة له أربعة:
العجب.. والحقد.. والحسد.. والرياء.
فالكبر خلق باطن، وما يظهر على الجوارح من الأخلاق والأفعال التي تدل على الكبر فهي ثمرة ونتيجة للكبر الباطني الذي هو عبارة عن استعظام النفس، ورؤية قدرها فوق قدر الغير.
وهذا الباطن له موجب واحد وهو العجب الذي يتعلق بالمتكبر، فإنه إذا أعجب بنفسه وبعلمه وبعمله أو بشيء من الأسباب استعظم واستكبر.
أما الكبر الظاهر فأسبابه ثلاثة:
سبب في المتكبر وهو العجب.
وسبب في المتكبر عليه وهو الحقد والحسد.
وسبب في غيرهما وهو الرياء.
فالعجب يورث الكبر الباطن، والكبر يثمر التكبر الظاهر في الأقوال والأعمال والأحوال، والحقد يحمل على التكبر من غير عُجب، كالذي يتكبر على من يرى أنه مثله أو فوقه، ولكنه غضب عليه لسبب، فأورثه الغضب حقداً عليه، فهو لذلك لا يتواضع له بل يتكبر عليه، ويرد الحق إن جاء من جهته، ويأنف منه إن نصحه.
والحسد يوجب بغض المحسود، ويرد الحق إن جاء من جهته، ويمنع من قبول
النصيحة وتعلم العلم، فكم من جاهل يشتاق إلى العلم فبقي في رذيلة الجهل لاستنكافه أن يستفيد من واحد من أهل بلده حسداً وبغياً عليه؟.
فهو يتكبر عليه ويعرض عنه مع علمه بأنه يستحق التواضع بفضل علمه، ولكن الحسد يبعثه على أن يعامله بأخلاق المتكبرين، وإن كان في باطنه ليس يرى نفسه فوقه.
وأما الرياء فهو كذلك يدعو إلى أخلاق المتكبرين، حتى إن الرجل ليناظر من يعلم أنه أفضل منه، ويمتنع من قبول الحق منه، ولا يتواضع له خوفاً من أن يقول الناس إنه أفضل منه، فيكون باعثه على التكبر عليه الرياء المجرد.
وعلامات التكبر:
تكون في شمائل الرجل كصعر وجهه، ونظره شزراً، وإطراقه رأسه ونحو ذلك، وتكون في أقواله في صوته ونغمته.
ويظهر في مشيته وتبختره، وقيامه وجلوسه، وحركاته وسكناته، كما قال سبحانه: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩)} [لقمان: ١٨ - ١٩].
فمن المتكبرين من يجمع ذلك كله، ومنهم من يتكبر في بعض ويتواضع في بعض.
والكبر من الكبائر المهلكات، ولا يخلو أحد من الخلق عن شيء منه، وإزالته فرض عين، ولكنه لا يزول بالتمني، بل بالمعالجة واستعمال الأدوية القامعة له، ويتم ذلك بأمرين:
الأول: استئصال أصله، وقلع شجرته من مغرسها في القلب.
الثاني: دفع العارض منه بالأسباب الخاصة التي بها يتكبر الإنسان على غيره.
فاستئصال أصله يتم بأمرين: علمي وعملي، ولا يتم الشفاء إلا بمجموعهما:
أما العلمي: فهو أن يعرف الإنسان نفسه، ويعرف ربه تعالى، ويكفيه ذلك في
إزالة الكبر، فالإنسان مهما عرف نفسه حق المعرفة علم أنه أذل من كل ذليل، وأنه لا يليق به إلا التواضع والذلة.
وإذا عرف ربه علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله العلي العظيم.
فأما معرفة العبد نفسه فأولاً لم يكن الإنسان شيئاً مذكوراً، ثم خلقه الله من أرذل الأشياء وأقذرها وهو التراب، ثم من نطفة ثم من علقة، ثم من مضغة ثم جعله عظماً، ثم كسى العظام لحماً كما قال سبحانه: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢)} [عبس: ١٧ - ٢٢].
فما صار الإنسان شيئاً مذكوراً إلا وهو على أخس الأوصاف والنعوت، فكان في بداية خلقه جماداً ميتاً، لا يسمع ولا يبصر، ولا يحس ولا يتحرك، ولا ينطق ولا يبطش، ولا يدرك ولا يعلم.
فبدأ بموته قبل حياته، وبضعفه قبل قوته، وبجهله قبل علمه، وبعماه قبل بصره، وبصممه قبل سمعه، وبضلالته قبل هداه، وبفقره قبل غناه، وبعجزه قبل قدرته.
ثم مَنَّ الله عليه ويسر له السبيل فأحياه بعد أن كان ميتاً.. وأسمعه بعد ما كان أصم.. وبصَّره بعد ما كان فاقداً للبصر.. وقواه بعد الضعف.. وعلَّمه بعد الجهل.. وأغناه بعد الفقر.. وأشبعه بعد الجوع.. وكساه بعد العري.. وهداه بعد الضلال: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (٢) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (٣)} [الإنسان: ١ - ٣].
فانظر كيف دبر الله الإنسان وصوره، وإلى السبيل كيف يسره، وإلى طغيان الإنسان ما أكفره؟.
ثم انظر إلى نعمة الله عليه كيف نقله من تلك الذلة والقلة، والخسة والقذارة والعجز والضعف إلى هذه الرفعة والكرامة، فصار موجوداً بعد العدم، وحياً بعد الموت، وناطقاً بعد البكم، وبصيراً بعد العمى، وقوياً بعد الضعف، ومهدياً بعد الضلال: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (٢٣)} [الملك: ٢٣] وإنما أكمل النعمة عليه ليعرف بها ربه، ويعلم بها عظمته وجلاله، وأنه لا يليق الكبرياء إلا به جلَّ جلاله.
ثم بعد ذلك يسلب الله هذا الإنسان روحه وسمعه وبصره، وعلمه وقدرته وماله وحسه وإدراكه وحركته فيعود جماداً كما كان أول مرة، ثم يوضع في التراب فيصير جيفة منتنة قذرة، كما كان أول نطفة مذرة، ثم يصير رميماً ورفاتاً يأكله الدود، ثم يصير روثاً في أجواف الديدان، وجيفة يهرب من نتنه الحيوان ويستقذره كل إنسان.
وأحسن أحواله أن يعود تراباً يعمل منه البنيان، وتصنع منه الكيزان، فيصير مفقوداً بعد أن كان موجوداً.
وليته بقي كذلك فما أحسن الحال لو كان تراباً، بل يحييه الله بعد طول البلى ليقاسي شديد البلاء، فيخرج من قبره بعد جمع أجزائه، ويخرج إلى أهوال يوم القيامة فينظر إلى سماء مشققة، وأرض مبدلة، وجبال مسيرة، ونجوم منكدرة، وأحوال مظلمة، وملائكة غلاظ شداد، ونار مسعرة، وجنة عالية، وصحائف منشورة فيها عمله، فينقطع قلبه، ويتمزق فؤاده من هول ما رأى في صحيفته من المخازي والكبائر فيقول: {يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (٤٩)} [الكهف: ٤٩].
فمن كان هذا بدؤه.. وهذه أحواله.. وهذا آخر أمره.. فمن أين له البطر والكبرياء، والفخر والخيلاء، وهو على التحقيق أخس الأخساء، وأضعف الضعفاء؟.
وما لمن هذه حاله والتكبر والتعظم؟.
بل ما له وللفرح في لحظة واحدة فضلاً عن البطر والأشر والكبر؟.
ولكن هذه عادة الخسيس إذا رفع من خسته شمخ بأنفه وتعظم كما قال سبحانه:
{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (٧)} [العلق: ٦، ٧].
ولو فوض الله إليه أمره، وأدام له الوجود باختياره وأكمله، لجاز أن يطغى وينسى المبدأ والمنتهى، ولكن الله سلط عليه في دوام وجوده الأمراض الهائلة، والأسقام العظيمة، والآفات المختلفة، شاء أم أبى، لا يأمن في لحظة من ليله أو نهاره أن يُسلب سمعه أو بصره أو عقله أو ماله، أو تُختطف روحه، ويُسلب جميع ما يهواه في دنياه، فهو مضطرب مضطر ذليل، عاجز فقير، لا يقدر على شيء من نفسه، ولا شيء من غيره.
فأي شيء أذل منه لو عرف نفسه؟.
وأنى يليق به الكبر لولا جهله؟
فهذا هو العلاج العلمي القامع لأصل الكبر.
مختارات