تواضعه صلى الله عليه وسلّم
قشعريرة باردة تلك التي سرت في جسد الرجل.. قشعريرة رهبة سرعان ما انتقلت إلى قلبه الذي كان ينتفض بشدة بين أضلاع ترتعِد مع فرائصه وترتعش معهم أطرافه وهو يقف انتظارًا لتلك اللحظة المهيبة.. الآن سيخرج إليه.. سينظر إليه ويُكلِّمه.. ليت شعري كيف السبيل إلى تحمُّل ذلك؟ كيف ستطيق عيناه تأمُّل وجهه المنير وبأي نفسية سيُواجه مثل هذا الموقف العظيم؟ سيقف بعد لحظات بين يدي سيد ولد آدم أجمعين.. سيقف بين يدي قائد الأمة وإمام المتقين وقُرّة عين المؤمنين.. سيقف بين يدي حامل لواء الحمد يوم يقوم الناس لربّ العالمين.. إنه رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.. كيف إذًا لا يرتعِد قلبه ولا تهتز فرائصه لهول اللقاء المهيب وهو الرجل البسيط الذي لم يقف من قبل بين يدي ملك ولا عظيم؟! حُقَّ له ذلك.. بل أكثر.. «هوِّن عليك فلستُ بملك؛ إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة».. نزلت تلك الكلمات كالبرد سِلمًا وأمانًا على قلب الرجل المسكين.. يا لتواضعك وعذب حديثك وطيب معشرك يا إمام النبيين! يا لبساطة أسلوبك وعدم تكلُّفِك ولين جنابك وخفض جناحك للمؤمنين! لستَ بملك ممن نعرفهم من ملوك الدنيا.. لا تأبه بسلطانهم ولا تطمع في صولجانهم ولا ترضى أن تعامل مثلهم وحق لك أن تعامل أفضل مما يعامل ملء الأرض من مثلهم.. لكنه الخُلق العظيم والتواضع المبين وخفض الجناح للمؤمنين.. هكذا تُعلِنها بكل تواضع وتتذكر بساطة نشأتك وبغير تكلُّف تُبيِّن بساطة طعام أُمّك.. ولو شئت لسارت معك جبال الذهب والفضة؛ لكنك تُعلِنها دومًا كما أعلنتها لذاك الملك الذي جاءك وإن حُجْزَتَهُ لتستوي بالكعبة يُخيِّرك بين أن تكون نبيًا عبدًا أو نبيًا ملكًا فاخترت ونعم الاختيار.. «بل نبيًا عبدًا».. «بل نبيًا عبدًا».. اخترت التواضع يا محمد.. اخترت أن تأكل كما يأكل العبد وتجلس كما يجلس العبد وتقول: «إنما أنا عبد..» اخترت أن تكون في بيتك في مهنة أهلك ترقع ثوبك وتخصف نعلك وتحلب شاتك، ولا يقف على بابك حارس ولا حاجب ولا تعيش في ملك ولا صولجان كما يفعل ملوك الدنيا.. بل تركب بغلتك وتحج على رحلك الرث وتفترش حصيرًا خشنًا يؤثر في جنبك.. تترك زخرف العيش وبهرجه وترضى أن يكون لهم في الأولى وتكتفي أنت بالأخرى.. أبيت دومًا أن يقوم لك أحد، وحرصت أن تجلس حيث انتهى بك المجلس.. حتى أن الأعرابي من هؤلاء كان يأتيك بين أصحابك لا يعرفك فيقول: " أيُّكم محمد؟ ".. كنت دومًا مثالًا للتواضع وخفض الجناح وعدم التكلُّف.. ما تركت يد أحد سلَّم عليك حتى يكون هو نازعها أولًا، وما نحيت رأسك عن أحد تيمّم أذنك يحادثك في أمر أهمَّه حتى يفرغ وما صعَّرت يومًا خدك لصغير ولا كبير.. تأتيك الصغيرة لبعض شأنها فتذهب معها وإلى جوارك رجل من عظماء العرب ظن أنه ملك يمشى إلى جوار ملك؛ فإذا به يقف مشدوهًا لفعلك حين تتركه وتذهب مع الجارية لتشفع لها عند سيدها الذي ضربها.. وها أنت يا حبيبي وسيدي تمشي في الأسواق فتمزح مع هذا وتبسط وجهك في وجه ذاك وتلين لأولئك.. وهل ننسى أبدًا حين اشتملت زاهر بن حرام رضي الله عنه مازِحًا وقائلًا: «من يشتري العبد؟» فيرد بانكسار: " إذا تجدني كاسِدًا "، فتجبر خاطره وتطمئن فؤاده قائلًا: «ولكنك عند الله لست بكاسِد».. لو شئت لكنت أغنى الناس وأعلاهم مُلكًا وأرفعهم مجلسًا ومع ذلك تجيب دعوة خادمك أنس رضي الله عنه لتطعم من طعامه البسيط في بيت جدته مليكة رضي الله عنها، ثم تقوم لتصلي بهم على حصير بالٍ قد اسود لونه من كثرة الافتراش.. لم تقبل يومًا أن تُطرى أو يغلو فيك الخلق ويرفعوك فوق منزلة المخلوق، وكنت تقول بأبي أنت وأمي: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم عليه السلام» (رواه البخاري).. وحين جاءك الرجل يناديك: يا خير البرية؛ نهيته بتواضعٍ لو وزع على أهل الأرض لوسعهم قائلًا: «ذاك أبي إبراهيم عليه السلام» وكذا تنهى الأمة أن يخرج منها من يقول يومًا " أنا خير من يونس بن متى ". وحينما اضطررت أن تُبيِّن للناس أنك سيد ولد آدم من باب الاخبار بحقيقة ثابتة حرصت على أن تقرنها بقولك المحكم: «ولا فخر».. ويوم تدخل مكة فاتِحًا منتصرًا عزيزًا كريما تأبى أن تدخلها على حال القادة المنتصرين المستعلين بل تحني جبهتك منكسِرًا لربك حتى يكاد عثنونك أن يمسّ مقدِّمة رحلك الرث.. كانت تلك حياتك وذاك تواضعك ولين جانبك فما بال كثير من أتباعك اليوم قد غيَّروا وبدَّلوا؟ ما بال بعضنا اليوم نسي أو تناسى أن ذلك الذي في السطور الماضية هو هدي حبيبه صلى الله عليه وسلم وقدوته وخلق خير من وطئ الثرى بقدميه؟! ما باله ينسى فينزل نفسه أو غيره فوق المنزلة ويعامل الناس من فوق برجه العاجي بتكلُّف واستعلاء كأنما هو ملك أو أمير؟! إن ما نراه اليوم من مهازل في معاملة بعض من نحسبهم من أهل الفضل يشي بآفةٍ خطيرة تتسرَّب إلى أُمّتنا من حيث لا ندري.. تلك الآفة التي هي ذلة للتابع وفتنة المتبوع والتي ينبغي أن تزول فورًا من بيننا، وأن يسعى أهل الفضل دومًا لنبذها وعدم السماح لأحد أن يعاملهم في إطارها، وأن يتذكَّروا و يُذكِّروا غيرهم دومًا بأن خير الهدي هدي نبينا صلى الله عليه وسلم وأنه كان متواضعًا متبسطًا رفض دومًا أن يتكلَّف أحد في معاملته وأعلنها صريحة قائلًا: «لستُ بملك»!
مختارات