أفكار في المتحف !
بسم الله الرحمن الرحيم
من العادات الكتابية التي التزمتها ووجدت ثمرتها ترك التصريح بالأسماء فإن تأسيس الفكرة إذا جاء خاليا من إسقاطها على حالات عارِضَة كان ذلك أطولَ لحياتها، وهذا في الغالب ولا يلزم اطراده، لكني سأعدل هذه المرة عن هذه العادة الكتابية الدارجة، وسأذكر في هذا التعليق العابر بعض الأسماء لأنه لا تتم الفكرة هنا إلا بذلك، لكني لست معنيا هنا بالرد على من سأذكرهم، وإنما المراد عرض عيِّنة من الواقع الثقافي لتكون مجرَّدَ وسيلةَ إيضاح للفكرة التي أريد لفت انتباه القارئ إليها في آخر التعليق ..
وقعت عيني قبل البارحة على تدوينةٍ قصيرةٍ أعاد نشرها أحد الأصدقاء الذين أتابعهم، والتدوينة من كتابة الأستاذ نواف القديمي، وعلى بساطة الفكرة التي كتبها الأستاذ نواف إلا أني لم أستطع تجاوزها، بل حتى بعد انهماكي بأشغال أخرى ظلت تحوم حول رأسي لسبب سأذكره بعد أن أشرح فكرة التدوينة، فكرتها الإجابة على سؤال محدد طرحه القديمي على نفسِهِ في مطلع التدوينة، ثم أجاب عنه، والسؤال كالتالي:
(الشعوب لا تُقهر، والأمة تضعف ولكنها لا تموت، ولا يمكن طمس إرادة الأغلبية مهما بلغ العدوان، ورغم الانكسارات إلا أنها موجات عابرة ولابد للحق أن ينتصر، والتاريخ شهد حِقب احتلال وطغيان وإبادات ولكنها زالت وانتصرت الشعوب. هل هذا الكلام - الذي نسمعه كثيراً - صحيح؟).
ثم بدأ القديمي يجيب على هذا السؤال الذي طرحه مُبيِّنا بكل وضوح أن الشعوب تُقهر، وأن الأمة تموت، وأن الأغلبية يمكن طمس إرادتها.
بل أشار القديمي إلى أن ذلك هو الأصل المطرد حسب القانون التاريخي.
ثم بدأ القديمي يذكر قصص إبادات الأمم وكسر إرادات الشعوب ومصادرة أصوات أغلبيتها بدءًا بإرغام الأمبراطور الروماني أهلَ أوروبا على الانتقال إلى المسيحية، مرورا بإبادات الشعوب الحمر في أمريكا، وانتهاءً بالتهجير العرقي في أفريقيا، وقرونا بين ذلك كثيرا، وقد ساقها الكاتب في سبيل توكيد حقيقةٍ واحدة هي أن الأمة تموت، والشعب يُقهر، والأغلبية يمكن طمس إرادتها عن طريق العدوان والبغي.
ثم ينبه القديمي القارئَ إلى أن هناك شعوبًا انتصرت، لكنها استثناء وخلاف الأصل، وقال:
(هذا الكلام لا يعني بالطبع أنه ليس هناك شعوب قاومت وصبرت وانتصرت، ولكن بالمقابل هناك شعوب أبيدت وهُجِّرت وتم إحلال شعوب وأديان وثقافات أخرى مكانها..).
ثم انتقل القديمي في آخر التدوينة إلى الذروة البيانية في سبيل توكيد فكرته وعدم قابليتها أساسا للأخذ والرد، فقال:
(التعويل على شعارات " أن الحق سينتصر وأن العاقبة للشعوب " لا تعدو أن تكون جرعة مورفين مخدرة..).
حينما قرأت فكرة القديمي هذه، قلت في نفسي:
ربما أجد من بعض المعلِّقين على تدوينته من يرفض فكرتها وينقضها من قواعدها، فهذه الفكرة كانت إلى سنواتٍ قريبة يصنفها العقل الجمعي الذي نشأ وترعرع في كنف أحضان الربيع العربي خيانةً ثقافية، وفي أحسن حالاته يصنفها فكرة جارحة تبث روح الإحباط والفتور ولا يحسن عرضها بهذه الصراحة الحادَّة، فوجدتّ أن كل من علَّق عليها سواء كان في الفيسبوك أو تويتر كان مؤيدا تماما للتدوينة، وأن عدد (رتويت) المقالة كان عاليا نسبيا! أي أن التدوينة تُلقيَت بالقبول من المتابعين.
هنا قفزت ذاكرتي إلى الوراء مِن تلقاء نفسِها وتحديدا إلى شهر رمضان المبارك عام 1433هـ، ودَلَفَ ذهني إلى داخل استوديو قناة دليل، ففي ذلك المكان جَرَتْ مناظرة فكرية بين الدكتور بندر الشويقي والأستاذ عبدالله المالكي حول سيادة الأمة وحاكمية الشريعة كانت مدتها ثلاث ساعات تقريبا في ثلاث ليال.
الشاهد من هذا الاستدعاء الذهني لتلك المناظرة القديمة هو أن الدكتور بندر الشويقي في أثنائها جرت على لسانه هذه العبارة:
(الأمة.. وإرادة الأمة خرافة!).
وذكر أن مقصوده من ذلك أنه لا يوجد في الحقيقة ما يسمى إرادة أمة، وإنما هي إرادات!
ولا يتصل بحديثنا الآن في هذه العجالة ما قصده الدكتور الشويقي من عبارته، وإنما يعنينا ما فهمه منها الأستاذ المالكي الذي أزعجته العبارة جدا، وانتفض ورفع صوته، وقال -وهو يلوِّحُ بيدهِ غاضبا-:
(أمة أسقطت أنظمة يا شيخ بندر! خرافة؟! أمة أسقطت القذافي! وأسقطت حسني مبارك! خرافة؟! يارباه!...الخ ).
فَهِمَ المالكي أن الشويقي يشكك في قدرة الأمة على إزالة العروش الدكتاتورية واحدا تلو الآخر عن طريق المعارضة السِّلْميَّة في الميادين، فجاءت غضبَته مضريَّة تعيد الاعتبار للأمة وإرادة الشعب الذَين أهانهما الشويقي بهذه العبارة.
وفي تلك الليلة حفلت شبكة التواصل بِبَعضِ التعليقات التي رأت أن عبارة الشويقي في أحسن حالاتها جارحة، بل اعتبرها حتى بعضُ المعلقين الذين يتفقون مع مرجعية د.بندر عبارةً خاطئة، وكان المفترض منه أن لا يذكرها بهذه القسوة والصرامة والوضوح.
اللافت للانتباه أنه بين العبارة الأولى: (إرادة الأمة خرافة) التي تلقيت بالنكير داخل المناظرة ومن بعض المعلقين في الشبكة، والعبارة الثانية: (الشعوب تُقهر، والأمة تموت، ويمكن طمس إرادة الأغلبية عن طريق العدوان وأن الأصل هو ذلك تاريخيا..) التي تلقيَتْ بالقبول التام مسافةٌ زمنية قصيرة جدا، قريبا من أربع سنوات.
سرحت أتأمل مليًّا ما ذا لو كان أحدهم نشر تدوينة القديمي الجديدة هذه وبهذا المستوى من الوضوح في عام (2012م)؟
في تقديري الشخصي أنه سيوصم بأنه كاتب متآمر (أو جاهل في أحسن الأحوال) يسترخي بأمان في معطف السلطة.
بغض النظر عن موقفي الشخصي من تصويب إحدى العبارتَين إذ ليس هذا مراد التعليق البتَّه، وليس مرادي -والله يشهد- تجريح الأسماء المذكورة، وإنما يعنيني هنا عرضُ المفارقات الحادَّة وإبرازها للقارئ، وبيان مزاجية العقل الجمعي في القبول والرفض للأفكار.
لفت انتباهي كثيرا أثر الظروف المحيطة في تمرير المقولات أو ردِّها، وأثارت دهشتي وطأة العقل الجمعي وكثرة تحولاته اللامرئية، ورأيت بأمِّ عيني –من خلال هذا الموقف فحسب- كيف ترضخ الذهنية العامَّة للظروف الطارئة وتقلباتها السريعة أكثر من إذعانها لطبائع الأشياء وسنَنِها التاريخية، وأيقنت أن الانسياق وراء الجموع وهيبة مخالفتها والتعويل التام على الموجات الفكرية دون وعي تام وبصر نافذ يراعي السنن والظروف والأوضاع الدولية والقوى الصُّلبة يوقع في كوارث فكرية هائلة.
ثم خَطَرَتْ ببالي مواقف شخصياتٍ كثيرة يحسبها ضعيفُ الذاكرة جامدةً وهي تمرُّ مرَّ السحاب من كثرة التلوّن والتحوّل والتشكّل.
كان كثير من هؤلاء يعوِّلون على الصُّدورِ العارية في ميادين التحرير ويزعم بعضهم أن الأمة انتقلت انتقالا تاريخيا من مرحلة المقاومة المسلحة القاعدية إلى الثورة الأممية السلمية التي ستلبي رغبات الشعوب المقهورة، فكتب القديمي على سبيل المثال عام 2012م: (لعل أبرز ما قامت به الثورات العربية على المستوى الفكري هو أنها أنهت عقد بن لادن، ودشنت عقد البوعزيزي) ثم تبين أن هذا التحليل بعيد كلَّ البُعد عن مجريات الواقع الذي امتلأ بِبرَك الدماء.
وكان بعض هؤلاء يستخف ويستطيل على السلف في مسألة التغلب وحينما أراد العسكر المصري إزاحة الرئيس المرشح، كتب ما فحواه أن هذا الانقلاب على الرئيس المرشح يتعارض مع مفهوم الديمقراطية وإرادة الناس ولكن المصلحة أن يذعن الرئيس حفظا للدماء والمكتسبات. ولا يدري أن رأيه هذا ينتظم في سلك الرأي الذي استخف به وسخر منه، بل قول السلف أشرف لأنه مبني على مراعاة مصلحة الناس فحسب.
وفي نظري الشخصي أن ذروة الهياج الفكري التي وصلته تلك المجموعة وسببت انشطارا ذهنيا لدى العاملين للدِّين هي الاستخفاف بكل طرق وميادين الإصلاح غير الطريق السياسي السلمي، وتهميش كل مظاهر العمل الأخرى التي لا يعملون على صعيدها، بل اعتبارها إلهائيَّة تخديريَّة عن المجال الأهم والأكبر، فاعتُبرت –على سبيل المثال- جميع قضايا (التغريب) الثقافي والاجتماعي مسائل هامشية لا يستحق المنهمك في مدافعتها غير اللمز والتسذيج، ولا يعنيني أيضا –في هذا التعليق العابر- مناقشة هذه الفكرة، إنما يعنيني ويثير حفيظتي أن كثيرا من هؤلاء اللامزين انتقلوا لاحقا إلى المطالبة بمكاسب إصلاحية وقتية ليست متعلقة متعلقة البتَّه بالإصلاح السياسي!
يثير استغرابي فحسب أن ينتقل أحدهم من فكرة عبدَها إلى فكرةٍ لعَنَها دون أن تعلو وجنتي مقالاتِه حُمرة الخجل!
هناك من يقرأ التاريخ القديم للاعتبار واستلهام الدروس، وهذا حسن لكن يخيل إليَّ أحيانا أن التاريخ جَـــثَا على ركبتيه خلال السنوات الخمس الماضية وحشد لنا في مدة وجيزة أحداث قرون طويلة، فمن المستحسن منَّا أن نرخي أسماعنا لنفهم منه ونعي كلماته، وعلينا أن ننتبه إلى أن كثيرا من الأفكار قد تكون صحيحة في نفسها وإن لفظتها الجماهير الصاخبة، وذلك لأن هذه الجماهير طالما صفقت بكلتا يَدَيها لفكرةٍ لعنتها بالأمس القريب!
ليس عيبا -بطبيعة الحال- أن تخطئ في تقدير مآلات أحوالٍ بالغةِ التعقيد، فكلنا نقع أحيانا وبنسبٍ متفاوتة في مثل هذه المواقف، إنما المراد التبيين للذين كانوا يقرؤون هذه التحليلات بوصفها دراسات علمية في غاية الدقة ومبنية على معطيات غزيرة أنها في كثير من الأحيان انطباعية صرفة خاضعة لظروفٍ عابرة، وأن المقولات والأفكار والشعارات التي صعدت إلى السطح بواسطة موجة عابرة وظرف استثنائي، ستلقيها موجة عابرة أخرى وظرف استثنائي آخر، وفي الغالب سيقفز مَن صعد على تلك الموجة القديمة إلى الموجة الجديدة، وستصبح الأفكار الأولى ملقاةً في المتحف، فإن الواقع بطبعه شديد الوضوح لا يتغير طبقا لفلسفات الناس وأفكارهم وشعاراتهم ورغباتهم، وإنما من عادة الناس المسارعة إلى إبراز مقولات جديدة تناسب كل ظرف جديد وتلائمه!
مختارات