الآفة الخامسة - الاعجاب بالنفس
والآفة الخامسة التي يصاب بها بعض العاملين وعليهم أن يعملوا جاهدين على مداواة أنفسهم وتحريرها بل والاحتراز والتوقي منها: إنما هي الإعجاب بالنفس. ولكي يكون حديثنا عن هذه الآفة واضح الأبعاد محدد المعالم سنجعله يدور على النحو التالي: أولاً: معنى الإعجاب بالنفس: لغة: يطلق الإعجاب بالنفس في اللغة ويراد به: (أ) السرور والاستحسان تقول: أعجبه الأمر: سره وأعجب به: سر به ومنه قوله تعالى: {ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم}. { قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث }. { كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا }. (ب) الزهو أو الإعظام والإكبار تقول: أعجبه الأمر أي زها به وعظم عنده وكبر لديه، ورجل معجب أي مزهر أو معظم ومكبر لما يكون منه حسنا أو قبيحا ومنه قوله تعالى: { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا }. اصطلاحا: أما في اصطلاح الدعاة أو العاملين فإن الإعجاب بالنفس هو: السرور أو الفرح بالنفس وبما يصدر عنها من أقوال أو أعمال من غير تعد أو تجاوز إلى الآخرين من الناس سواء أكانت هذه الأقوال وتلك الأعمال خيراً أو شراً محمودة أو غير محمودة فإن كان هناك تعد أو تجاوز إلى الآخرين من الناس باحتقار واستصغار ما يصدر عنهم فهو الغرور أو شدة الإعجاب وإن كان هناك تعد أو تجاوز إلى الآخرين من الناس باحتقارهم في أشخاصهم وذواتهم والترفع عليهم فهو التكبر أو شدة الإعجاب. ثانياً: أسباب الإعجاب بالنفس للإعجاب بالنفس أسباب تؤدى إليه وبواعث توقع فيه نذكر منها: 1- النشأة الأولى: فقد يكون السبب في الإعجاب بالنفس إنما هي النشأة الأولى. ذلك أن الإنسان قد ينشأ بين أبوين يلمس منهما أو من أحدهما: حب المحمدة ودوام تزكية النفس أن بالحق وإن بالباطل والاستعصاء على النصح والإرشاد ونحو ذلك من مظاهر الإعجاب بالنفس فيحاكيهما وبمرور الزمن يتأثر بهما ويصبح الإعجاب بالنفس جزء من شخصيته إلا من رحم الله. ولعل ذلك السر في تأكيد الإسلام على التزام الأبوين بمنهج الله على النحو الذي قدمنا الآفة الثانية (آفة الإسراف). إذ منهج الله وحده هو الذي يحمى الأبوين من أي انحراف وبذلك يصلحان أن يكونا قدوة للأولاد. 2- الإطراء والمدح في الوجه دون مراعاة للآداب الشرعية المتعلقة بذلك: وقد يكون السبب في الإعجاب بالنفس إنما هو الإطراء والمدح في الوجه دون مراعاة للآداب الشرعية المتعلقة بذلك: ذلك أن هناك فريقا من الناس إذا أطرى أو مدح في وجهة دون تقيد بالآداب الشرعية في هذا الإطراء وذلك المدح اعتراه أو ساوره لجهله بمكائد الشيطان خاطر: أنه ما مدح وما أطرى أي أنه يملك من المواهب ما ليس لغيره وما يزال هذا الخاطر يلاحقه ويلح عليه حتى يصاب والعياذ بالله بالإعجاب بالنفس ولعل ذلك هو السر في ذمه صلى الله عليه وسلم للثناء والمدح في الوجه بل وتأكيده على ضرورة مراعاة الآداب الشرعية إن كان ولابد من ذلك. جاء عن مجاهد عن أبى معمر أنه قال: قام رجل يثنى على الأمير من الأمار فجعل المقداد بن السود في وجهة التراب وقال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثى في وجوه المداحين التراب) وجاء عن عبد الرحمن بن أبى بكر عن أبيه قال: مدح رجل رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ويحك قطعت عنق صاحبك قطعت عنق صاحبك) مرارا (إذا كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل: أحسب فلانا والله حسيبه ولا ـزكى على الله أحدا أحسبه إن كان يعلم ذلك كذا وكذا). 3-صحبة نفر من ذوى الإعجاب بأنفسهم: وقد يكون السبب في الإعجاب بالنفس إنما هي الصحبة والملازمة لنفر من ذوى الإعجاب بأنفسهم ذلك أن الإنسان شديد المحاكاة والتأثر بصاحبه لا سيما إذا كان هذا الصاحب قوى الشخصية ذا خبرة ودارية بالحياة وكان المصحوب غافلا على سجيته يتأثر بكل ما يلقى عليه وعليه فإذا كان الصاحب مصابا بداء الإعجاب فإن عدواه تصل إلى قرينه فيصير مثله ولعل هذا هو السر في تأكيد الإسلام على ضرورة انتقاء واختيار الصاحب لتكون الثمرة طيبة والعواقب حميدة وقد قدمنا طرفا من النصوص الشرعية المتعلقة بذلك أثناء الحديث عن آفة (الفتور). 4- الوقوف عند النعمة ونسيان المنعم: وقد يكون السب في الإعجاب: إنما هو الوقوف عند النعمة ونسيان المنعم: كذلك أن هناك صنفا في العاملين إذا حباه الله نعمة من المال أو علم أو قوة أو جاه أو نحوه وقف عند نعمة ونسى المنعم وتحت تأثير بريق المواهب وسلطانها تحدثه نفسه أنه ما أصابته هذه النعمة إلا لما لديه من ولا يزال هذا الحديث على حد قول قارون: (إنما أوتيته على علم عندي) ولا يزال هذا الحديث يلح عليه حتى يرى أنه بلغ الغابة أو المنتهي ويسر ويفرح بنفسه وبما يصدر عنها ولو كان باطلا وذلك هو الإعجاب بالنفس. ولعل هذا هو السر في تأكيد الإسلام على أن مصدر النعمة أي نعمة إنما هو الله عز وجل: { وما بكم من نعمة فمن الله.....}. { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون }. {ألم ترو أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنه}. {يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم }.بل وعلى أن يناجى المسلم ربه كل صباح ومساء قائلا ثلاث مرات: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر) 5- الصدارة للعمل قبل النضج وكمال التربية: وقد يكون السبب في الإعجاب بالنفس إنما هي الصدارة للعمل قبل النضج وكمال التربية: ذلك أن ظروف العمل الإسلامي قد تفرض أن يتصدر بعض العاملين للعمل قبل أن يستوي عودهم وقبل أن تكتمل شخصيتهم وحينئذ يأتي الشيطان فيلقى في روعهم أنهم ما تصدروا للعمل وما وضعوا في الموقع الذي هم فيه الآن إلا لما يحملون من مؤهلات ما لديهم من مواهب وإمكانات وقد ينطلي عليهم لجهلهم بمكائد الشيطان وحيله مثل هذا الإلقاء فيصورونه حقيقة ويرفعون من قدر نفوسهم فوق ما تستحق حتى يكون الإعجاب بها والعياذ بالله........ ولعل هذا هو السر حرص الإسلام على الفقه فقه وعلى أن يكون هذا الفقه قبل الصدارة أو القيادة إذ يقول الله تعالى:{ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون }. { يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا }. وإذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم -: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين). وإذ يقول عمر رضى الله تعالى عنه -: (تفقهوا قبيل تسودوا) يعنى: تعلموا العلم قبل أن تصيروا سادة أو أصحاب مسئولية لتدركوا ما في السيادة أو ما في المسئولية من آفات فتتقوها. 6- الغفلة أو الجهل بحقيقة النفس: وقد يكون السبب في الإعجاب بالنفس إنما هي الغفلة و الجهل بحقيقة النفس: ذلك أن الإنسان إذا غفل أو جهل حقيقة نفسه، وأنها من ماء مهين خرج من مخرج البول، وأن النقص دائماً طبيعتها وسمتها، وأن مردها أن تلقى في التراب، فتصير جيفة منتنة، تنفر من رائحتها جميع الكائنات، إذا غفل الإنسان أو جهل ذلك كله ربما خطر بباله أنه شئ، ويقوى الشيطان فيه هذا الخاطر حتى يصير معجباً بنفسه. ولعل هذا هو السر في حديث القرآن و السنة المتكرر عن حقيقة النفس الإنسانية بدءاً، ونهاية. إذ يقول الحق سبحانه { الذي أحسن كل شئ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين }، { ألم نخلقكم من ماء مهين }، { ثم أماته فأقبره }. 7- عراقة النسب أو شرف الأصل: وقد يكون السبب في الإعجاب بالنفس إنما هي عراقة النسب، أو شرف الأصل، ذلك أن بعض العاملين قد يكون سليل بيت عريق النسب، أو شريف الأصل، وربما حمله ذلك على استحسان نفسه وما يصدر عنها، ناسياً أو متناسياً أن النسب أو الأصل لا يقدم ولا يؤخر، بل المعول عليه إنما هو العمل المقرون بالجهد و العرق، وهكذا تنتهي به عراقة نسبه أو شرف أصله إلى الإعجاب بنفسه، ولعل ذلك هو سر تأكيد الإسلام على العمل و العمل وحده: إذ يقول الحق سبحانه { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون } { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً * ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً }. وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه { وأنذر عشيرتك الأقربين }، (يا معشر قريش: اشتروا أنفسكم من الله لا أغنى عنكم من الله شيئاً، يا بنى عبد المطلب: لا أغنى عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغنى عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت رسول الله: سليني ما شئت لا أغنى عنك من الله شيئاً) 8- الإفراط أو المبالغة في التوقير والاحترام: وقد يكون السبب في الإعجاب بالنفس، إنما هو الإفراط أو المبالغة في التوقير والاحترام، ذلك أن بعض العاملين قد يحظى من الآخرين بتوقير واحترام فيهما مبالغة أو إفراط يتعارض مع هدى الإسلام، ويأباها شرع الله الحنيف، كدوام الوقوف طالما أنه قائم أو قاعد، وكتقبيل يده والانحناء له و السير خلفه... الخ. وإزاء هذا السلوك قد تحدثه نفسه أنه ما حظي بهذا التوقير والاحترام إلا لأن لديه من المواهب، و الخصائص ما ليس لغيره، ويظل هذا الحديث يقوى ويشتد إلى أن يكون الإعجاب بالنفس - و العياذ بالله - ولعل هذا هو سر نهيه - صلى الله عليه وسلم - أصحابه: أن يقوموا له، وأن يعظموه كما يعظم الأعاجم ملوكهم فيقول: (من أحب أن يتمثل له الناس فليتبوأ مقعده من النار) ويخرج صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه يوماً متوكئاً على عصا فيقومون له فيقول: (لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضاً) 9- الإفراط أو المبالغة في الانقياد، و الطاعة: وقد يكون السبب في الإعجاب بالنفس إنما هو الإفراط أو المبالغة في الانقياد، و الطاعة، ذلك أن بعض العاملين قد يلقى من الآخرين انقياداً وطاعة فيهما إفراط أو مبالغة لا تتفق ومنهج الله، كأن يكون هذا الانقياد وهذه الطاعة في كل شئ سواء كان معروفاً أو منكراً، خيراً أو شراً. وتبعاً لذلك قد تسول له نفسه أنه ما كان الانقياد، وما كانت الطاعة إلا لأنه يملك من الخصائص، و المزايا ما لا يملك غيره، وربما صدق فكان الإعجاب بالنفس. ولعل ذلك هو بعض السر في تأكيد الإسلام على أن يكون الانقياد و الطاعة في المعروف، وليس في المعصية. يقول - صلى الله عليه وسلم -: (على المرء المسلم السمع و الطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) 10- الغفلة عن الآثار المترتبة على الإعجاب بالنفس: وأخيراً قد يكون السبب في الإعجاب بالنفس، إنما هي الغفلة عن الآثار و العواقب، ذلك أن سلوك الإنسان في الحياة غالباً ما يكون نابعاً من إدراكه أو عدم إدراكه لعواقب وآثار هذا السلوك. وعليه فإن العامل أو الداعية إذا لم يدرك العواقب المترتبة على الإعجاب بالنفس فإنه قد يصاب به، ولا يراه إلا أمراً بسيطاً هيناً، لا يحتاج منه أن يقف عنده، أو أن يضيع فيه وقته. ولعل ذلك السر في حرص هذا الدين على عرض مبادئه ومقاصده مقرونة بآثارها وعواقبها. ثالثاً: آثار الإعجاب بالنفس: هذا وللإعجاب بالنفس آثار سيئة، وعواقب وخيمة، سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي، ودونك طرفاً من هذه الآثار، وتلك العواقب: على العاملين: فمن آثاره على العاملين: 1- الوقوع في شراك الغرور بل والتكبر: أي أن الأثر الأول للإعجاب بالنفس، إنما هو الوقوع في شراك الغرور بل والتكبر، ذلك أن المعجب بنفسه كثيراً ما يؤدى به الإعجاب إلى أن يهمل نفسه، ويلغيها من التفتيش و المحاسبة، وبمرور الزمن يستفحل الداء، ويتحول إلى احتقار واستصغار ما يصدر عن الآخرين، وذلك هو الغرور، أو يتحول إلى الترفع عن الآخرين، واحتقارهم في ذواتهم وأشخاصهم وذلك هو التكبر. وللغرور و التكبر آثارهما الخطيرة، وعواقبهما المهلكة التي سنقف عليها بالتفصيل عند الحديث عن هاتين الآفتين إن شاء الله تعالى. 2- الحرمان من التوفيق الإلهي: أي أن الأثر الثاني للإعجاب بالنفس، إنما هو الحرمان من التوفيق الإلهي: ذلك أن المعجب بنفسه كثيراً ما ينتهي به الإعجاب إلى أن يقف عند ذاته، ويعتمد عليها في كل شئ ناسياً أو متناسياً خالقه وصانعه، ومدبر أمره، و المنعم عليه بسائر النعم الظاهرة و الباطنة. ومثل هذا يكون مآله الخذلان، وعدم التوفيق في ظل ما يأتي وفي كل ما يدع، لأن الحق - سبحانه - مضت سنته في خلقه، أنه لا يمنح التوفيق إلا لمن تجردوا من ذواتهم، واستخرجوا منها حظ الشيطان، بل ولجأوا بكليتهم إليه، تبارك اسمه، وتعاظمت آلاؤه، وقضوا حياتهم في طاعته وخدمته، كما قال في كتابه { و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا }. وكما قال في الحديث القدسي: (.... وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه). 3- الانهيار في أوقات المحن و الشدائد: أي أن الأثر الثالث للإعجاب بالنفس، إنما هو الانهيار في أوقات المحن و الشدائد:ذلك أن المعجب بنفسه كثيراً ما يهمل نفسه من التزكية، و التزود بزاد الطريق، ومثل هذا ينهار ويضعف مع أول شدة أو محنة يتعرض لها، لأنه لم يتعرف على الله في الرخاء حتى يعرفه في الشدة، وصدق الله إذ يقول:{ إن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون }، { وإن الله لمع المحسنين }. وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ ينصح عبد الله بن عباس فيقول: (... احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة...) 4- النفور و الكراهية من الآخرين: أي أن الأثر الرابع للإعجاب بالنفس، إنما هو النفور و الكراهية من الآخرين، ذلك أن المعجب بنفسه قد عرَّض نفسه بصنيعه هذا لبغض الله له، ومن ابغضه الله أبغضه أهل السموات، و بالتالي يوضع له البغض في الأرض، فترى الناس ينفرون منه، ويكرهونه ولا يطيقون رؤيته بل ولا سماع صوته جاء في الحديث: (إن الله إذا أحب عبداً، دعا جبريل فقال: إني أحب فلاناً فأحبَّه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادى في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلاناً فأبغضْه، قال فيبغضه جبريل، ثم ينادى في أهل السماء، إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، قال: فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض). 5- العقاب أو الانتقام الإلهي عاجلاً أو آجلاً: أي أن الأثر الخامس للإعجاب بالنفس، إنما هو العقاب أو الانتقام الإلهي عاجلاً أو آجلاً: ذلك أن المعجب بنفسه قد عرَّض نفسه بهذا الخلق إلى العقاب والانتقام الإلهي عاجلاً بأن يخسف به كما كان في الأمم الماضية، أو على الأقل يصاب بالقلق، و التمزق والاضطراب النفسي، كما في هذه الأمة، أو آجلاً بأن يعذب في النار مع المعذبين وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (بينما رجل يمشى في حلة تعجبه نفسه، مرجِّل جمَّته إذ خسف الله به فهو يتجلجل إلى يوم القيامة) على العمل الإسلامي: وأما آثاره على العمل الإسلامي فتدور حول: 1- سهولة اختراقه وبالتالي ضربه، أو على الأقل إجهاضه، فلا يؤتى ثماره إلا بعد تكاليف كثيرة، وزمن طويل، نظراً لانهيار العاملين المعجبين بأنفسهم في أوقات المحن و الشدائد، بل وحرمانهم من خاصية نفاذ البصيرة، تلك التي تساعد على معرفة الأدعياء، وتمييز الدخلاء من غيرهم. 2- توقف أو على الأقل بطء كسب الأنصار والأصدقاء، نظراً لنفور الناس وكراهيتهم للعاملين المعجبين بأنفسهم وهذا فيه ما فيه من طول الطريق وكثرة التكاليف، تلكم هي آثار الإعجاب بالنفس على العاملين، وعلى العمل الإسلامي. رابعاً: مظاهر الإعجاب بالنفس: ويمكن اكتشاف هذا الداء من خلال المظاهر التالية: 1- تزكية النفس: أي أن المظهر الأول للإعجاب بالنفس، إنما هو دوام التزكية للنفس و الثناء عليها، و العرف من قيمتها، مع نسيان أو تناسى قول الله عز وجل { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى }. 2- الاستعصاء على النصيحة: و المظهر الثاني للإعجاب بالنفس، إنما هو الاستعصاء على النصيحة بل و النفور منها، مع أنه لا خير في قوم لا يتناصحون ولا يقبلون النصيحة. 3- الفرح بسماع عيوب الآخرين لاسيما أقرانه: و المظهر الثالث للإعجاب بالنفس إنما هو الفرح بسماع عيوب الآخرين لاسيما أقرانه، حتى قال الفضيل بن عياض - رحمه الله - (إن من علامة المنافق: أن يفرح إذا سمع بعيب أحد من أقرانه) خامساً: الطريق لعلاج الإعجاب بالنفس: وما دمنا قد وقفنا على أسباب وباعث الإعجاب بالنفس، فإن من السهل معرفة طريق علاج واقتلاع هذا الداء، بل الوقاية منه، وتتلخص في: 1- التذكير دائماً بحقيقة النفس الإنسانية، وذلك بأن يفهم المعجب بنفسه أن نفسه التي بين جنبيه لولا ما فيها من النفخة الإلهية ما كانت تساوى شيئاً، فقد خلقت من تراب تدوسه القدام، ثم من ماء مهين يأنف الناظر إليه من رؤيته، وسترد إلى هذا التراب مرة أخرى، فتصير جيفة منتنة، يفر الخلق كلهم من رائحتها، وهي بين البدء والإعادة تحمل في بطنها العذرة أي الفضلات ذات الروائح الكريهة، ولا تستريح ولا تهدأ إلا إذا تخلصت من هذه الفضلات. إذ أن مثل هذا التذكير يساعد كثيراً في ردع النفس، وردها عن غيها، واقتلاع داء الإعجاب منها، بل وحمايتها من التورط فيه مرة أخرى. وقد لفت أحد السلف النظر إلى هذه الوسيلة حين سمع معجباً بنفسه قائلاً: (أتعرف من أنا؟ فرد عليه بقوله: نعم: أعرف من أنت، لقد كنت نطفة قذرة وستصير جيفة قذرة، وأنت بين هذا وذاك تحمل العذرة). 2- التذكير دائما بحقيقة الدنيا والآخرة، وذلك بأن يعرف المعجب بنفسه أن الدنيا مزرعة للآخرة، وأنه مهما طال عمرها فإنها إلى زوال، وأن الآخرة إنما هي الباقية، وأنها هي دار القرار، إذ أن مثل هذا التذكير يحمل الإنسان على أن يعدل من سلكوه، أو يقوم عوج نفسه، قبل أن تنتهي الحياة، وقبل أن تضيع الفرصة، ويفوت الأوان. 3- التذكير بنعم الله التي تغمر الإنسان، وتحيط به من أعلى إلى أدنى كما قال سبحانه { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }، { وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة }، فإن هذا التذكير من شأنه أن يشعر الإنسان بضعفه وفقره، وحاجته إلى الله دائماً، وبالتالي يطهر نفسه من داء الإعجاب، بل ويقيه أن يبتلى به مرة أخرى. 4- التفكر في الموت: وما بعده من منازل، من شدائد وأهوال، فإن ذلك كفيل باقتلاع الإعجاب من النفس، بل وتحصينها ضده، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. 5-دوام الاستماع أو النظر في كتاب الله عز وجل وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن فيهما البيان الشافي، و التحليل الدقيق لكل ما يتصل بالوسائل الأربع المذكورة آنفاً، وبهما يتخلص الإنسان - إن كان موضوعياً وصادقاً مع نفسه - من كل داء. 6-دوام حضور مجالس العلم، لاسيما تلك التي تدور حول علل النفس وطريق الخلاص منها، فإن أمثال هذه المجالس كثيراً ما تعين على تطهير النفس،بل وصيانتها من داء الإعجاب. 7- الإطلاع على أحوال المرضى وأصحاب العاهات بل و الموتى، لاسيما في وقت غسلهم وتكفينهم ودفنهم، ثم زيارة القبور بين الحين و الحين و التفكر في أحوال أهلها ومصيرهم، فإن ذلك يحرك الإنسان من داخله، ويحمله على اقتلاع العجب ونحوه من كل العلل والأمراض النفسية أو القلبية. 8- وصية الأبوين أن يتحررا من داء الإعجاب بالنفس ونحوه، وأن يكوناً قدوة صالحة أمام الولد، وأن يفهماه بأن ما وقع منهما كان خطأ وأنهما قد أقلعا عن هذا الخطأ، وعليه أن يقلع عنه مثلهما ويتوب إلى الله عز وجل. 9- الانقطاع عن صحبة المعجبين بأنفسهم مع الارتماء في أحضان المتواضعين العارفين أقدارهم، ومكانتهم، فإن ذلك يساعد في التخلص بل وفي التوقي من الإعجاب بالنفس. 10- التوصية و التأكيد على ضرورة اتباع الآداب الشرعية في الثناء و المدح في التوقير والاحترام، في الانقياد و الطاعة، مع الإعراض والزجر الشديد لكل من يخرجون على هذه الآداب، فإن ذلك له دور كبير في مداواة النفس وتحريرها من الإعجاب. 11- التأخير عن المواقع الأمامية بعض الوقت، إلى أن تستقيم النفس ويصلب عودها، وتستعصي على الشيطان فإن ذلك يسهل طريق العلاج. 12- دوام النظر في سير السلف، وكيف كانوا يتعاملون مع أنفسهم حين يرون منها مثل هذا الخلق، فإن ذلك يحمل على الإقتداء و التأسي، أو على الأقل المحاكاة، و المشابهة في استئصال هذا الداء، وقطع الطريق عليه أن يعود إلى النفس مرة أخرى. 13- تعريض النفس بين الحين و الحين لبعض المواقف التي تقتل كبرياءها وتضعها في موضعها الصحيح، كأن يقوم صاحبها بخدمة إخوانه الذين هم أدنى منه في المرتبة، أو أن يقوم بشراء طعامه من السوق، وحمل أمتعته بنفسه، على نحو ما أثر عن كثير من السلف. فقد روى عن عمر - رضى الله تعالى عنه - أنه لما قدم الشام عرضت له مخاضة، فنزل عن بعيره ونزع خفيه وخاض الماء ومعه بعيره، فقال له أبو عبيدة عامر بن الجراح: لقد صنعت اليوم صنعاً عظيماً عند أهل الأرض، فصك صدره وقال: أوَّه، لو غيرك قال هذا يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس فأعزكم الله برسوله فمهما تطلبوا العز بغيره يذلكم الله). وجاء في رواية أخرى: (أنه لما قدم الشام استقبله الناس، وهو على بعيره، فقيل له، لو ركبت برذوناً تلقى بع عظماء الناس ووجوههم؟ فقال عمر - رضى الله تعالى عنه - لا أراكم ههنا، إنما الأمر من ههنا - و أشار بيده إلى السماء - خلوا سبيل جملي). 14- متابعة الآخرين له، ووقوفهم بجانبه حتى يتمكن من التخلص من هذه الآفة. 15- محاسبة النفس أولاً بأول، حتى يمكن الوقوف على العيوب وهي لا تزال في بداياتها فيسهل علاجها و الوقاية منها. 16- إدراك العواقب والآثار المترتبة على الإعجاب بالنفس، فإنها ذات أثر فعال في علاج هذه الآفة و التحصن ضدها. 17- الاستعانة بالله - عز وجل - وذلك بواسطة الدعاء والاستغاثة و اللجوء إليه، أن يأخذ الله بيده، وأن يطهره من هذه الآفة، وأن يقيه شر الوقوع فيها مرة أخرى، إذ أن من استعان بالله أعانه الله، وهداه لصراطه المستقيم. 18- التأكيد على المسئولية الفردية، بغض النظر عن الأحساب والأنساب، فإن ذلك له دور كبير في علاج النفس، بل وحفظها من أن تقع مرة أخرى في آفة الإعجاب.
مختارات