أنماط: (21) (لماذا؟)
يظن البعض أن سلسلة أنماط -والتي كتبت منها حتى الآن عشرين حلقة- تُعَد انشغالًا بعيوب الناس أو نظرة سوداوية تبرز فيها نماذج مؤسفة، والحقيقة أن الأمر ليس كذلك.. وهو إن كان يبرز بعض مواطن الخلل من حولنا والتي لا يكاد يخلو أحدنا من شيء منها إلا أن إبرازها بشكلٍ مبسَّط وبشيءٍ من التفصيل ربما يساعد على اجتنابها ويلفت انتباه البعض ممن ينطبق عليهم شيء من تلك الأنماط - إلى أن هناك مشكلة ربما لا يلحظها في خضم الصخب الحالي ولكن عند النظر إليها بمنظور عين الطائر فإن ذلك أدعى لوقفة مع النفس، ومراجعتها وتصحيح مسارها، وإن ذلك منهج قرآني معلوم.. ولو أننا تدبَّرنا آيات سورة التوبة لوجدنا أن لفظة (ومنهم) قد تكرَّرت كثيرًا جدًا والناظر لما بعدها كل مرة يجد صفة من صفات المنافقين ونمط متكرِّر من أنماطهم..
كل صفات المافقين تقريبًا ذكرت في هذه السورة ولم يكن متبقيًا إلا أن تُذكر أسماؤهم وكِناهم.
وعندما نتأمَّل تلك الآيات التي تتحدَّث عن صفات المنافقين لا ينبغي لنا أن نتغافل عن إسقاطها وقياس حالنا عليها، ولا يجب التعامل معها على أنها تتحدَّث عن فئة خيالية لا علاقة لها بالواقع المحيط بنا بل بواقع نفوسنا وأفعالنا..
لقد كان الفاروق عمر رضي الله عنه حريصًا على تبيُّن حاله وكان يسأل حذيفة رضي الله عنه -وهو من ائتمنه الرسول صلى الله عليع وسلم على أسماء المنافقين- فكان يتحرَّى أن يتبيَّن منه قائلًا: أَوَ سمَّاني لك رسول الله؟ "..
فهذا عمر الفاروق وزير رسول الله وصاحبه يسأل خائفًا على نفسه من النفاق بينما يأمن كثير من الناس اليوم تمام الأمن من تلك الآفة ويظنون أنهم بمعزلٍ عنها ويكأن بينهم و بينها حجرًا محجورا، وحجابًا مستورا..
يقول ابن أبي مليكة: " أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخشى على نفسه النفاق " ! هكذا كانوا وهكذا ينبغي أن نكون..
ولقد ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم بعض خصال وصفات المنافقين وبيَّن أنه «إذا حدّث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» (رواه البخاري ومسلم).. ثم أوضح أنه إن كانت فيه خصلة منهم كان فيه خصلة من خصال النفاق حتى يدعها ومن اجتمعت فيه فهو منافق خالص عياذًا بالله!
وسورة التوبة هي السورة الفاضحة الكاشفة التي يستطيع كل منا أن يكتشف حقيقته من خلال آياتها بعرض هذه الآفات على نفسه، وتلمُّس حالها والمسارعة إلى التوبة التي هي الحل المطروح في السورة في مواجهة تلك الفضائح والخلاص من أسر تلك الأنماط بدلًا من تركها والتستر عليها حتى تنمو وتستفحل ويصعب اجتثاثها بعد حين..
لذلك أرجو من إخواني المتابعين لسلسلة أنماط -على قلتهم وأسأل الله أن يبارك في القليل- أن ينتبهوا لهذا المعنى وأن يدركوا أن ذكر الأنماط لا يحمل استعلاءً ولا تزكيةً للنفس.. فلربما أكون أسيرًا لبعض تلك الأنماط -وأسأل الله أن يغفر ويستر- ولكنه النصح والبيان المفصَّل والله يقول {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55]..
كذلك أرجو عدم تكلُّف إسقاط تلك الأنماط على شخصٍ مُعيَّن أو فئة بعينها وقصرها وحصرها عليه أو عليهم.. ولو أردت التسمية لسميت ولتضاعف عدد المتابعين لها أضعافًا كثيرة نظرًا لكون كثير من الخلق يهوون التعيين والتراشق، لكنني آثرت الإطلاق، ورغم قلة محبيه إلا أنني وجدته أكثر نفعًا وأنضج ثمرة وأدعى أن ينتفع به الجميع بدلًا من المسارعة للدفاع عن المُعيَّن من فئته، أو النهش فيه من عدوه، فتهدر الأوقات في جدلٍ عقيم، وتُنسى الفائدة الأصلية وهي اتقاء الخلل وإصلاح النمط وتصحيح المسار.
وربما بعد الانتهاء من الأنماط المؤسفة نبدأ الحديث بإذن الله عن الأنماط المشرِّفة وذلك لنتُِمَّ الاقتداء بعد الاتقاء..
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
مختارات