أيهما أفضل تفطيرُ الصائم أم تسحيره؟!
قرأتُ بعض المنشورات لبعض العلماء في تفضيلهم إطعام السحور للصائم على تفطيره؛ وارتأوا أنّ هذا هو الأفضل بناءً على عدّة نقاط يقولونها وهي:
1. أنّ حديث: (من فطّر صائماً كان له مثل أجره غير أنّه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً).
2. أنّ التسحير هو الذي فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم، ودعا له أصحابه،، وأن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: (تسحّرنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم إلى الصلاة).
3. أنّ السحور سمّاه الرسول صلّى الله عليه وسلّم بركة فقال صلّى الله عليه وسلّم: (تسحّروا فإنّ في السحور بركة) أخرجه الشيخان.
4. أنّ السحور يُتقوّى به على الإمساك وإتمام صومه، وإقامة الطاعة، واستقبال الصوم، بخلاف الفطور؛ فهو للانتهاء من العبادة بأي طعام؛ وأنّ الفطر يتحقق بأي مُفطّر ولو بالجماع كفعل ابن عمر، وأنّه يتحقق حتّى لو كان بمُجرّد النيّة، أمّا السحور يتحصّل بالأكل.
5. أنّ العناية بالتسحير يضمن المحافظة على صلاة الفجر في وقتها جماعة؛ والإعانة على إدراك فضيلة الدعاء والذكر عند السّحر.
6. أنّ جُلّ النصوص في الإفطار في تعجيله؛ وأمّا فضل السحر فبذات الأكلة.
وجواباً على ما ذكره بعض أهل العلم في ترجيح تفضيل طعام السحور للصائمين على تفطيرهم؛ أقولُ - وبالله التوفيق - بل تفطير الصائم أفضل من تسحيره لأمور:
1. أنّه ورد فيه حديث زيد بن خالد الجُهني فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: (من فطّر صائماً كان له مثل أجره غير أنّه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً).
وهذا الحديث قد اختلف العلماء في الحكم عليه؛ فليس هو من الأحاديث المُتّفق على تضعيفها بين العلماء؛ فقد قال الإمام الترمذي: حديث حسن صحيح. وصحّحه ابن حبّان، وصحّحه ابن عساكر، وصحّحه الألباني، وغيرهم.
ومع أنّ الذي يترجّح عندي - والله أعلم - أنّ هذا الحديث ضعيف؛ لأنّه منقطع الإسناد؛ إذ أنّ عطاء بن أبي رباح لم يسمع من زيد بن خالد الجهني ؛ كما قال الإمام ابن المديني.
صحيح أنّه قد أتت شواهد للحديث لكنّها جميعاً فيها ضعف واضح فلا تخلو من مقال؛ وقوية أسانيده من ناحية نقديّة حديثيّة تقوية للخطأ بالخطأ والضعيف بالضعيف؛ فلن يزيده قوّة.
2. لكن طريقة فقهاء الحديث تقضي بأنّ ضعف الدليل لا يعني انتفاء المدلول؛ بل صحة الحديث لا تعني القيام بالعمل به لموانع مختلفة مذكورة في مظانها؛ منها أن يكون الحديث منسوخاً؛ أو أتى ما يُعارضه، أو أن يكون الحديث آحاد وآخر متواتر.
وقد ذكروا كذلك أنَّ ضعف الحديث لا يقتضي عدم العمل بمضمونه؛ إذ قد تأتي ما يتفق مع مضمونه من قياسٍ أو استحسان أو إجماع أو عمل الصحابة، وغيرها مما هو مذكور في مظانّه.
3. أنّ فضل الله واسع؛ وادّعاء أنّ طعام السحور أفضل ليس عيه دليل؛ فإن لم يكن مثله من باب الفضل والأجر الداخل في قوله تعالى يقول: {فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره} وقوله صلّى الله عليه وسلمّ: (من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله) أخرجه مسلم في صحيحه؛ فلا يُمكن جعل طعام السحور للصائم أفضل من تفطيره؛ إذ هذا تحكّم عقلي أكثر من كونه دليل شرعي.
4. أنّ المنقول عن سلفنا الصالح في مرويات تفطيرهم للصائمين بل إيثارهم طعام فطورهم لغيرهم وهم صيام
ويعوزك البحث عن تسحيرهم؛ وهم لتحري الفضل أسبق، ولو قارنّا رغبتنا ورغبتهم بالأجرلوجدناهم أوثق وألصق.
لهذا قد قال بعض السلف: لأن أدعو عشرة من أصحابي فأطعمهم طعاماً يشتهونه أحب إلي من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل.
وكان كثير من السلف يؤثر بفطوره وهو صائم، منهم عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - وداود الطائي ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل، وكان ابن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين.
وكان من السلف من يطعم إخوانه الطعام وهو صائم ويجلس يخدمهم، منهم الحسن وابن المبارك.
وقال أبو السوار العدوي: كان رجال من بني عدي يصلون في هذا المسجد ما أفطر أحد منهم على طعام قط وحده،إن وجد من يأكل معه أكل و إلا أخرج طعامه إلى المسجد فأكله مع الناس وأكل الناس معه.
5. تفطير الصائمين استحبه جماهير الفقهاء حتى قال النووي في المجموع: " وَيُفَطِّرَهُ فِي وَقْتِ الْفِطْرِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِهِ لِلْحَدِيثِ... وساقه.. ".
6. النص المذكور في تسحره صلى الله عليه وسلم مع الصحابة حكاية حال؛ لا يستقى منها تفضيل هذا الحال على غيره؛ فضلاً عن كونه لا يوجد حديث ينص على أن تسحير الصائم افضل من تفطيره.
7. طبيعة الأجرِ من حيث تفطير الصائم؛ الله تعالى أعلم به؛ هذا إذا قلنا بضعف حديث: (كان له مثل أجره)؛ لأنّه في هذه الحالة يكون الله وحده أعلم بمقدار الأجر؛ غير أن هذا لا يلزم منه تفضيل السحور على الفطور؛ لأن التفضيل يحتاج لنص واضح؛ وليس ثمّة تفضيل واضح لطعام السحور على الفطور.
8. لو عدنا للأصل فإن تفطير الصائم الجائع أحرى بالفضل من تسحيره؛ ففرق بين كون المرء يشعر بالجوع والرغبة في الطعام؛ ومن كان يريد الطعام للاستعانة على الطعام، ولهذا قال تعالى: (فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة) والمراد به الإطعام في يوم يكون فيه المرء محتاجاً للطعام والشراب مع شدّة عطشه وجوعه؛ فكيف إذا كان يوم حارٌ قارٌ؟!
وإذا كان قد ورد في الصحيحين أن الله غفر لرجل وأدخله الجنة في سقيا كلب عطشان.
وعند مسلم في صحيحه أن الله غفر لبغي في سقيا كلب عطشان.
فكيف والحال من صائم أثناء تفطيره بفرحته للطعام ولهفه له اكثر من المتسحر؛ لهذا جاء الحديث الصحيح عند مسلم وغيره: (للصائم فرحتان: فرحة عند فطره)، والفرح هذا من فضله تعالى ورحمته بعباده؛ إذ أنّه حينما منعهم وحرمهم أعطاهم وأباح لهم.
9. قولهم أنّ السحور يتقوى به على طاعة الصيام؛ فالشيء نفسه يُقال في حق الفطورإذ يُتقوّى به على الطاعة من أداء الفرائض كصلاة المغرب والعشاء؛ وقيام ليل رمضان الذي يكون بسبب مغفرة الذنوب؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه).
10. الملاحظ أن الفطر للصائم متعلقة به أشياء يؤجر عليها وهي من ذيول صومه كصدقة الفطر وعيد الفطر؛ بخلاف بدايات الصيام؛ ولهذا وجدنا فضل أواخر رمضان أفضل من بداياته؛ فجمال العمل وكماله بخواتمه ونهاياته إذ يكتمل للعبد به الأجر لا في بداياته...
هذا والله تعالى أعلم وأحكم،،
مختارات