ولادة الدهشة.. والدهشة الخالدة !
بسم الله الرحمن الرحيم
لا أعرف كم قرأت لعلماء أو مفكرين تحدثوا عن تغير وجهة نظرهم واختلاف تقييمهم تجاه كتب معينة، سواء كانت كتبا شرعية أو فكرية أو في أي باب من أبواب المعرفة، فقد كانوا يرونها سخيفةً باهتةً وذلك حين قرؤوها في مقتبل الشباب العلمي وزمن اليفاعة المعرفية.. ثم ذكروا بأنفسهم أنهم أدركوا نفاستها الحقيقية حين عادوا إليها زمن إقبال كهولة الفكر وحلول خريف العمر، ثم أَبدوا للقراء استغرابهم حيال قصور نظرتهم الأولى وسذاجتها، وهذه مفارقة لطيفة للغاية، فالمعتاد أن العقل ينمو مع دوران عجلة الزمن وتراكم بنيان المعرفة فترتفع فيه شروط التقييم وتتنامى، ومن ثَمَّ تضمر داخله ملكة الاندهاش حتى إنها في الشيخوخة تكاد تتلاشى! فلماذا يحصل لهؤلاء الانعكاس في التقييم فتهبط عليهم سحائب الدهشة بعد أن كانت سماؤهم صحوا خاليةً منها؟!
وأنا أضرب للقارئ أمثلةً عابرةً وقفت عليها:
حدثني أحد المبرزين في علوم الحديث أنه قرأ الكتاب العبقري (التنكيل) للعلامة المعلِّمي في أوائل طلبه لعلم الحديث، فجمع من تلك القراءة القديمة فوائد يسيرة جدا من الممكن جمعها في قُصاصة صغيرة! ثم إنه عاد إلى كتاب التنكيل بعد مرور قريبٍ من عقدَين من السنين وذلك بعد أن أصبح من المتضلعين في علوم السنة الذين يشار إليهم في الساحة الحديثية بالبنان، فكانت المفاجأة أنه جمع منه فوائد غزيرة ودوَّن ملاحظات دقيقة كان قد مرَّ عليها خلال قراءته الأولى القديمة مرورَ الظامئ الذي يرى جرار الماء الممتلئة فلا يدري أن فيها ما يبلُّ جوفَه!
وسمعتُ مرةً من أحد أفراد النحاة في هذا العصر قصةً له مع كتاب (المقاصد الشافية في شرح ألفية ابن مالك لأبي إسحاق الشاطبي) وقصة هذا النحوي قريبة من قصة ذلك المحدث مع كتاب التنكيل: استهانة في القراءة الأولى ثم ولادة لبراعم الاندهاش في القراءة الثانية!
ومما قرأته من النماذج المشابهة ما ذكره الكاتب المصري جلال أمين عن قصته مع الكتاب الشهير في مصر خلال القرن الماضي (حديث عيسى بن هشام) لمحمد المويلحي.. وكيف أنه استسذجه في صباه ثم دهش به في كهولته!
ولا أريد الاستغراق خلال هذه المقالة العابرة بذكر النماذج التي تحمل مضمونا واحدا.. (الاستخفاف في الصبا.. ثم ولادة الدهشة في الشيخوخة).
وإنما أود أن أدلف إلى تحليل منطقي لهذا الانقلاب القسري في التقييم.
ربما يقال –بادي الرأي- في سبيل تفسير هذا الانقلاب في التقييم: إن شروط التقييم تنخفض إلى مستواها الأدنى في آخر العمر! وبالتالي يمسي ما لا يدهش في ميعة الصبا مدهشا خلابا زمن الشيخوخة!
وفي الحقيقة أن هذا التحليل الذي يلوح -لأول وهلة- لا تسعفه الخبرة بحقائق الحياة ومسلّمات الطبيعة البشرية، فالأطفال هم أكثر ذوي المراحل العمرية اندهاشا على الإطلاق، ومن تأمل من المربين سؤالات الأطفال أدرك أن أنهار الدهشة البشرية تتدفق أولا من نفوس الأطفال ثم تفيض فضلتها على الناس، حتى طاب لبعض الذين عَرَّفوا الفسلفة بأنها الاحتفاظ بالدهشة تجاه الأشياء. أن قالوا: (إن الفلاسفة ليسوا إلا أطفالا كبارا!)، ثم تضمر بعد ذلك ملكة الاندهاش في نفوس أكثر الخلق تدريجيا حتى تصل إلى مستوياتها الدنيا مع اضمحلال القوى الإنسانية في خريف العمر.. ولكنها تبقى نابضةً بقدر منخفض جدا، وقد روى الزجَّاجي في أماليه أنه قيل لشيخٍ من بني بكر بن وائل قد كبُر حتى ذهبت منه لذة المأكل والمشرب والنكاح: أتحب أن تموت؟ قال: لا! قيل له: فما بقي من لذَّاتِك في الدنيا؟ قال: أسمع بالعجائب! ثم أنشأ يقول:
وهُلك الفتى أن لا يراح إلى الندى *** وأن لا يرى شيئا عجيبا فيعجبا!
فالهلاك مُنْدَسُّ في كُلِّ مِعطفٍ مُغْبرٍّ خالِ من براعم الدهشة!
إذًا ما هو التحليل المنطقي لولادة براعم الدهشة في زمن عمري متأخر بعد غيابها؟!
إن الحقيقة المنزوية وراء هذا الانقلاب القسري في التقييم هي أن ثمة كتب ومعارف وشخصيات لا يمكن أن تُعرف قيمتها الحقيقية بدقة تامة إلا بعد التضلع بعدد كبير من المعارف تؤهل للحكم عليها! هناك معارف لا تُدرك إلا بمعارف! لا تستطيع أن ترى القمر ولو كان نوره يملأ الفضاء إذا كنت غافيا مسدلا جَفْنيك! وكذلك العقل يحرم من فهم بعض المعارف فضلا عن اندهاشه بها بسبب حجاب غليظ اسمه: قلة المعرفة!
هناك أعلام ومعارف بشرية يسهل إدراكها وتجاوزها وتبديد جوانب الدهشة فيها في أوائل الطلب، ومعظم المعارف والكتب داخلة في هذا القسم، بالمقابل هناك معارف وأعلام يعسر الوقوف على جوانب الدهشة فيها –فضلا عن تجاوزها- إلا بعد صعود طويل في مدارج الطلب! فكلما ازداد المرء ترقيا في المعرفة ضمرت تلك الأشياء التي تظفر بدهشته!
هذا الوضع غير المستقر للدهشة في قلبك سيمرُّ بك مع أغلب المعارف والأعلام التي تطويها خلال حياتك المعرفية.. لكنه لن يمرَّ معك مطلقًا خلال رحلتك مع القرآن إلا بصورة الدهشة المتنامية! فَمِن عظمة هذا الكتاب الخالِد الذي أنزله الله وتكلم به أن أكثر الناس تثمينا لقدره وخضوعا لجلالة إعجازه وتسليما بغزارة معارفه واندهاشا بروعة نظمه؛ هم المتضلعون بالمعارف والمتذوقون لحقائق البيان والمتبتِّلون في محراب المعرفة! فإنهم يرتقون في معارفهم فتنخفض رؤوسهم بالدهشة حياله! حتى لقد وصف الله تعالى بعضهم بقوله: (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا) ما معنى الخرور للأذقان؟ هو السقوط على الوجه.. يفعلونه ساجدين! تأمل بهاء صورة الخرور للأذقان لتدرك عظمة اندهاش الذين أوتوا العلم بالقرآن! رغم كونهم أوتوا العلم لم تبدد معارفهم روعة الدهشة بالقرآن، وعموما ستلحظ إن أحسنت التأمل ارتباطا وثيقا وخيطا رفيعا في الآيات ما بين الذين أوتوا العلم والقرآن، حتى قال الزمخشري: كأنه قيل للنبي –صلى الله عليه وسلم-: تسلَّ عن إيمان الجهلة بإيمان العلماء!
ولا يعني هذا أن القاصرين معرفيا أو لغويا لا يدركون شيئا من إعجازه ولا يفغرون فم الدهشة حيال بلاغته الأخاذة بمجامع القلوب.. بل دهشة القرآن تغمر فيوضها كل قلبٍ بشري أقبل عليه، بل إن دهشته لتمدُّ رواقَها لتشمل أحيانا حتى المعرضين بقلوبهم عنه، كما حصل مع جبير بن مطعم قبل إسلامه حين سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ سورة الطور، قال: (كاد قلبي أن يطير!).
لكن المقصود أنه هو الكتاب الذي ستظل مهما كبرت وتضلعت بالمعرفة وفقدت في سبيل ذلك ملكة الدهشة تجاه أشياء كثيرة، فستبقى كائنا مندهشا وصغيرا جدا إزاءه إعجازه!
تأمل اندهاش بحر العلوم النقلية والعقلية أبي العباس ابن تيمية حين وجد نفسه في آخر أيامه وحيدا في سجن القلعة فأقبل على القرآن إقبالا تاما، وهو لم ينقطع خلال عمره عنه، لكن تهيأ له في تلك المدة فتوحات خاصة، فقال -كما ذكر ذلك ابن رجب في ذيل الطبقات-:
(قد فتح الله علي في هذا الحصن في هذه المرة من معاني القرآن، ومن أصول العلم بأشياء، كان كثير من العلماء يتمنونها، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن).
هناك حقيقة راسخة تنطق بها الدهور المتطاولة وهي أنك مهما كثرت قراءاتك واتسعت معارفك فلن تستطيع أن تنزع من عينيك غلالة الدهشة وفرط النشوة ولذة التضلع بفهم آي الكتاب.. وذلك لأن العمر كلَّه لو أنفقته في سبيل الوقوف على بعض بواعث الدهشة في القرآن فلن تتمَّها، فضلا عن أن تتجاوزها، وستظل عند أي جانب إعجازي تطالعه تمتح من نبع اندهاش لا ينضب.. إنها الدهشة بالقرآن.. الدهشة الخالدة!
مختارات