فقه حقيقة العبودية (١٦)
فالله عزَّ وجلَّ بعبادته يريد أن ينجيك من عبادة ما سواه، والتي ليس وراءها نفع ولا طائل، بل فيها أعظم الضرر على القلوب والأبدان والحياة.
والله تبارك وتعالى وحده هو الذي إذا طلبته وجدته، وإذا سألته أجابك، فهو القائم على كل نفس، الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم.
وهو القوي، وقوته أزلية مطلقة.
وهو القادر وقدرته لا تزول.
وهو الحاكم وحكمه لا ينتهي.
وكلمته هي النافذة في كل وقت.
وفي كل عصر.
وفي كل زمان.
وفي كل مكان.
وهو الباقي حين يزول الجميع.
وهو القوي حين يضعف كل شيء.
وهو القادر حين تزول القدرة عن الدنيا كلها، وهو الغني وكل ما سواه فقير.
وهو الذي يبدل العسر يسراً.
والظلام نوراً.
والضيق فرجاً.
والذلة عزة.
والمرض صحة.
والبلاء عافية.
ولا يطلب لذلك كله ثمناً ولا جزاءً، بل يعطينا الأجر الجزيل إذا سألناه ذلك وطلبناه منه.
فكل ما سوى الله وكل ما دون الله هو سراب وأوهام وشيء ضائع وزائل، ولكن الباقي هو الله، والملك الذي لا ينازعه أحد في ملكه هو الله، والذي بيده كل شيء هو الله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦)} [آل عمران: ٢٦].
ومن كانت هذه صفاته وهذه أفعاله فعلينا أن نتوكل عليه وحده دون سواه: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩)} [النمل: ٧٩].
وما دام الله يأمرنا أن نتوكل عليه وحده، وهو حسبنا ونعم الوكيل، فعلى العبد إذا قصد حاجة أن يقول: اللهم أعني، وإذا أراد أن يعمل عملاً أن يقول: اللهم يسِّر لي، وإذا كان هناك ما يؤرقك فقل: اللهم أذهب عني هذا الهم والبلاء؟.
وإذا كنت تواجه شيئاً عسيراً فاطلب العون من الله، وتوكل على الحي الذي لا يموت، فإنه يراك ويسمعك، والذي لا يعتمد على الحي الذي لا يموت يعيش في ذل وشقاء دائم، وخوف دائم مما قبل الموت، ومما بعد الموت، وهذا الخوف يدفع الإنسان إلى حياة بائسة بغيضة.
والذين يتمسكون غالباً بالدين وبمنهج العبادة هم الضعفاء، ولكن لماذا؟.
لأن ضعفهم نشأ من اغتيال حقوقهم وكسبهم من الأغنياء، الذين يريدون بقاء السيادة لهم، ويريدون أن يُعبدوا من الناس.
فهناك دائماً إنسان قوي في الظاهر لا يريد منهج (إياك نعبد) ولكن يريد كل شيء له، يريد أن يتميز عن الناس جميعاً.
وهناك إنسان ضعيف في الظاهر يتمسك بمنهج (إياك نعبد) لأنه يعيد إلى الضعفاء حقوقهم.
ومن ثم سوف ينشأ صراع بين ضعفاء ومتمسكين بمنهج الله، وأقوياء في الظاهر يرفضون منهج الله.
والله جل جلاله يثبت الذين آمنوا ويطمئنهم لئلا يحسوا بالرعب والفزع من أولئك الذين يملكون الأسباب في الدنيا، ذلك أنه إذا عجزت الأسباب فالله سبحانه موجود، وهو قادر على أن يحمي المؤمنين به المطيعين له فليطلبوا المعونة منه بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)} [الفاتحة: ٥].
وطلب المعونة معناه أنه استنفذ الأسباب التي عنده في أن يقوم بالعمل، فلما عجز استعان بغيره.
فإذا بذلنا الأسباب الممكنة كبشر أمام عدونا وهو أقوى أسباباً، فنقول يا رب فرغت أسبابنا والباطل أمامنا قوي.
فأعنا على عدونا، واكفناهم بما شئت، وهنا لا يمكن أن يخذل الله من يخصه بالعبادة، بل يعينه وينصره، وهنا تأتي نصرة الله للمؤمنين، ولكن يجب أن نبذل أسبابنا الممكنة أولاً: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠)} [يوسف: ١١٠].
والعبد دائماً في كل نية وفي كل عمل محتاج إلى الهداية.
إلى الطريق الذي ارتضاه الله لعباده، فهو دائماً يطلب الهداية من ربه؛ لأنه ارتضاه رباً وإلهاً ومشرعاً، فلا يتوكل إلا عليه، ولا يستعين إلا به، ولا يطلب الهداية إلا منه كما قال سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)} [الفاتحة: ٦].
إن جوارح الإنسان خاضعة له بالتسخير في الحياة الدنيا، فإذا أمرها بطاعة استجابت، وإذا أمرها بمعصية فهي تؤديها كارهة؛ لأنها مسخرة لا تستطيع أن تعصي للإنسان أمراً.
فإذا جاءت الآخرة، وزال التسخير نطقت الجوارح بما كان الإنسان يعمله من خير وشر: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤)} [النور: ٢٤].
إن كل حي سوى الله فقير إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والمنفعة للحي من جنس النعيم واللذة، والمضرة من جنس الألم والعذاب.
فلا بدَّ من أمرين:
أحدهما: المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع به، ويستأنس به.
والثاني: المعين الموصل لذلك المقصود، والمانع من حصول المكروه، والدافع له بعد وقوعه.
والله عزَّ وجلَّ هو المطلوب المعبود المحبوب وحده لا شريك له، وهو وحده المعين للعبد على حصول مطلوبه، فلا معبود سواه، ولا معين على المطلوب غيره.
وكل ما سواه هو المكروه المطلوب بعده، وهو سبحانه وحده المعين للعبد على دفعه.
والله سبحانه وتعالى هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالاً وإكراماً.
والرب هو الذي يربي عبده، فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله ومصالحه التي بها كماله، ويهديه إلى اجتناب المفاسد التي بها فساده وهلاكه.
مختارات