أنماط: (33) نمط: مُغسَّل وضامن جنة
وهناك نمطٌ قبيحٌ للغاية.. وهو نمط الأخ المُغسَّل وضامن الجنة!
ولقد قالوا قديمًا في المثل: " غسِّله واعمل له عُمّة.. قال يعنى أنا مُغسَّل وضامن جنة "..!
إنها كلمات بسيطة وذكية كعادة الأمثال المصرية تُلخِّص رسالة يفترض أنها كانت مستقرة في الوجدان المصري، بل في الوجدان المسلم بشكلٍ عام، أنه لا أحد يضمن مصيره فضلًا عن مصير غيره..
لا أحد يمتلك القدرة على الحكم لفلان بالجنة، والجزم لفلان بالنار..
معنىً بدهيٌ ومنطقيٌ وأصلٌ إسلاميٌ يُفترَض أن يَعلمه الجميع، أجملته تلك الكلمات البسيطة التي عبر المصريون من خلالها عن معتقد هام يظهر في العديد من الآيات والأحاديث الصحيحة، معتقد: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]، ومسلمة أن الله وحده يعلم مصير الإنسان ومآله وحقيقة تقواه ودينه: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الحجرات من الآية:16].
لقد لخَّص النبي صلى الله عليه وسلم ذلك المعنى في جملة قالها يوم موت صاحبه عثمان بن مظعون رضي الله عنه، وجاء البعض يُزكُّونه، ويجزمون له بالجنة، فقال: «واللهِ ما أدري وأنا رسولُ الله ما يُفعَلُ بي ولا بِكم» (رواه الإمام أحمد)، ورغم ما له من مبشراتٍ ومنزلةٍ عند ربه، إلا أنه على ما يبدو أراد التعميم لترك الأمر كله لله، وإثبات تمام الافتقار والتسليم المُطلَق في أمر المصير إليه حتى مصيره هو نفسه.
ولما جاء الصحابة يُزكُّون رجلًا مات أثناء الجهاد، إذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يفاجئهم بأنه ليس كما يتصوَّرون، وأن الرجل إنما اتكأ على سيفه وقتل نفسه.
وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي يمكننا من خلالها تُبيِّن تلك الحقيقة، التي من المفترض كما قلت وكما بدا من المثل أنها بديهية ومنطقية.
لكن للأسف الشديد! أصحاب هذا النمط قد نسوا أو تناسوا تلك الحقيقة، وظهر من خلال لسان حالهم ومقالهم أنه قد تسرَّبت إليهم دون أن يشعروا خصلة من خصال من قالوا: " نحن أبناء الله وأحباؤه ". صحيح أنهم لم يقولوها بتلك الفجاجة والاستعلاء، لكنهم أكَدوا معناها من خلال نفيهم المستمر لإمكانية فتنتهم أو فتنة من يحلو لهم تزكيتهم من سادتهم وكبرائهم ويُصِرُّون على إضفاء العصمة والقداسة على دينهم وعقيدتهم ويكأنهم اطلعوا على ما في قلوبهم أو كأنهم اتخذوا عند الله عهدًا، فيه ذلكم الجزم المزعوم أنهم أو سادتهم وكبراؤهم بمنأى عن الفتن وبمعزلٍ عن الضلال إلى يوم الدين!
العجيب أن الصحابة أنفسهم كانوا يخشون على أنفسهم النفاق، ولا يأمن أحدهم على نفسه لهذه الدرجة، بل وحتى الأنبياء كانوا يحرِصون على دعاء ربهم بالثبات، واجتناب عبادة الأصنام، وما دعاء سيدنا إبراهيم وسيدنا يوسف عليهما السلام بالشيء الذي يغيب عن الأذهان، لقد دعا الأول ربه أن يُجنِّبه وبنيه عبادة الأصنام، بينما طلب الثاني الوفاة على الإسلام، واللحاق بالصالحين، كما تضرَّع نبينا صلى الله عليه وسلم لمقلبٍ القلوب كي يُثبِّته على دينه.
فمن أين يأتي أصحاب ذلك النمط العجيب بكل هذا الأمن والاطمئنان والجزم الراسخ أنهم بمنأى عن الفتن؟!
وناهيك عمَّا في تلك الأقوال من كِبرٍ وافتئات على علم الله بمآلات ومصائر العباد، فإن تلك المقولات والأفكار تنافي الواقع والتاريخ، فهل هناك شخص أو مجموعة أو حتى أمة يمكن أن يقال عنها أنها بمعزلٍ عن التغيُّر والتحوُّل والتبدُّل؟
الجواب: لا.
كم من أناسٍ كانوا على أعلى درجات التزكية ثم نُكِسوا على رؤوسهم وضلُّوا وأضلُّوا وفُتِنوا وفَتنوا غيرهم، وما " بلعام " الذي آتاه الله آياته لكنه أخلد إلى الأرض وانتكس وبرصيصًا الذي كان منقطعًا للعبادة ثم زنى وارتكس وغيرهما - عن الأذهان ببعيد..
الجماعات البشرية والأمم نفسها تغيَّرت عقائدها وأفكارها مِرارًا وليس مرةً واحدة، خصوصًا بعد الأحداث الجِسام والمنحنيات الحادة والمحاور المفصلية.
وهل كانت روسيا شيوعية قبل الثورة البلشفية؟ وهل كانت فرنسا علمانية تُعلِن شنق آخر ملك بأمعاء آخر قسيس قبل الثورة الفرنسية؟
وهل كانت إيران دولة ثيوقراطية رافضية تُحكَم من عتبات قُم والنجف قبل الثورة الخمينية؟
وهل مصر الخمسينيات والستينيات تشبه مصر في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؟
بل هل مصر قبل الحقبة الفاطمية وحكم العبيديين الرافضة مثل مصر بعدها حتى بعد تطهيرها منهم على يد صلاح الدين؟
وهل كانت بدايات التصوُّف مثلًا تحتوي ذلك الذي تشهده الموالد والحضرات اليوم؟
بل هل بداية أي فِرقة أو جماعة كانت تحتوي على ما آل إليه حالها بعد مرور السنين والعقود؟
الجواب على كل ذلك معروف والقاعدة معلومةٌ ومطَّرِدة..
" الحيُّ لا تُؤمن عليه الفتنة "..
والمآل والمصير ومكنون الصدور وما تحويه القلوب كل ذلك - غيبٌ لا يعلمه إلا الله، فلا أدري صِدقًا من أين يأتي أخونا المُغسَّل وضامن الجنة بهذه الأطنان من التزكية للنفس وللغير والتي يُوزِّعها يمنةً ويسرةً ويكأنه يُوزِّع من إرثٍ تركه له السيد الوالد!
أيها المُزكِّي لنفسك ولغيرك! هوِّن عليك، واعرف قدرك.. فما نحن إلا عباد لله لا نملك لأنفسنا شيئًا ولولا أن يُثبِّتنا الله ويتغمَّدنا برحمته ويكلؤنا بفضله ما زكى مِنَّا أحدٌ أبدًا..
{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}.
مختارات