فقه الإيمان بالملائكة (٣)
فالإيمان بالملائكة أحد أركان الإيمان الذي لا يتم إلا به، وهي:الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
وإذا عرفنا ذلك فيجب أن نعلم أن كل حركة في العالم العلوي والسفلي فسببها الملائكة، وحركتهم طاعة الله بأمره وإرادته، فيرجع الأمر كله إلى تنفيذ مراد الرب تعالى شرعاً وقدراً، والملائكة هم المنفذون ذلك بأمره.
فهم رسل الله في تنفيذ أوامره في ملكه: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨)} [الأنبياء: ٢٧، ٢٨].
وجميع حركات العالم العلوي والسفلي تابعة للإرادة والمحبة، وبها تحرك العالم ولأجلها، فما تحرك في العالم العلوي والسفلي إلا والإرادة والمحبة سببها وغايتها.
والملائكة هم المقسمات أمر الله الذي أمرت به بين خلقه كما قال سبحانه: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (٤)} [الذاريات: ٤].
وهم المدبرات أمر الخلائق بأمر الله كما قال سبحانه: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (٥)} [النازعات: ٥].
فالملائكة تقسم الأمر وتدبره بإذن الله، وكل منهم قد جعله الله على تدبير أمر من أمور الدنيا، وأمور الآخرة، لا يتعدى منه ما قدر له، ولا ينقص منه.
فالملائكة ينفذون أوامر الله في خلقه:
في كل حال، وفي كل وقت، وفي كل مكان، وفي كل مخلوق.
لايعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون.
فجبريل - صلى الله عليه وسلم - ينزل بالوحي على الرسل والأنبياء، ويقسم العذاب وأنواع العقوبة على من خالف أمر الله ورسله.
وميكائيل - صلى الله عليه وسلم - على القطر والنبات والبرد والثلج، يقسمهما بأمر الله على البلاد والعباد، إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
وملك الموت - صلى الله عليه وسلم - يقسم المنايا بين الخلق بأمر الله، فلا يفر من الموت أحد، ولا يموت أحد قبل أجله، ثم إلى ربهم يحشرون.
وإسرافيل يقسم الأرواح على أبدانها عند النفخ في الصور.
فتدبير أمر العالم العلوي والسفلي إنما هو بأمر الله، على أيدي الملائكة الذين يدبر الله بهم أمر العالم.
هذا مع ما في خلق الملائكة من البهاء والحسن، وما فيهم من القوة والشدة، ولطافة الجسم، وحسن الخلق وكمال الانقياد لأمر الله، والقيام بعبادته، وتنفيذ أوامره في أقطار العالم.
وكل حركة في السموات والأرض من حركات الأفلاك والنجوم، والشمس والقمر، والرياح والسحاب، والنبات والحيوان، والتراب والجبال، فهي ناشئة عن الملائكة الموكلين بالسموات والأرض ومن فيهن كما قال سبحانه: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (٥)} [النازعات: ٥].
والقرآن العظيم كلام رب العالمين نزل به الروح الأمين جبريل على قلب سيد المرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وأضاف الله القرآن إلى الرسول الملكي وهو جبريل تارة فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١)} [التكوير: ١٩ - ٢١].
وأضافه إلى الرسول البشري محمد - صلى الله عليه وسلم - تارة كما قال سبحانه: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٣)} [الحاقة: ٤٠ - ٤٣].
وإضافة القرآن إلى كل واحد من الرسولين الملكي والبشري إضافة تبليغ لا إضافة إنشاء من عنده، فهو كلام الله الذي تكلم به حقاً، وجبريل سمعه من الله، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - سمعه من جبريل، والأمة سمعته وبلغها من محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقد وصف الله رسوله الملكي جبريل بأنه كريم.
قوي.
مكين عند الرب تعالى.
مطاع في السموات.
أمين.
فهذه خمس صفات تتضمن تزكية سند القرآن الكريم، فهذا الملك الذي ألقى القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم - ملك كريم جميل المنظر كثير الخير.
وكل خير في الأرض من هدى وعلم، ومعرفة وإيمان، وتقوى وبر، فهو مما أجراه ربه على يده، وهذا غاية الكرم.
وهو ذو قوة، فبقوته يمنع الشياطين أن تدنوا منه، وأن ينالوا منه شيئاً، وأن يزيدوا في القرآن أو ينقصوا منه.
وهو قادر على تنفيذ ما أمر به لقوته، مؤد له كما أمر به لأمانته.
فهو القوي الأمين الذي تطيعه أملاك السموات فيما يأمرهم به عن الله تعالى، وله مكانة ووجاهة عند ربه، وهو أقرب الملائكة إليه، ولعلو منزلته صار قريباً من ذي العرش سبحانه.
فمحمد - صلى الله عليه وسلم - مطاع في الأرض.
وجبريل - صلى الله عليه وسلم - مطاع في السماء.
فكل من الرسولين مطاع في محله وقومه.
ووصف الله عبده ورسوله جبريل - صلى الله عليه وسلم - بهذه الصفات يدل على عظمة شأن المرسل.
والرسول.
والرسالة.
والمرسل إليه.
حيث انتدب له الكريم، القوي المكين عنده، المطاع في الملأ الأعلى، الأمين حق أمين، فإن الملوك لا ترسل في مهماتها إلا الأشراف، ذوي الأقدار، والرتب العالية، فكيف برسول ملك الملوك جبريل - صلى الله عليه وسلم -.
فعلينا أن نشعر بوجود هؤلاء الملائكة الكرام الذين هم معنا يكتبون الأعمال، والأقوال، ويحفظونها، وعلينا أن نجلهم ونوقرهم ونكرمهم ونستحي منهم.
فالملائكة هم الذين يدافعون عن المؤمن، ويستغفرون له ويدعون له، فلا يليق بالمؤمن أن ينسى جوارهم، ويبالغ في أذاهم، وطردهم عنه.
فالملك ضيف الإنسان وجاره، والإحسان إلى الجار، وإكرام الضيف من لوازم الإيمان، والملائكة المرافقون للإنسان أكرم ضيف وأعز جار.
وإذا آذى العبد الملك بأنواع المعاصي والفواحش والكبائر دعا عليه ربه، كما يدعو له إذا أكرمه بالطاعة والإحسان.
ومعنا من الملائكة من لا يفارقنا فليستح العبد منهم، وليكرمهم، وقد نبه الله على هذا بقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (١٠) كِرَامًا كَاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (١٢)} [الانفطار: ١٠ - ١٢].
أي استحوا من هؤلاء الحافظين الكاتبين الكرام، وأكرموهم وأجلوهم أن يروا منكم ما تستحيون أن يراكم عليه من هو مثلكم.
والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، وإذا كان ابن آدم يتأذى ممن يفجر ويعصي بين يديه وإن كان قد يعمل مثل عمله.
فما الظن بأذى الملائكة الكرام الكاتبين؟.
وما الظن بمبارزة الملك العظيم الجبار بالمعاصي والفواحش؟.
فما الذي غر الإنسان حتى غرق في بحر المعاصي والفواحش والمنكرات؟.
أغره حلم ربه؟، أم يظن أن الله لا يراه؟، أم استغنى بما عنده عن ربه؟، أم يحسب أنه لا يعود إليه؟.
{يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (٨)} [الانفطار: ٦ - ٨].
مختارات

