حنانه صلى الله عليه وسلم
حتى المخطؤون والجهلة لم يحرموا من حنانك.. - ائذن لي في الزنا! يا لها من كلمة..! كيف جرؤ الشاب أن يُقدِم على قولها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أي شهوة مستعِّرة تلك التي تلظَّى لهيبها في قلبه اليافع.. وأدَّت به إلى ذلك المسلك العجيب ودفعته لذلك الجهر الرهيب؟ - مه مه يا هذا! تصاعدت أصوات تلك الهمهمات الغاضبة زاجرة الفتى عمَّا يخوض فيه بين يدي إمام المتقين وسيد الأطهار المُتبتلين عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.. لقد تكلَّمت.. ولقد قلت كلمة تقاطر منها الحنو الحاسم.. قال: «ادنه».. أي: اقترب. تعالى إلى جوار من هو بالمؤمنين رؤوف رحيم.. أقبِل على من قيل فيه: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3].. ادن من صاحب الخُلق العظيم.. وسيد ولد آدم أجمعين.. هكذا عاملته يا رسول رب العالمين.. دعوته ليقترب.. ناديته لينهل من حسن منطقك وعذوبة حديثك وحكمة دعوتك.. - «أَتُحبُّه لِأُمِّكَ؟». - لا واللهِ جعلني اللهُ فداءَك. قال: «ولا الناسُ يُحبونَه لأُمهاتِهم. أفتُحبُّه لابنتِك؟». - لا واللهِ يا رسولَ، اللهِ جعلني اللهُ فداءَك. «لأختك؟».. «لعمتك؟».. «لخالتك؟».. منطقٌ هادئٌ سديد.. وحكمة دعوية رائقة.. وحُسن معشر.. ولين جانب.. وخفض جناح.. هكذا كنت سيدي وقرَّة عيني بأبي أنت وأمي.. ها أنت تُكلِّل حُسن دعوتك بلمسةٍ حانية ومودة عملية صافية.. ها أنت تمد يدك لتمسح بها على صدر الفتى المستعرّ بالشهوة وتشفع مخاطبتك الأولى لعقله بتربيت رحيم على محل عاطفته ومكمن مشاعره، ليتكامل خطاب المنطق مع ملامسة الفطرة وليخرج الغلام وقد زالت وساوس الشيطان من صدره وهدأ قلبه وارتاحت نفسه.. هكذا تعاملت يا حبيبنا مع المخطئ.. كنت أرأف مُعلِّم كما وصفك معاوية بن الحكم السلمي حين صلى خلفك بعد سفرٍ غاب فيه ولم يعلم أن الكلام قد حُرِّم أثناء الصلاة.. عطس فلان فقال معاوية: " يرحمك الله ".. فرماه القوم بأبصارهم.. - " واثُكلَ أُمِّياه! ما شأنُكم تَنظُرونَ إليَّ؟! ".. فجعل القوم يضربون على أرجلهم أي: اسكت.. وازدادت الهمهمات الزاجرة تنهاه ضمنًا عمَّا يفعله في الصلاة.. سكت معاوية وقد فهم أنه قد تجاوز من حيث لا يعلم..! وانتهت الصلاة.. فالتفت يا حبيب سائلًا: «من المُتكلِّم في الصلاة؟».. فلما أعلن معاوية رضي الله عنه عن نفسه وتقدَّم بين يديك ما كهرته ولا سببته ولا زجرته.. وكنت بشهادته أحنى ناصح وأرأف مُعلِّم.. وحين كادوا أن يفتكوا بالأعرابي الذي يبول في ناحية المسجد زجرتهم عن ذلك مشفقًا أن يقطعوا على رجل بولته لكن الرجل سيلوث المكان ببوله.. وإنه المسجد النبوي.. أَوَ يُعقل أن يكون ما يشغلك هو انقطاع بولته بشكلٍ مفاجئ يؤذيه.. الجواب: نعم.. نعم، يُعقل.. مع رسول الله الرؤوف الرحيم الشفوق الرفيق يُعقل.. وما دام الحل بسيط وإصلاح الخطأ متاح؛ فلم الغِلظة والشدة مع رجل جاهل لا يعلم؟! - «أهريقوا على بوله ذَنوبًا من ماء». هكذا كان الحل ببساطة وليعلم الرجل الحكم بعد ذلك برفقٍ ولين.. وحين أتاك معاوية بن قرة رضي الله عنه وهو الرجل الغريب حديث العهد بإسلام فرأى خاتم نبوتك ناتئًا على ظهرك فزع وظنه عيبًا أو مرضًا وصاح: " أنا أَطبّ الناس أُطبِّبها لك ".. فما كان منك إلا أن راعيت غربته وحداثة إسلامه فلم تحرجه ولم تستخفّ به بل قدّرت مشاعره وامتننت لنواياه الطيبة فبينت له الحقيقة.. - «الله الطبيب».. ثم لم تنسَ الثناء عليه رغم خطأ تقييمه ولم تغفل عن تخفيف وطأة بيان عدم عِلمه وذلك بأن أرفقته بالكلمة الطيبة وبمدح رقيق في محله.. - «بل أنت رجلٌ رفيقٌ طبيبُها الَّذي خلقها».. يا لها من شهادة خصوصًا حين تخرج من آية الرفق ونموذجه بأبي أنت وأمي يا رسول الله.. وعن حنانك بأزواجك أمهات المؤمنين ففي مثل هذا تدبج المقالات وتنظم القصائد والمُعلَّقات ويقتدي المسلمون في تعاملهم مع الزوجات.. لم تستنكف يومًا أن تصرِّح حين تُسأل عن أحب الناس إلى قلبك أن تقولها واضحة جلية: «عائشة».. كم من أناس يستحيون حتى من التلفظ باسم زوجاتهم وفي مقامات أيسر من هذا المقام.. لكنك لم تكن يومًا من المُتكلِّفين.. قلتها وأعلنتها.. أحب الناس إليك زوجك الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما.. وماذا في هذا؟! ألم تقلها من قبل مِرارًا مثنيًا عليها: «فضلُ عائشةَ على النِّساءِ، كفضلِ الثَّريدِ على سائرِ الطَّعامِ» وأوصيت الكاملة من النساء فاطمة ابنتك فقلت: «أتحبينني؟» فلما أجابت بنعم؛ قلت: «فأحبي هذه» تعني عائشة رضي الله عنها.. بل قلتها عمليًا يوم أن أوقفت الركب بكامله لأجل أن تبحث أُمّنا عن عِقدها.. وحين جاءتك حزينة في حجة الوداع وقد أصابها ما يُصيب النساء فحُرِمَت التمتع بالعمرة إلى الحج فقالت: " يرجع الناس بحجٍ وعمرة وأرجع بحج " - أمرت عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما ليسارع بها إلى أدنى الحِل في التنعيم ولتُحرِم من هناك وتُصيب عمرتها فيُعلِّق الراوي جابر بن عبد الله رضي الله عنه في مقام المدح والثناء قائلًا: " وكان رسول الله رجلًا سهلًا إذا هويت شيئًا تابعها عليه ".. ويكأن لين الرجل مع زوجه محل ثناء ومناط مدح وإعجاب وليس كما يظن بعض غلاظ القلوب قساة المشاعر لقد كانا علاقتك بها وبباقي نسائك أنموذجا بديعا لهذا اللين والرفق والحنان تسابقها فتسبقك وتطلب مشاهدة الأحباش وهم يلعبون بالحِراب فتذرها ترقبهم من فوق عاتقك الشريف وحين قالت لك كلمة طيبة وثناء جميلًا قمت فقبَّلت بين عينيها.. ولما جاءتك المنية ووافاك الأجل كان آخر ما خالط ريقك ريقها، وأسلمت الروح بين حاقنتها وذاقنتها ولتُعلِّم الدنيا أن حنان المرء ولينه مع زوجه ليس ضعفًا ولا موطن خزي يتأفَّف منه ويستحيي من حقيقته.. ها أنت أعظم الخلق وأكملهم وقارًا تنتهي حياتك على كتف امرأتك في مشهد مودة خالدة وحنان ظاهر ولين وعطف يتعلَّم منه المحبون.. وكذا الأطفال.. ما ضاق عليهم حنانك بل وسعهم لطفك وحواهم لين جانبك وطيب معشرك.. - «يا أبا عمير ما فعل النغير؟».. من أبو عمير ومن النغير؟! إنه غلامٌ صغير ولد لأبي طلحة الأنصاري رضي الله عنهما كنت تُكنيه بأبي عمير، والنغير هو طائره الأليف الذي يلعب به.. مع كل مشاغلك ومسؤولياتك الجِسام لم تكن تمرّ على الطفل إلا وتسأله عن لعبته الأثيرة.. ويوم أجابك بصوت باكٍ: " مات النغير يا رسول الله ".. إذا بك تترك كل شيء وتجلس مع الطفل الباكي تلاطفه وتلاعبه ولا تتركه إلا ضاحكًا.. بأبي أنت وأمي وروحي.. أَوَ لست أنت من قطع خطبته حين رقّ لحفيد يعثر في ثوبه.. لقد نزلت عن منبرك تعتنِق سيد شباب الجنة حاملًا إِيَّاه وصاعِدًا به إلى المنبر لتكمل خطبتك.. من من الخطباء يجرؤ على ذلك اليوم؟ من يجرؤ على إبداء مثل ذلك الحنان والعطف؟ تأتيك الجارية الصغيرة لبعض شأنها فتسلِّم لها يدك تدور بك في أنحاء المسجد، وتُسلِّم على من تمرّ به من الغلمان وربما تردفهم خلفك على دابتك وتُخفِّف الصلاة حين تسمع بكاء الرضيع في أثنائها.. تذر الحسين يرتحل ظهرك وأنت ساجد فتطيل السجود رأفة به وتقول: «ابني هذا ارتَحلَني فكَرِهْتُ أن أُعجِلَهُ حتَّى يقضيَ حاجتَهُ».. ويدخل عليك أبو هريرة رضي الله عنه فيجدك قد أجلست الحسن على رجل وأسامة بن زيد رضي الله عنهم على الأخرى ثم دعوت قائلًا: «اللهم ارحمهما فإني أرحمهما».. وحين تكتشف أن الأقرع بن حابس له عشرون من الولدان لم يُقبِّل أحدًا منهم في حياته تقول: «وماذا أصنع برجلٍ نُزعِت الرحمة من قلبه».. كان حنانك فائضًا يغمر كل شيء حتى الحيوان والجماد.. وهل ننسى وصيتك بإحسان الذبح وإحداد الشفرة رأفة بتلك البهائم التي أمرتنا تصريحًا أن نتقي الله فيها وأنبأتنا أن فيها وفي كل كبد رطبة أجرًا.. وهل يغادر الذهن حنانك ورقتك مع جذع جامد مُصمَت حنَّ إليك واشتاق إلى موضع قدميك الشريفتين وقد غادرته إلى منبرٍ خشبي فجعل يئِن كالطفل الباكي.. هل يغادر الذهن مشهد نزولك من على منبرك لاعتناق الجذع مُبينًا: «إن هذا الجذع حنَّ إليَّ ولو لم أعتنقه لظل يَحنُّ إلى يوم القيامة».. لم يَهُن عليك أن تتركه يئن فإذا بك تحنو عليه.. على الجذع.. ومعنا كنت حنونًا.. مع من آمنوا بك ولم ترهم أو يروك.. رسائل مودة وحنان قد أرسلتها لنا بعضها شفهي وبعضها عملي.. - «لودِدنا أنَّا قد رأَينا إخوانَنا».. هكذا قلتها فظن أصحابك أنك تقصدهم فأجبت مُبينًا المرسل إليهم: «أنتُمْ أصحابي، وإخواني الَّذينَ يأتونَ من بَعدي». إذا فشوقك كان لرؤيانا.. يا له من شرف.. بل رُوي عنك أنك كنت تُبلِّغنا السلام في خاتمة حياتك الحافلة.. «بلِّغوا عني السلام كل من تبعني على ديني إلى يوم القيامة».. حتى يوم القيامة لم تنسنا.. كلما تأمَّلنا مواطن وجودك رافِعًا لواء الحمد في ذلك اليوم العظيم وجدناها مواطن لنا.. لأجلنا.. حنانًا بنا.. إما على الكوثر تنتظر من يمرون من على الصراط لتسقيهم لتسارع إليهم عارِفًا إِيَّاهم بآثار الوضوء وقائلًا في لهفةٍ: «أُمَّتي أُمَّتي».. تلك الكلمة التي تظل تُردِّدها وحدك بينما يُردِّد كل الخلائق كلمة أخرى.. " نفسي نفسي ".. وليكتمل الحنان تكون السقيا بيدك الشريفة فلا يظمأ الشارب بعدها أبدًا.. وربما نجدك تحت العرش ساجِدًا تحمد الله وتُثني عليه ثناء ما سبقك إليها أحد من العالمين.. أو نراك على باب الجنة طارِقًا حلقها ليدخل الناس.. أو عند النار تشفع الشفاعة التي أرجأتها لتلك اللحظة.. لم تنسَ حتى عُصاة أُمَّتك وها أنت تسعى لإخراجهم.. كل تلك المواضع والمواطن تكون يوم القيامة من أجلنا.. من أجل أتباعك وأحبابك الذين كان وظل وسيظل أملك ورغبتك أن تأخذ بحجزهم عن النار وهم يتفلتون من يدك.. هكذا ينبغي أن نعرفك وأن نحبك.. وهكذا كنت.. كنت حنونًا.
مختارات