سؤال من أبي خالد لأبي عمر السكران
وجه أبوخالد سؤالا لأبي عمر السكران قائلا:
الصديق ابوعمر.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، اسمح لي أن أكون قاسياً معك، جهودك مهما بلغت فائدتها فهي موجهة إلى أشخاص متناقضين مع أنفسهم يعيشون متاهات الترف الفكري ليس إلا، يريدون أن يقولوا شيئاً، وأن يكون لهم حضور، ومهما كان عددهم فهم لا يتجاوزن عدد أصابع القدم الواحدة.
ليكن همك يا أباعمر بيان الوحي بالمفهوم الذي تراه صحيحاً، وليس همك كشف عوار هذه الشرذمة للناس.
يابوعمر مالك وللأطياف الفكرية التي تعيش تخبطات، إنها أطياف تدور حول نفسها، ويأكل بعضها
بعضاً في ترف فكري لا يسمن ولا يغني من جوع، ربما تكون نظرتي متطرفة نوعاً ما، ولكني أريد أن أقابل تخصصك الحالي في الكتابة لعل ذلك يحدث لك شيء من التوازن.
اخي ابوعمر العالم أوسع وأكثر حاجة من هذه الزاوية التي تحشر نفسك فيها، وين أنت رايح، لقد عميت عيناك عن ما يحتاجة السواد الأعظم من المسلمين، عفواً بل العالم كله من نور الوحي (أكثر من 6 مليارات إنسان) وذهبت تتخبط في معركة ضد رجال يعدون على أصابع الرجل الواحدة، لو كنت أحدث غيرك لتفلسفت وقلت: لا بد من التخصص، وكل على ثغر، وامض بارك الله فيك وثبتك، ولكن لك أنت أقول: أربط فرامل، وين أنت رايح، دور اللي ينفع عامة الناس، وقبل هذا ينفعك أنت عند ربك...معليش يابوعمر سامحني... !
فأجاب أبوعمر السكران قائلا:
أهلا أستاذي وصديق عمري ابوخالد..
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،،
الحقيقة أنني أتفق معك كلياً فيما ذكرته حول هامشية التيارات الفكرية المنحرفة وعدم قيمتها، والوصفان اللذان ذكرتهما (*يعيشون متاهات الترف الفكري*) وقولك (*أطياف تدور حول نفسها ويأكل بعضها بعضاً في ترف فكري لا يسمن ولا يغني من جوع*)
هذا الكلام أعجبني بالمرة، وأعيد التأكيد أنني أتفق معك كلياً في أن هذه التيارات الفكرية كما وصفتها بوصفين في غاية الروعة (تعيش ترف فكري) و (يأكل بعضها بعضاً) والله لقد أجدت التقاط الصورة بكل زواياها.
كما أتفق معك أن الالتفات لاحتياجات المسلمين الإيمانية والعلمية والتي تمس جمهور المسلمين الأعظم يجب أن تحتل العناية القصوى.
وأعتقد أن مثل هذه النظرة هي من القواسم المشتركة بيننا.
أتدري أين المشكلة يا أباخالد؟
المشكلة ليست في تفاهة التيارات الفكرية، وكونهم أصلاً في غالبهم أهل أهواء، لو تليت عليهم من الأدلة إلى يوم الدين ما التفتوا إليك، وهم كما قيل لسفيان بن عيينة (ما بال أهل الأهواء شديدي التعلق بأهوائهم؟) فقال (أنسيت قوله تعالى " وأشربوا في قلوبهم العجل " )
فهؤلاء أهل الأهواء الفكرية أشربوا أهواءهم، وصاروا كما في الصحيح " أكوازاً مجخية " لاتعرف إلا ما أشربت من هواها، والاشتغال بمثل هذا النمط من الناس مضيعة للوقت، وانصراف عن أبواب الخير الملحة الأخرى، وإنما المشكلة في مستوى آخر للأزمة هو الذي يستدعي الاهتمام والعناية والجهود المكثفة، وهو أن هذه " المفاهيم المنهجية المنحرفة " صارت تغزو كثيراً من الشباب المتدين، وخصوصاً المقبل على الثقافة والمطالعة، بل وأطم من ذلك صارت تربك بعض الدعاة وطلبة العلم، وهؤلاء بكل اختصار " رأس المال "، وهؤلاء هم بنك الدعوة، وهم ذخيرة الإصلاح، وهم الحصن الأخير.
مثل هذه المفاهيم المنهجية المنحرفة في قضية الموقف من المخالف، والموقف من الحضارة المادية، والموقف من الإصلاح السياسي، والموقف من التراث، صارت تقوض اليقين عند كثير من الشباب المتدين، فيصاب بحالة من الشلل الدعوي.
ليتك يا أباخالد ترى أكواماً من الرسائل التي أتلقاها عن شباب دعاة يروون قصصهم حيث كانوا مشاعل خير وهدى ثم صاروا يتعرضون لهذا الحقن بالشبه الفكرية فأصابتهم حيرة منهجية، أو كما سماها أحدهم " تبنج دعوي ".. ففقد دفء الايمان، وحيوية الدعوة..
أقسم لك بالله العظيم يا اباخالد أن أحدهم يقول إني استرسلت مع هذه الشبهات الفكرية وأعجبتني لغتها حتى نسيت القرآن وكثيراً من الصحيحين التي كنت أحفظها، ويقول أنه الآن بدأ يراجع حفظه وعاد له إيمانه واشراق روحه.
قبل عشرة أشهر حين كنت في الرياض دعاني مجموعة من التربويين للقاءات مسامرة عابرة، فحدثوني عن الشبهات الفكرية الحديثة، وماسببته من الحيرة المنهجية لشبابهم، ويسألون بحرقة وألم ودموع تتحشرج عن كتب مناسبة يصلحون بها شبابهم الأخيار الذين دمرتهم هذه الشبهات.
اخي وصديق عمري أباخالد.. في هذه الحقبة من تاريخنا المحلي دلق الإعلام على الناس (شبهات فكرية) كثيرة، بعضها يتعلق بالوحي ذاته، وبعضها يتعلق بعلوم الوحي، وبعضها يتعلق بحملة علوم الوحي. فأما مايتعلق بـ(الوحي) فهي شبهات يعارضون بها الكتاب والسنة من جهة الحجية والمصدرية، وأما مايتعلق بـ(علوم الوحي) كالعقيدة وأصول الفقه ونحوها، فهي شبهات يعارضون بها أصول التلقي والاستدلال ومنهج فهم النصوص، أو آحاد الأحكام الشرعية، وأما مايتعلق بـ(حملة علوم الوحي) فهي شبهات يطعنون بها في العلماء الربانيين من أهل السنة السابقين أو المعاصرين، كاتهامهم بممالأة السلطة.
وهذه الشبهات الفكرية صار لها دور فعّال في الإضرار بتدين كثير من الشباب المسلم، فكثير من ضحايا هذا التيار لم يعد يجد في نفسه تعظيم النصوص وهيبتها، ولا الغيرة على الحرمات والأعراض، ولا تلك الحيوية الدعوية وحمل هم الإسلام، ولا ذاك التشوق الممض لتحيكم الشريعة، ولا توقير السلف واعتقاد أنهم أصح منا فهماً للنصوص الشرعية، وصار كثير منهم من أعظم المتثاقلين في الفرائض، أما النوافل والقرب التي يحبها الله والتي اعتادها فهذه تساقطت تدريجياً، وتمر عليه الأشهر تلو الأشهر وهو هاجر لكتاب الله تعالى، وصار غالب وقته في المقاهي الفكرية، ومساهرة الأفلام، والولع بالسفر للخارج، وصار تقليب بصره في النساء من أسهل الأمور على نفسه وفقد كل تأنيب ضمير كان ينتابه، ومجالس هؤلاء كلها شحن ضد المتدينين وتصيد لعثراتهم وتضخيمها، ورحابة صدر مع العلمانيين ومروجي الأدب الهابط، ومع كل هذه الحالة المزرية من الانحدار الايماني والسلوكي تراه يوهم نفسه أنه إنما يبحث عن الحضارة والنهضة والمدنية، برغم أنه لم يقدم للمسلمين شيئاً لا في دينهم ولادنياهم، بل وكثير منهم يعتقد أنه أعلم من أئمة أهل السنة بفهم الإسلام واستيعاب معانيه ومقاصده، بل ولايكف عن توجيه النصائح لأئمة أهل السنة كيف يفهموا الاسلام؟!
وأشد هذه الظواهر إيلاماً وإثارة للكمد أن يكون الإنسان من هؤلاء طالب علمٍ سابق كان قد ضم صدره شيئاً من نصوص الوحيين وتشرف بمجالسة أهل العلم ومزاملة اخوانه في مذاكرة العلم والإيمان، ثم انسلخ من هذا النور والهدى كما قال تعالى في مثل بليغ مؤثر: (*وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)
الأعراف:175-176
والمحافظة على طلاب العلم والدعاة والاخيار من أن تتخطفهم هذه الأهواء الفكرية يجب أن يحتل مزيد عناية في أولويات الإصلاح الشرعي، فطالب العلم ثروة بما يحمله من نور الوحي، فإذا هبت عليه رياح الهوى انطفأ السراج، وكلما انطفأت السرج كثر المتعثرون.
صحيح يا أباخالد وأوافقك كليا أن الاهتمام بعامة المسلمين واجب ومهم، ولكن أيضاً الاعتناء بحفظ المنهج الشرعي قوياً مهيباً مقنعاً يحفظ علينا دعاتنا وطلاب علمنا.. هدف في غاية الأهمية..
يا أبا خالد القضية اليوم لم تعد مشكلة مثقفين ليبراليين وعلمانيين.. هذولا –بكل صراحة- بقلعتهم والله ماحملت لهم هماً، وإنما القضية المفاهيم المنهجية التي صارت تزعزع اليقين والحسم والاستعداد للتضحية الدعوية وحمل هم رسالة الاسلام..
صار كثير من الأخيار يرى الانحرافات العلمانية ويتساءل صادقاً " لماذا نحن إقصائيين؟! "..
وصار كثير من الأخيار يرى المنكرات الشنيعة ويتساءل صادقاً " لماذا نتوتر في قضايا الخلاف؟ "..
وصار كثير من الأخيار حين تدعوه لنشر السنن النبوية في الناس فيقول لك صادقاً " لماذا نجعل التدين في هذه القضايا الشكلية؟ "..
وصار كثير من الأخيار يخفي في نفسه أن " المفكرين أقوى وأمكن من العلماء والدعاة " لكنه يواري ذلك ويداريه إما خجلاً وحياء، وإما لشعوره أن ذلك يتعارض مع تدينه، لكنه لايملك جوابا حقيقياً يريحه من عناء الصدام بين عقله وايمانه، وكل ذلك بسبب " استطالة أهل الأهواء الفكرية " بلغتهم الحديثة على علماء أهل السنة..
اليقين التام بحجية المنهج مع اليقين التام ببطلان نقيضه.. فقده كثير من الشباب المتدين.. واليقين هو الذي يورث الاقدام الدعوي.. واذا تصدع اليقين والحسم فقد الشاب المتدين مبررات الحماس التغييري..
تأمل اليوم في بعض المنتسبين للدعوة كيف أصابته لوثات منهجية -بسبب ضخامة الضخ الفكري المكثف والمتواصل من الاعلام- حتى حولته إلى ناشر للانحراف.. تأمل في تعطيل النص باسم الخلاف كما قال الشاطبي في الموافقات متهكماً (صار الخلاف الفقهي معدوداً في حجج الاباحة!) وتطويع الأحكام الشرعية لتتناسب مع الذوق الغربي، والتزهيد بمرجعية السلف في فهم الإسلام، والتبرم بالحديث الايماني، والسرور بالحديث الفكري المجرد، والولع بالتزين بالاسماء الغربية الرنانة، وهجران كتاب الله، والتثاقل عن الفرائض، وانتقاص العلماء والدعاة وعامة المتدينين، والتفسير المادي للتشريعات، وجعل قضايا الحضارة والمدنية ليست وسيلة لاظهار العقيدة والشريعة، بل بديلاً عن المطالب العقدية والفقهية، الخ الخ من مظاهر الانحراف هذه الأزمات الخطير التي صارت تغزو كثيراً من الشباب المتدين..
وأول خطوة في سلسلة هذه الانحرافات " *شحن الشاب ضد المتدينين* " بأنهم جهلة بالواقع الحديث، وأنهم ضد الاستفادة من الغرب، وأنهم لايعرفون مقاصد الشريعة، وأنهم مجرد ذيل للسياسي، الخ.. فإذا أسقطوا في عين الشاب المتدين تعظيمه وولاءه للعلماء والدعاة، انتقلوا معه إلى بيان تناقضات التراث الاسلامي حتى يسقطو مرجعيته، وهكذا وهكذا.. حتى يتحول إلى (مسخ فكري) بعد أن كان (مشكاةً من ايمان)
ابوخالد.. المرض وصل إلى جسدنا، ولم تعد المشكلة مشكلة نخب ثقافية منحرفة!
ولقد جلست مرةً أتأمل: ما سبب كون " الشحن ضد المتدينين " له هذا الأثر النافذ الهائل في " توهين التدين " في النفوس.. فوجدت أن هذه آلية قديمة لسائر خصوم الرسل وأتباعهم، كما قال تعالى:
(وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا) هود:27
(قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) الشعراء: 111
(قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) البقرة: 13
(لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ) الاحقاف: 11
ونحوها من الآيات التي توضح كيف استغل خصوم الرسل تشويه المتدينين لتهتيك دوافع التدين في الناس..
ومن أخطر الأمور في هذا الباب عدم التفريق بين الاشكاليات " المنهجية " والاشكاليات " الفكرية البحتة " داخل الحقل الفكري، وهذه قضية تستحق النظر والفرز.
حين تتداول الكتب الفكرية الرائجة مسائل واشكاليات من نمط تفسيرات التاريخ، وتحقيب التيارات، والدورات الحضارية، وثقافة الصورة، والبديل الآسيوي، وتفاصيل متغيرات العولمة والمعلوماتية ونظم الاتصالات، ونحوها، فهذه القضايا شأن المفكرين، وهم المرجع فيها لأنها تخصصهم، وأنا شخصياً لاتعنيني هذه القضايا من قريب ولا من بعيد..
أما حين يتداول الفكر العربي المعاصر مسائل واشكاليات من مثل: العلاقة بين مصادر المعرفة (كالوحي والعقل)، وبدائل أصول الفقه كمدارس التفسير الحديثة للنص (كالتفكيك والسيميولوجيا والهرمنيوطيقيا والبنيوية ونحوها)، وكثرة الدعوة لعلم " مقاصد الشريعة " (إما بمعنى الاستعاضة بها عن النصوص الجزئية، وإما بمعنى التأويل المقاصدي للنص الجزئي) وفكرة التفسير العصري للنص، وربط التشريع بالحكمة دون العلة، وتاريخية الوحي وظرفيته وتأصيل ذلك من خلال علم أسباب النزول وعلم أسباب الورود، وتحييد مصدرية السنة من خلال " علم مقامات النبوة "، واشكاليات تدوين السنة، والتفسير السياسي للتراث ورده الى صراعات القوى، والقراءة الفيلولوجية للتراث بمعنى توظيف منجزات " فقه اللغة المقارن " لتكلف اثبات المصدر الأجنبي لمفاهيم ومصطلحات العلوم الشرعية، كعلاقة العلوم الشرعية بالثقافات الهرمسية والغنوصية والفارسية واليونانية والرومانية، ونحو هذه الاشكاليات: فالأمر هاهنا مختلف جداً، فليست هذه الاشكاليات " اشكاليات فكرية "، بل هذه " اشكاليات منهجية " تتصل بالنص والعلوم الشرعية والقرون المفضلة والتراث الاسلامي.
وهذه الإشكاليات في غاية الخطورة على " الشاب المثقف " و " طالب العلم " في المجتمع المسلم.. وهم رأسمال الدعوة والتغيير والاصلاح.. وفي انحرافهم انحراف لأمم من وارئهم من الناس..
ألاحظ كثيراً أن تعميم مفهوم الفكر على كامل " الحقل الفكري " يسهم في تضليل الرؤية تجاه أمثال هذه الاشكاليات " المنهجية " الخطيرة التي تثيرها هذه الكتب وتتسرب الى عقول الشباب المسلم المتطلع للثقافة والمقبل بنهم على هذا الحقل.
فليست القضية إذن: هل يهتم طالب العلم بالكتب الفكرية أم لا؟
وإنما القضية: هل يجب على طالب العلم استيعاب وتحرير الاشكاليات " المنهجية " التي تثيرها الكتب الفكرية أم لا؟
هذا هو السؤال الصحيح، وهو المدخل الدقيق للتفكير في هذه الاشكالية.
إذا تناقش المفكرون في قضايا " فكرية بحتة " تتصل بالحضارة والثقافة والتاريخ والمجتمع فهذا شأنهم وهذا بحر علمهم، ولايعنيني شخصياً أمرها..
أما إذا تناقشوا في قضايا " منهجية " تتصل بالوحي، والعلوم الشرعية، والتراث الاسلامي، وأهل السنة المعاصرون، فهاهنا لايجوز للمتخصصين الشرعيين التقاعس عن المساهمة في بيان الحق وابطال الباطل في أمور هي من " صلب علومهم " وهم المؤتمنون عليها.
إذا كانت قضايا النص، والمقاصد، والمصلحة، والعلة، والذرائع، والعقل، وأسباب النزول، وأسباب الورود، والتدوين، وقاعدة " تغير الأحكام بتغير الأزمان "، وقاعدة " عموم اللفظ وخصوص السبب " ونحوها: ليست قضايا الشرعيين فماهي قضايا الشرعيين إذن؟
ومن سيقوم بالدور المتخصص في تحليل وبرهنة الرؤية الشرعية في هذه الاشكاليات؟!
ويتأكد الأمر أكثر وأكثر حين يمس " العلوم المعيارية " التي تضبط " أصول التلقي والاستدلال "، فهذا مستوى في غاية الخطورة..
وأعني بالعلوم المعيارية علوم ضبط " الثبوت " وهي مصطلح الحديث، وعلوم ضبط " الدلالة " وهي أصول الفقه، لأن الانحراف في مبدأ من مبادئ " التلقي والاستدلال " يترتب عليه من التطبيقات مالاينحصر، بخلاف الخلل في مسألة فروعية واحدة، فالخلل في مسألة " منهج تفسير النص " ليس كالخلل في مسألة " حكم المرتد " مثلاً.
وأما من يستند في تهميش معالجة هذه القضايا المنهجية إلى أنها مجرد " إشكاليات نخب ثقافية "، وأنها ليست مما يمس حياة الناس العامة، فلاتكاد تجد رجلاً من عامة الناس يستشكل العلة والحكمة ومقاصد الشريعة مثلاً، وعليه فالاشتغال باشكاليات الناس العامة كفقه المعاملات المالية، والفقه الطبي، وفقه مواسم العام (كالصيام والزكاة والحج والفضائل الزمانية المرتبطة بأيام وأشهر مخصوصة) أولى وأحرى.
فهذا الكلام غير صحيح إطلاقاً وهو مصادم لفقه أئمة السلف، فأئمة السلف ناقشوا اشكاليات " نخبوية " من دقيق العلم لم تكن تعني عامة الناس في الكوفة والشام والحجاز ونحوها من أمصار المسلمين، وانما كانت تتداولها النخب العلمية والفلسفية، كاشكالية التحسين والتقبيح العقلي، وهل يجب على الله فعل الأصلح، ونظرية السببية، ووجود الكليات النظرية ذهنياً أو عينياً، واشكالية المجاز، ونظرية التولد، وتكلموا عن كثير من العناصر الدقيقة للتفكير العقلي الصحيح كاللزوم، والاطراد والانعكاس، والاستقراء، والدور، واجتماع النقيضين وارتفاعهما، والتفريق بين العقليات الضرورية والمكتسبة، ومراتب المدركات، ونحو ذلك.
فهذه الاشكاليات ونظائرها ليست مما يعني عامة المسلمين في تلك العصور، فإن عامة المسلمين في تلك الأزمان تشغلهم قضايا محدودة في عباداتهم وبيوعهم وأنكحتهم، ويشتغلون بقية يومهم بأرزاقهم وحياتهم الخاصة، وهل يعقل أن الفلاح في بغداد والتاجر في دمشق في قرون الاسلام الاولى مشغولون بإشكاليات الفلسفة اليونانية؟!
وإنما هذه الاشكاليات ونظائرها كان سجالها يلتهب داخل دوائر النخب العلمية والفلسفية المتفاعلة مع الحداثة الاغريقية بشكل خاص، ومع ذلك استولت على اهتمام أئمة السلف وفصلوا فيها وقاموا الانحرافات فيها لأنها تحريف لحقيقة الاسلام..
بل انظر إلى مكتبة الامام ابن تيمية وستجد أن الدراسات التي أنجزها لدواعي " نخبوية " أكثر بكثير من الدراسات التي كتبها لاشكاليات عامة الناس، فكتاب كالصفدية –خصوصاً- أو الرد على المنطقيين، أو درء التعارض، أو التدمرية، ونحوها ليست في الحقيقة تعالج اشكاليات عامة الناس، وإنما هي اشكاليات النخب العلمية والفلسفية.
وتعامل الإمام ابن تيمية مع الثقافات الفكرية والفلسفية التي عاصرها يجسد بالضبط نموذجاً دقيقاً يعبر عن الموقف المطلوب في سؤال " موقف الفقيه من الفكر "
ابوخالد.. أرجوك أرجوك أعد تأمل عبارة الامام ابن تيمية هذه عدة مرات، فأنا شخصياً لا أمل من تكرارها، وقد قالها في كتابه الحافل دراء تعارض العقل والنقل:
(*فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم؛ لم يكن أعطى الإسلام
حقه، ولا وفى بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة
النفوس، ولا أفاد كلامه العلم واليقين*)
يا ألله.. يا ألله.. اللهم إنا نسألك أن نكون ممن أعطى الاسلام حقه وقطع دابر أهل الأهواء، وكسر استطالتهم على أهل السنة، ومنهج أصحاب النبي في فهم الاسلام والعمل به..
على أية حال.. والله أخي الغالي وصاحب عمري يابوخالد.. ما أنا إلا " طالب حق " فإن كنتُ مصيبا في تصوري لخطر الانحرافات المنهجية على الشاب المتدين وكونها تصيبه بالشلل الدعوي.. فالحمدلله.. وإن كنت مخطئاً في هذا التصور.. وأن هذه الشبهات المنهجية التي يسكبها الاعلام على الناس لاأثر لها.. فأتمنى أن توضح لي وتصوبني فأنا لا أريد أن يذهب وقتي هدراً طبقاً لتصورات خاطئة..
شكر الله لك حرصك على أخيك وحب الخير لي، والله يحفظك ويتولاك وينصر بك دينه
كتابه وسنة نبيه.
مختارات