99. العلاء بن الحضرمي
العلاء بن الحضرمي
"يناضل الرياح السافيات في الربع الخالي"
غفت المدينة المحزونة الثكلى (١) على جراحها في تلك الليلة …
فقد فقدت رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وهي أشد ما تكون تعلقا به، وحاجة إليه.
غير أن خليفة المسلمين أبا بكر الصديق لم يذق للنوم طعما.
فكأنما حشي مهاده (٢) بالشوك …
أو كحلت عيناه بالجمر.
وكيف تطمئن للصديق نفس؟! …
وجل العرب قد خرجوا من دين الله أفواجا، وارتدوا عن الإسلام.
وكيف يغمض له جفن؟! …
ودولة الرسول ﷺ الكبرى؛ التي شيدت (٣) خلال ثلاثة وعشرين عاما بالجهد والجهاد، وبنيت بالأحزان والأشجان (٤)؛ حتى شملت الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها، قد انكمشت اليوم …
فأصبحت محصورة في مثلث صغير؛ رأسه في المدينة المنورة عاصمة
الدولة الإسلامية …
وقاعدته تمتد بين مكة والطائف.
* * *
ولقد جيش الصديق من هذه القلة القليلة الباقية معه على الإيمان؛ عشرة جيوش …
واختار لها عشرة من القادة الأفذاذ (٥) الذين توفي الرسول صلوات الله وسلامه عليه وهو عنهم راض …
ودفع بهم في كل اتجاه لقتال المرتدين.
وكان أشد ما يؤرقه في تلك الليلة؛ اختيار القائد الحادي عشر للجيش الذي سيوجهه إلى قتال المرتدين في البحرين، وما تلاها من بلاد جنوب الجزيرة العربية.
فقد كانت مهمة هذا الجيش محفوفة (٦) بالمخاطر …
وكان طريقه مفروشا بالشوك والعذاب.
* * *
وظل الصديق رضوان الله عليه يتقلب على مهاده حتى شق سكون الليل بلال بن رباح (٧) بصوته الشجي الندي.
فدمعت عينا الصديق عند سماع صوت مؤذن رسول الله ﷺ ولمعت في الوقت نفسه في ذهنه فكرة، أضاءت له السبيل إلى اختيار القائد المنشود.
فانبسطت أساريره (٨) السمحة …
ولاحت على وجهه الرقيق النبيل المحزون غلالة شفافة من الرضا والطمأنينة.
ولما قضيت المكتوبة؛ دعا بالقرطاس والدواة وكتب:
﷽
هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله ﷺ للعلاء بن الحضرمي؛ حين بعثه لقتال المرتدين في البحرين وما جاورها.
وعهد إليه بأن يتقي الله ما استطاع في سره، وفي جهره.
وأمره بالجد في أمر الله.
ومجاهدة من تولى عن دينه …
ورجع عن الإسلام إلى أماني (٩) الشيطان.
* * *
لقي اختيار العلاء بن الحضرمي قائدا للجيش المتجه إلى قتال المرتدين في البحرين ارتياحا كبيرا لدى وجوه المسلمين:
فالعلاء صحابي قديم الصحبة؛ وثيق الصلة بالرسول صلوات الله وسلامه عليه، وأحد كتاب الوحي، والمؤتمنين عليه.
زد على ذلك أنه هو الذي أدخل الإسلام إلى البحرين؛ دون أن يريق قطرة دم …
أو يصيب أحدا بكلم (١٠) …
وذلك حين بعثه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه إلى المنذر (١١) بن ساوى برسالة يدعوه فيها إلى الإسلام.
فما زال يتلطف به …
ويتوخى (١٢) الحكمة في عرض الإسلام عليه …
حتى أعلن إسلامه هو وقومه.
فأقره الرسول ﷺ على ملكه …
وولى العلاء بن الحضرمي على الصدقات …
وأمره أن يأخذ الزكاة من الأغنياء، وأن يضعها في الفقراء.
وظل العلاء في عمله هذا إلى أن توفي الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
ولحق به الملك المنذر بن ساوى في نفس الشهر عليه رحمة الله.
* * *
لم يكن أمام العلاء بن الحضرمي وجيشه الغازي في سبيل الله من طريق يسلكونه إلى البحرين سوى صحراء الدهناء (١٣).
تلك الصحراء التي كانت مخوفة آنذاك وما تزال مخوفة إلى اليوم، والتي تعرف الآن بالربع الخالي (١٤).
فمضى الجيش المؤمن المبارك يطوي المفاوز (١٥) طيا.
وهو في حرب ضروس (١٦) مع الرياح السافيات (١٧) …
ونضال مرير مع الرمال العاتيات (١٨).
وصراع رهيب مع الطبيعة القاسية …
حيث لا ماء، ولا شجر، ولا حياة.
* * *
وفيما كان القوم على حالهم هذه؛ نزل بهم ما لم يقع في حسبان حاسب …
أو يرق إليه خيال متخيل.
ففي مساء ليلة ضريرة النجم؛ حالكة الجلباب (١٩) …
نزل الجيش عن جماله طلبا للراحة …
وترقبا لانبلاج الفجر المبصر.
إذ لم يكن في وسعهم أن يمشوا في الليل؛ خوفا من الضياع في هذه الصحاري التي لم تخطط بها قدم طريقا …
ولو خطته؛ لأتت عليه الرمال السافيات في بضع لحظات.
فما كادوا يستقرون على الأرض … حتى هب جمل من جمالهم مذعورا (٢٠) لسبب لم يعرفوه.
.
وانطلق يعدو كالمجنون في تلك الفيافي (٢١) المظلمة.
فاستثيرت لذعره الجمال الأخرى جميعها.
واندفعت تجري وراءه؛ كأنما ركبها ألف عفريت …
أو لدغ كلا منها ألف ثعبان.
وقد حاول الرجال الأشداء أنضاء (٢٢) الصحراء أن يوقفوا هذه الحيوانات الهائجة المائجة، أو يلحقوا بها.
لكنهم ما لبثوا أن أضلوها وأضلتهم.
كأنما ابتلعتها الصحراء.
وفي لحظات قليلات؛ وجد الجيش نفسه في تلك المفاوز المهلكة بغير ماء …
ولا زاد …
ولا راحلة …
ولا أمل …
* * *
لك أن تتصور - أيها القاري - ما دهم (٢٣) نفوسهم من كرب.
ولك أن تتخيل ما صدع أفئدتهم من خطب.
ولك أن تطلق العنان لخيالك المجنح؛ لترى ما الذي كان يعتلج في أغوار تلك الصدور …
لقد أيقنوا أنهم هالكون لا محالة.
وأن هذه الصحراء ستطويهم في جوفها الكبير؛ كما يطوي البحر المحيط في أحشائه حفنة (٢٤) من الرمال.
وأنهم سيبقون سرا من أسرار هذه المفاوز الرهيبة لن تبوح (٢٥) به لأحد.
وجعل بعضهم يوصي بعضا …
وهم على يقين بأنه لن يخرج من بين فكي (٢٦) هذه المهلكة أحد سالما.
ولكنها سنة الحياة.
* * *
عند ذلك …
أقبل القائد الملهم تلميذ المدرسة المحمدية الفذة الفريدة على جنده، وقال لهم في لهجة المطمئن الواثق (٢٧):
ما هذا الذي غلب عليكم من الجزع (٢٨) والهلع والهم؟!
فقالوا: ما بالك تلومنا؟! …
ونحن إن بقينا إلى غد وأسلمنا الليل إلى النهار؛ فإن الشمس لا تلبث أن تهلكنا عطشا قبل أن يرتفع قرصها (٢٩) إلى قبة (٣٠) الفلك.
فقال لهم: إني لعلى ثقة بأنكم لن تصابوا بضر أبدا.
فأنتم المسلمون لله …
المؤمنون به …
في سبيله خرجتم.
.
وانتصارا لدينه نهضتم …
فأبشروا بفرج من عنده …
ووالله! إنكم لن تخذلوا، ولن تصابوا بما يسوءكم …
وإن فرج الله أقرب إليكم مما تظنون.
* * *
نزلت كلمات القائد المؤمن في أفئدة رجاله منزلة الماء العذب البرود من ذي الغلة (٣١) الصادي.
فسكنت نفوسهم …
واطمأنت قلوبهم …
وأسلموا أعينهم إلى الكرى (٣٢).
ولما انبلج (٣٣) الفجر؛ تيمموا صعيدا طيبا.
ووقفوا بين يدي ربهم خاشعين مخبتين (٣٤).
فلما انتهت الصلاة …
استدار العلاء بوجهه نحوهم، ورفع كفيه نحو السماء.
وجعل يدعو الله ﷿ بقلب ضارع، وطرف دامع …
ونفس مؤملة راجية.
وهم يدعون بدعائه، ويؤمنون على رجائه.
فلم يفرغ من نجواه لربه … حتى لاح لهم الماء من بعيد.
وجعلت صفحته الفضية تلتمع تحت تباشير الصباح (٣٥) …
فحسبه الجند أول الأمر سرابا (٣٦) كذلك الذي يراه المرء في الصحراء …
فلما أقبلوا عليه وجدوه ماء …
فجعلوا يهللون ويكبرون.
وطفقوا يشربون ويغتسلون.
ولبثوا عنده ينتظرون بقية فرج الله.
وما كاد ينتصف النهار؛ حتى رأوا من بعيد أشباحا تتجه نحوهم.
فحددوا نحوها النظر …
فإذا هي تدنو منهم شيئا فشيئا.
وما هو إلا قليل …
حتى أيقنوا أنها جمالهم تسعى إليهم؛ وكأن حاديا (٣٧) يسوقها نحوهم سوقا.
ومن خلال دموع الفرح بفرج الله ﷿، والأمل بنصره …
رأوا عيرهم تقبل جميعا على الماء؛ كما ذهبت جميعا.
وعليها أقتابها (٣٨) …
وأحلاسها (٣٩) …
والمؤونة والزاد.
_________
(١) الثكلى: المتألمة لفقد عزيز لديها.
(٢) مهاده: فراشه.
(٣) شيدت: بنيت.
(٤) الأشجان: الأحزان والهموم.
(٥) الأفذاذ: المتميزون الذين لا نظير لهم.
(٦) محفوفة: محاطة.
(٧) بلال بن رباح: انظره في الكتاب الخامس من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(٨) أساريره: محاسن وجهه.
(٩) أماني الشيطان: أكاذيبه التي يوسوس بها للإنسان.
(١٠) بكلم: بجرح.
(١١) المنذر بن ساوى: هو ملك البحرين في زمن ظهور النبي ﷺ، والبحرين في ذلك الوقت هي الإقليم الممتد على ساحل الخليج بين عمان والبصرة.
(١٢) يتوخى: يتحرى ويقصد.
(١٣) صحراء الدهناء: موضع من بلاد بني تميم مسيرة ثلاثة أيام لا ماء فيه.
(١٤) الربع الخالي: صحراء رملية في جنوب شرق الجزيرة العربية، وتعد من أكبر الصحاري الرملية بالعالم.
(١٥) المفاوز: الصحاري.
(١٦) الضروس: الشديدة المهلكة.
(١٧) السافيات: التي تثير التراب.
(١٨) العاتية: الجبارة.
(١٩) ضريرة النجم؛ حالكة الجلباب: كناية عن شدة الظلام.
(٢٠) مذعورا: فزعا خائفا.
(٢١) الفيافي: الصحاري الواسعة.
(٢٢) أنضاء الصحراء: الذين هزلت أجسادهم وإبلهم من كثرة اجتياز الصحراء.
(٢٣) دهم: غشي واحتل.
(٢٤) الحفنة: ملء الكفين.
(٢٥) تبوح به: تظهره وتكشفه.
(٢٦) فكي هذه المهلكة: يقصد الصحراء.
(٢٧) الواثق: المتأكد.
(٢٨) الجزع والهلع: الخوف والرعب.
(٢٩) قرص الشمس: عينها.
(٣٠) قبة الفلك: أعلاه.
(٣١) ذو الغلة الصادي: العطشان.
(٣٢) الكرى: النوم.
(٣٣) انبلج: أضاء وأشرق.
(٣٤) مخبتين: خاشعين لله.
(٣٥) تباشير الصباح: أوائله.
(٣٦) السراب: ما تراه نصف النهار لاصقا بالأرض فتحسبه ماء جاريا.
(٣٧) الحادي: الذي يزجر الإبل ويسوقها.
(٣٨) الأقتاب: الرحال التي توضع على ظهور الجمال.
(٣٩) الأحلاس: كل ما يوضع على ظهر الدابة تحت الرحال والسروج.
مختارات