أنماط: (20) نمط اللا مبدئيين
وهناك نمط اللامبدئيين أو تقدر تسميهم آكلو العجوة..
فمن الأخبار التي كثر ذكرها في كتب السير وأخبار الأولين؛ ما رُوِيَ عن حال العرب في الجاهلية حين كانوا أحيانًا لشدة تعظيمهم لآلهتهم يصنعون لها أصنامًا من عجوة -وذلك لارتفاع قيمة العجوة لديهم وغلو ثمنها ويعدون ذلك تبجيلًا لها وقربانًا- فكانوا يعبدونها نهارًا حتى إذا قرص الجوع أمعاءهم صبَّروا أنفسهم بقضمات من تِلكم الآلهة المزعومة، والتي كانوا منذ برهة يعظمونها، إلا أن تعظيمهم لها لم يواز تعظيمهم لشهواتهم وأهوائهم ولم يقف حائلًا بينهم وبين التهامها عندما جاعوا!
من هنا تعوَّد الأدباء والكتاب على استعمال هذا التشبيه كلما أرادوا أن يُعبِّروا عن حال أصحاب مبدأ اللا مبدأ.. من أولئك الذين يتنازلون عن قيمهم وأصولهم وثوابتهم عند المحكات ولدى أول تقاطع أو تعارض لتلك المبادئ مع مصالحهم وأهوائهم.
ويظهر آكلو العجوة كثيرًا في أيام الزخم والمتغيرات العنيفة، وانتقال مراكز الثقل والقوة فتراهم يميلون مع كل ريح، وينحنون لكل موجة ويسارعون إلى مبادئهم ليلتهموها غير آسفين ولا مستحيين!
ثلاثة أصناف رئيسية من نمط آكلي العجوة تظهر بكثافةٍ في الأيام الحاسمة والمؤثرة من تاريخ الأمم:
أولهم: أولئك القافزون من السفينة حين يشعرون ببوادر غرقها دون حتى محاولة إنقاذها أو إنقاذ ركابها..
ورغم أنهم ركبوها من قبل باختيارهم والسعادة والغبطة تتقافز من تصريحاتهم وتظهر على موالاتهم وتأييدهم وأحيانًا تطبيلهم؛ إلا أنهم فجأة تتلبسهم الثورية والمعارضة ويتقمصون دورًا طالما انتقدوا من مارسه حين كانوا منشغلين بغنائمهم ومناصبهم!
ولو كانوا من أصحاب المبادئ حقًا -كما هو المظهر الذي يحلو لهم عند قفزهم أن يظهروا به- لكانوا من البداية لم يقبلوا بركوب تلك السفينة أو على الأقل لكانوا غادروا مرفوعي الرأس بينما المركب تسير في أمان.. حينئذ ربما كانوا ليُصَدَّقوا ويقال عنهم من أصحاب المواقف..
أما حين الأزمات فعذرًا ما هم إلا آكلو مبادئ..
مبادئ من عجوة!
الصنف الثاني: هم أولئك المتلونون الذين يسارعون ويبيعون ثوابتهم وشعاراتهم لمن يمتلك القوة أو لمن يدفع أكثر..
فتجدهم يتقلبون من حال إلى حال ومن موالاة صاحب منصب إلى التزلُّف لصاحب مال ويقبلون ما كانوا يرفضونه من قبل، ويطبلون لمن ثاروا عليه بالأمس مستعيرين نفسية ميكافيللي ومعلنين أن وسائلهم الحقيرة تُبرِّرها غاياتهم المريضة! حتى وإن وطئوا في طريقهم كل ما تغنوا به يومًا ما من مبادىء وقيم وشعارات كانت على ما يبدو جوفاء، وفي أمثالهم يصدق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد الدنيا وناسك درهمها ودينارها: «إن أُعطي رضي وإن لم يُعط سخط» (جزءٌ من حديثٍ رواه البخاري).
لذلك فإنك تجد هؤلاء لا يمانعون تطبيق المبدأ الشمشوني الشهير، ويُردِّدون كلمة قدوتهم شمشون: " عليَّ وعلى أعدائي " ! ثم لا يجدون مانعًا أخلاقيًا أو مبدئيًا يحول بينهم وبين هدم المعبد على رؤوس الجميع ما داموا لم يأخذوا نصيبهم مما يظنونه كعكة ومغنمًا - أو في سبيل الخلاص من مخالفيهم وأعدائهم الأيديولوجيين..
أما الصنف الثالث: فهم أولئك الهوائيون الذين يجعلون خلافاتهم أو مشاعرهم السلبية أو الإيجابية سببًا في ابتلاع ثوابتهم وانتحار إنصافهم واختناق تجردهم.. المهم أن ينتقموا ممن يكرهون ويبدوا تشفيهم فيمن يبغضون..
طبعًا هذه الأنواع من نمط اللا مبدئيين وآكلي العجوة والقافزين من السفن مهما علا صوتهم وازدادت وقاحتهم فهم في مرحلةٍ ما ينكشفون ويفتضح أمرهم خصوصًا حين يقارنوا بالشرفاء الذين لا يُرضيهم أبدًا أن تُهان مبادئهم بهذا الشكل المؤسف، وأنْ تعامل على أنها مجرد أصنام من عجوة تلتهم حين يشتهيها المدعون الذين لا يستحقون الاحترام..
الذي يستحق الاحترام هو ذلك الذي خالف وعارض لمبدأ، ومن صدع بما يدين لله أنه الحق حين قل الصادعون وكثر المطبلون والمنتفعون فلم ينظر لمغنم وتحمل دوما المغرم..
الذي يستحق الاحترام هو من ثبت على موقفه حتى وإن اختلفت معه يومًا لكن يكفيه أنه لم يتلون ويتقافز على أنغام المصالح أو يتراقص على إيقاع المطامع..
يستحق الاحترام أيضًا من لم يضع على عينيه نظارة الكراهية السوداء لتعمي بصره وبصيرته عن رؤية ثوابته وقيمه التي طالما نادى بها، والتي ينبغي أن تظل راسخة مهما كانت مآلات الأحداث..
هؤلاء من يستحقون الاحترام والتقدير وإن اختلفت معهم في التفاصيل..
أما أولئك الذين هم لمبادئهم (العجوة) آكلون والذين هم لثوابتهم بائعون وعن قيمهم متنازلون فيومًا ما سينكشفون ويُفضَحون حين تنتهي العجوة ولا يجدوا ما يأكلوه أو يبيعوه!
مختارات