القدر الكوني
عموم الناس يغطسون بأبصارهم وبصائرهم في القدر الشرعي، وينسون القدر الكوني. والقدر الشرعي هو ما أراد الله وقوعه، وأحب حصوله شرعاً، كسائر الأوامر في الشريعة. أما القدر الكوني فهو ما أراد الله وقوعه، مع بغض الله له، كسائر الكفر والفسوق والفجور والمظالم الواقعة من الناس.
وهذه القسمة الثنائية هي من أهم المرتكزات النظرية لفهم طبيعة العلاقة بين الإرادة الإلهية وأفعال العباد، طبقاً لاستخلاص نهائي لدلالات الوحي الجامعة في هذا الباب.
والحق أننا مكلفون بملاحظة القدر الشرعي، ولكن مراعاة أو تأمل القدر الكوني مصلح للعقل، دالّ إلى حسن النظر، وجلاء الحكمة الإلهية، ومريح للنفس. فقد قدّر الله وقوع الكفر في العالم، وانتشار الكفار، حتى قرب أوان الساعة، وتغلبهم في بعض الأزمنة، وقدّر كثرة الفساد في أواخر الزمان، وفشو الهرج والمرج، وتفاقم القتل، وإراقة الدماء، وكثرة العري، والانحلال الأخلاقي، والجرائم والسرقات،…الخ، وكل هذا واقع لا محالة بمقتضى إرادة الله الكونية النافذة، هل هذا يعني القبول بذلك؟ أو ترك النكير أو الاحتجاج؟ أو التبلّد؟ لا.
ولكن هذا يعني معقولية ما يحدث ضمن السياق الكوني، والترتيب الإلهي للحال البشرية في هذه اللحظة من تاريخ العالم.
وبغير الوحي، ثم الإدراك التاريخي الرصين لن تستطيع إدراك معقولية مفهومة لحجم البذاءة السياسية، والفجور الدموي، والتوحش الغاشم، والكفر الأسود، الذي يقع اليوم، بجوارنا، وبجوار الآخرين.
ثم إن هذا الواقع يمكنك تفسيره أيضاً، عبر تأمل قابلية النفس البشرية لاعتناق أقذر الشرور، وأبشع الخبائث التي لا تخطر ببال الشيطان، وعبر تدبر آثار تطاول الأمد البعيد الذي يفصلنا عن النور الأخير الذي أرسل إلى هذا العالم، والتطور الجنوني للتقانات الحداثية، وتفاقم خطايا بني آدم، والمظالم البشعة المتراكمة، وغير ذلك.
وعلى أيةحال فتأمل مغزى القدر الكوني، والاستبصار التاريخي ينفي العبثية وإلصاق صفة الجنون بالأحداث، فالبصيرة القصيرة هي التي تتوهم العبثية العدمية للواقع. ولله في خلقه شؤون، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
مختارات