المقدم المؤخر سبحانه ج1
لحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فكان آخر ما تطرّقنا إليه في شرح أسماء الله الحُسنى معاني الاسمين الكريمين (الحكيم)، و(الحَكَم)، وذكرنا أهمّ الثّمرات الّتي يجنيها المسلم من الإيمان بهما، وعقد القلب عليهما.
ومن المعاني الّتي تدلّ على حكمة الله عزّ وجلّ اسمان عظيمان من أسمائه، ألا وهما: المقدّم، والمؤخّر.
فما الأدّلة على ثبوتهما؟ وما معاني كلّ منهما؟ وكيف يتعبّد العبد ربّه سبحانه بهذين الاسمين الكريمين؟
22-المقدّم 23-المؤخّر.
1- الأدلّة على ثبوت هذا الاسم:
ممّن أثبت هذين الاسمين الإمام التّرمذيّ، وابن حبّان، وابن خزيمة، والطّبرانيّ، والبيهقيّ، والخطّابي، والحليميّ، والبيهقيّ، وابن حزم، وابن العربيّ، والقرطبيّ، وابن القيّم، وابن عثيمين رحمهم الله أجمعين.
وممّن لم يذكره ابن منده، والأصبهانيّ، وابن الوزير، وابن حجر، والسّعديّ رحمهم الله.
والأدلّة على أنّهما من أسماء الله الحُسنى ما يلي:
- ما رواه البخاري ومسلم عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه قال: كَانَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ:
(اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ..حتّى قال: اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَوْ لَا إِلَهَ غَيْرُكَ).
- ما رواه البخاري ومسلم عن أبي موسَى رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: (رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي، وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَايَ وَعَمْدِي، وَجَهْلِي وَهَزْلِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
- ما رواه الترمذي وغيره عن علِيِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالسَّلَامِ:
(اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ).
قال ابن القيّم رحمه الله في " النّونيّة " (2/109):
وهو المقدِّم والمؤخِّر، ذانِك الـ *** الصّـفتـان للأفعـال تابعتـان
وهما صفات الذّات أيضا إذ هما *** بالذّات لا بالغـيـر قائـمتـان
قال الشّيخ محمّد خليل هرّاس: في " شرحه ":
" والتّقديم والتّأخير صفتان من صفات الأفعال التّابعة لمشيئته تعالى وحكمته، وهما أيضا صفتان للذّات، إذ قيامهما بالذّات لا بغيرها، وهكذا كلّ صفات الأفعال هي من هذا الوجه صفات ذات، حيث إنّ الذّات متّصفة بها، ومن حيث تعلّقها بما ينشأ عنها من الأقوال والأفعال تسمّى صفات أفعال " اهـ.
2- معنى الاسمـين الكريمـين لغة:
أ) المعنى اللّغويّ: ملخّص ما جاء في " صحاح الجوهريّ " و " لسان العرب " و " المفردات " (397) ما يلي:
* أمّا (المقدِّم) فمأخوذ من: قدَم - بفتح الدّال - يقدُم قَدْما، أي: تقدّم، قال الله تعالى عن فرعون:{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98]، ومنه " القَدَم " والجمع أَقدام لأنّ بها يتمّ التقدّم والتأخّر، وتطلق " القدم " على السّابقة في الأمور، كما قال تعالى:{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: من الآية2]، واسم المقدِّم مأخوذ من قَدَّمَ يقدِّم تقديما.
أمّا قدُم الشّيء - بضمّ الدّال - قِدَما فهو قديم، ومثله تقادم.
وأمّا قدِم - بكسر الدّال - أي: أتى وجاء، قال تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].
* وأمّا (المؤخّر)، فهو من أخّر يؤخِّر، وهو ضدّ قدّم، وتأخّر واستأخر بمعنى واحد وهو أنّه جاء آخرا وأخيرا.
ويقال آخرة الشّيء ومؤْخِرتُه ومؤخَّرَة.
وإنّه يجرِي خلْطٌ كبير على ألسنة النّاس بين هذه الألفاظ، فتراهم يضعون هذا موضع ذاك.
3- معنى الاسمين في حقّ الله عزّ وجلّ:
قال الحليميّ في " المنهاج " (207-208): " (المقدّم) هو المُعطِي لعوالي الرُّتب،..و(المؤخّر): هو الدّافع عن عوالي الرّتب ".
وقال ابن الأثير في " النّهاية " (4/25): " في أسماء الله تعالى (المقدّم): هو الّذي يقدِّم الأشياء ويضعها مواضعها، فمن استحقّ التّقديم قدّمه ". وقال في (1/29): " و(المؤخّر) هو الّذي يؤخِّر الأشياء فيضعها مواضعها، وهو ضدّ (المقدّم) ".
وقال الخطّابي رحمه الله: " (المقدِّم) هو المنزِّل للأشياء منازلها، يقدّم ما شاء منها، ويؤخّر ما شاء:
قدّم المقادير قبل أن يخلق الخلق، وقدّم من أحبّ من أوليائه على غيرهم من عبيده، ورفع الخلق فوق بعض درجات، وقدّم من شاء بالتّوفيق إلى مقامات السّابقين، وأخّر من شاء عن مراتبهم وثبّطهم عنها، لا مقدّم لما أخّر، ولا مؤخّر لما قدّم ". [ " الأسماء والصّفات " (86)، و " الاعتقاد " (63) للبيهقيّ].
واعلم أنّ التّقديم والتّأخير كلّ منهما نوعان:
* النّوع الأوّل: تقديم وتأخير كونيّان، كتقديم بعض المخلوقات على بعض في الخلق، وتأخير بعضها على بعض، وتقديم الأسباب على مسبّبتها، وهذا لا يمكن حصره.
* النّوع الثّاني: تقديم وتأخير شرعيّان: كتفضيل الله تعالى جنسا على جنس، ومكان على مكان، وزمان على غيره، وقد بيّن ذلك الشّيخ السّعدي رحمه الله في " الحقّ الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين " (ص100).
4- حكم إفراد أحدهما عن الآخر.
يكره التّفريق بين هذين الاسمين، فهما من الأسماء المتقابلة، أي: الّتي لا يذكر أحدها دون الآخر، كالمعزّ والمذلّ، والخافض والرّافع، والمانع والمعطي، فإنّ الكمال من اجتماعهما.
قال القرطبيّ بعد أن ذكر حديث ابن عبّاس رضي الله عنه السّابق في دعائه صلّى الله عليه وسلّم في تهحّده في " الكتاب الأسنى ":
" خرّجه الأئمّة، وأجمعت عليهما الأمّة، ولا يجوز الدّعاء بأحدهما دون الآخر، قاله الحليميّ ".
وقد ذكر البيهقيّ في " الأسماء والصّفات " (86) عن الخطّابي قوله: " والجمع بين هذين الاسمين أحسن من التّفرقة ".
وللإيمان بهذين الاسمين الكريمين ثمراتٌ نافعة، وآثارٌ ناجعة، نراها إن شاء الله عزّ وجلّ.
مختارات