الحج والقتال
إن الإسلام بناء كبير متشعب فيه لفيف من الأحكام وحِزم من التشريعات التي تنظم الحياة من الشئون الأسرية حتى العلاقات الدولية وهذا البناء له جملة من الأركان.(بني الإسلام على خمس:شهادةِ أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان).
والحق أن الإنسان قد يعجب من وجود الحج في أركان الإسلام..فالصلاة مثلا نؤديها جميعا بشكل دوري منتظم وكذا الزكاة والصيام أما الحج فقد يتساءل المرء كيف يكون ركناً والملايين من أبناء الأمة قد لا يؤدونه بل قد يسقط عنهم بالكلية؟
والحق أن هذا العجب يزول بالكلية حين يتأمل الإنسان في هذا الركن الضخم الذي اهتم بفرضيته القرآن وذكره في غير ما موضع بل وهناك سورة فيه تسمى بسورة الحج.
يقول تبارك وتعالى:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}[الحج:27،28] فالحج إذاً فيه جملة من المنافع وليس منفعة واحدة.
ومن هذه المنافع:تدريب الأمة على التضحية والبذل
نعم إن الحج ينفخ روح التضحية في نفوس أبناء الأمة ويُنمّي ويؤجج مشاعر التضحية والحياة من أجل الرسالة في صدور أفرادها.
إن من يتأمل في آيات الحج في القرآن يجد أمرا عجيبا ألا وهو الجمع بين آيات الحج والقتال
ففي سورة البقرة يقول تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}[البقرة:189]وقد يتوقع الإنسان أن يمضي السياق في الكلام عن الحج ولكن السياق يتحول للحديث عن القتال:{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[البقرة:190]وتمضي الآيات للحديث عن القتال وعن الجهاد البدني ثم ينعطف السياق للحديث عن الجهاد المالي:{ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة:195] وبعد ذلك يعود السياق للحج مرة أخرى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}[البقرة:196]
وفي سورة الحج نلاحظ أيضا أن الآيات بعدما علّقت على أمر الحج تحولت للحديث عن القتال أيضا:{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحج:39،40]
إن الربط بين آيات الحج والقتال يَشي بأن الحج ما هو إلا تدريب على القتال.. نعم ولا تعجب فالحاج لكي يؤدي هذا الركن فإنه يضحي بماله وبوقته وينسلخ عن عُشرائه وأحبابه ويبتعد عن داره ووطنه ويرحل لمكان بعيد قد لا يعود منه مرة ثانية ويتعرض لجملة من المشقات والمتاعب ويترك حياة الراحة ليفترش الأرض ويلتحف السماء… وهذه الأمور كلها هي عين القتال والقتال لا يكون إلا بها… فلا بد في القتال من تضحية مالية وبدنية ومن مشقات واغتراب فكأن الحج فعلا تدريب على القتال..إنه حضّانة لولادة الفرد المجاهد.
إن الإنسان قد ينشغل بهمومه ويحيا في نطاق أسرته وينسى أن هناك دينا يجب أن ينُصر وعقيدة يجب أن تُنشر ووحْي يجب أن يصان ومبادئ يجب أن تحرس فيأتي الحج ليذكر الإنسان بالتضحية وبالحياة من أجل الرسالة. فالمرء لكي يذهب لأداء هذه الفريضة يضحي بالكثير فكأنه يُدرَّب على أهمية التضحية لدينه وأنه حين يعود يجب أن يواصل التضحية ويستأنف الجهود من أجل إقامة بقية الأركان.
حقا إن الإنسان يخجل من نفسه حين يرى وفود الحجيج في كل عام ويسائل نفسه…هؤلاء قوم ضحوا وبذلوا تعبوا وتعرّقوا من أجل إقامة شعائر الله {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}[الحج:32] وأنا ماذا فعلت؟.. ماذا قدمت؟ وما هي التضحية التي قمت بها من أجل إقامة شعائر الله؟!
إن الدين لا ينتصر والمبادئ لا تنتشر والرسالة لا تَنْداح لها دائرة ولا يتسع لها قطر إلا بجهود وتضحيات والأوائل لولا أنهم كافحوا وناضلوا وجادوا بالغالي والثمين وبذلوا النفس بالنفيس لما أقاموا للإسلام دولة مرهوبة الجانب عظيمة السلطان..دولة امتدت من تخوم الصين شرقا إلى جنوب فرنسا غربا ومن سيبريا شمالا إلى مجاهل إفريقيا جنوبا.
يقول تبارك وتعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحجرات:15] والناس في هذا الزمان قد يهتمون بالجانب الأول فقط ضاربين صفحا عن أن التضحية بالمال والنفس والعمل من أجل نصرة الرسالة وتثبيت دعائم قيم الوحْي هو شارة هذا الإيمان ومن المؤسف أن الأمة التي كانت على امتداد التاريخ أمة جبانة والتي رفضت أن تدفع تكاليف الحياة الكريمة وضرائب العزة وقالت لنبيها:{ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }[المائدة:24] هذه الأمة يضحي أفرادها الآن ويعملون بجد بينما الأمة التي قال سلفها لنبيهم:لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك.هذه الأمة الآن تلتصق بالتراب وتخلد إلى الراحة وتميل إلى الدّعة ولا تقدم لعقيدتها ودينها إلا القليل!
إن الأمة الإسلامية أمة محارَبة:{ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}[البقرة:217]ومكلَّفة بنشر الرسالة الخاتمة إلى أقصى حد وأبعد مدى وعلى عاتقها تعريف الناس بالوحي في مختلف الأصقاع والبقاع فيجب إذًا أن تبقى مشاعر التضحية مؤججة في صدور أبنائها ولذا كان الحج ركنا عظيما يأتينا في كل عام ليذكرنا بهذه المعاني وليستجيش عاطفة التضحية ومعاني الحياة من أجل الرسالة في نفوس الحجيج والأمة وليعود بنا جميعا إلى سيرة النبي الإمام الذي ضحى بالكثير من أجل الرسالة وإلى سيرة النبي وسير الصحابة…إنه يعود بنا ليذكرنا بسير الرجال الذين عاشوا خُدَّامًا للدين وسدنة للوحي وحرّاسا لقيم الرسالة عسانا نتأسى ونقتدي! {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة:88،89]
والسؤال الآن لك ….ما هي تضحياتك وماهي جهودك من أجل خدمة دينك؟
مختارات