الصفة الثانية عشرة من صفات المؤمنين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إن من صفات المؤمنين التي أثنى الله بها عليهم، وبيّن أنها من أسباب الرحمة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الله -تعالى-: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
ثم ذكر الله جزاءهم الطيب وثوابهم الجزيل فقال: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوصاف الذين ينصرون الله الموعودين بنصر الله، قال الله -تعالى-: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ.
وهذه الأمة المحمدية جعلها الله خير أمة بأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، مع الإيمان بالله، قال الله -تعالى-: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.
وأوجب على هذه الأمة أن تكون منها طائفة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأخبر أنهم -بذلك- صاروا من أهل الفلاح، ونهاهم عن التفرق والاختلاف؛ لأنه من أسباب الهلاك، فقال: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
وأثنى الله على طائفة من أهل الكتاب وذكر أن من أوصافها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبين أنها داخلة في عداد الصالحين، فقال -تعالى-: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ.
ونعت الله المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم إذ بذلوها في سبيله، وعاوضهم بها الجنة، ونعتهم بصفات جميلة وخلال جليلة، ومن هذه الصفات أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فقال -تعالى-: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ.
ثم نعتهم فقال: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.
وقد أمر الله نبيه أن يأمر عباده بالمعروف، فقال: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ والمراد بالعرف المعروف، وكل ما يعرفه الشرع، ويدخل في ذلك جميع الطاعات، فالأمر بالمعروف دعوة إلى الله وإلى شرعه، فهي سبيل الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسبيل أتباعه، قال الله -تعالى-: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي.
وقد أمر الله نبيه أن يدعو إلى سبيله، وأن تكون دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي أحسن، فقال -تعالى-: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وخطاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- خطاب لأمته فتكون مقصود بالخطاب.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلق من أخلاق المؤمنين ووصف من أوصافهم الحميدة، وما ذاك إلا لأنه دعوة إلى الله وإلى دينه، وما انتشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها إلا بالدعوة إليه، وبيان محاسنه وفضائله وآدابه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن الداعية إلى الله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد أن يصيبه أذى، فهو محتاج إلى الصبر على ما يصيبه من أذية الناس له بالقول أو بالفعل، ومن وصية لقمان الحكيم لابنه فيما حكى الله عنه إقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى، قال الله -تعالى- حكاية عنه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ.
وقد أقسم الله -تعالى- أن كل إنسان خاسر إلا من آمن وعمل، ودعا إلى الله، وصبر على ذلك، فقال -تعالى-: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ.
فشملت هذه السورة -على قصرها- جميع شرائع الإسلام، وعلى ما فيه الربح والفلاح والفوز وهو الإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ولذلك يقول الإمام الشافعي -رحمه الله-: لو لم ينزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ينبغي له أن يعرف ثلاثة أمور قررها أهل العلم:
الأول: أن يعرف ما يأمر به وما ينهى عنه.
الثاني: أن يكون رقيقًا فيما يأمر به، وفيما ينهى عنه.
الثالث: أن يكون صابرًا على ما يصيبه من الأذى في ذلك.
كما قرر أهل العلم أنه إذا كان يحصل بسبب إنكار المنكر افتراق، أو كان يترتب على إنكاره حصول منكر أعظم منه لم يجز إنكاره؛ لأن الإنكار في هاتين الحالتين مضرة على الدين والدنيا، والمسلم يسعى فيما فيه صلاح دينه ودنياه، فالواجب على من أراد إنكار المنكر أن يعرف -أولًا- أن هذا مخالف لأمر الله، فإن المعرفة أول درجات الإنكار، فلا يجوز إنكار مسألة لا يعرف حكم الله فيها، ثم يجب عليه -ثانيًا- إذا ذُكر له منكر التثبت وعدم التسرع والعجلة؛ لأن الله -تعالى- يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا.
فإذا ظهر وتبين وتحقق أنه منكر، وجب عليه -ثالثًا- الإنكار بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، فإن ذلك أدعى إلى القبول، قال الله -تعالى-: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.
وإذا كان الله -تعالى- نهى عن مجادلة من لم يظلم من أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن في قوله -تعالى-: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فغيرهم من الأمة المحمدية أولى بأن لا يجادل من لم يظلم منهم إلا بالتي هي أحسن، ثم إنه يجب على المُنْكِر -رابعًا- أن يعمل بالظاهر، وأن لا ينقّب عن السرائر، ويفتش عن ما خفي أمره.
فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعرف منافقين بأعيانهم ويقبل علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، فإذا ظهر منهم وتحقق ما يوجب جهادهم جاهدهم، وكذلك كان الصحابة -رضي الله عنهم- فإن عمر قتل منافقًا أظهر نفاقه، وأعلن أنه لم يرض بحكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صفة المؤمنين الموعودين برحمة الله -تعالى-، وما ذاك إلا لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحصل به مصالح عديدة من انتشار فضائل الإسلام ومحاسنه، وتقليل الشر والفساد.
ولذا عدّه بعض العلماء ركنًا سادسًا من أركان الإسلام، وكان يجب أن يكون الرفق والحكمة من صفات الآمر والناهي ؛ لأن الاستجابة والقبول -في الغالب- أثران من أثر الرفق والحكمة، وكثير من القضايا يستجاب فيها لمن يرفق، ولا يستجاب لمن يعنّف أو يشتد، وإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على الشدة، والله -تعالى- يقول لنبيه الكريم: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.
وإنكار المنكر يجب بحسب الاستطاعة، فهو فرض باليد واللسان والقلب مع القدرة، فأما فرضه باليد واللسان فإنه من فروض الكفايات؛ إذا قام به طائفة سقط عن الباقين، وإن تركوه كلهم أثموا، وأما القلب فلا يسقط عنه بحال، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- وفي رواية: وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل.
وإن خاف من إنكار المنكر باليد أو باللسان حصول منكر أعظم سقط الإنكار وأنكر بقلبه، فقد نصّ العلماء على أن المنكر إذا لم يحصل إنكاره إلا بحصول منكر أعظم منه أنه لا ينبغي، وذلك لأن مبنى الشريعة على تحصيل المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من آكد الأصول الإسلامية، وأوجبها وألزمها، وقد ألحقه بعض العلماء بالأركان التي لا يقوم بناء الإسلام إلا عليها، وعند أكثرهم هو من فروض الكفاية لا يسقط عن المكلفين إلا إن قام به طائفة يحصل بها المقصود الشرعي.
وفرض الكفاية آكد من فرض العين من جهة متعلقة؛ لأن الخطاب به لجميع الأمة، والنصوص الشرعية الدالة على وجوبه لا تخفى على آحاد العامة من المسلمين فضلًا عن الطلبة والمتعلمين وإنما أُرسلت الرسل وأُنزلت الكتب للأمر بالمعروف الذي رأسه وأصله التوحيد، والنهي عن المنكر الذي رأسه وأصله الشرك، وشرع الجهاد لذلك، وهو قدر زائد على مجرد الأمر والنهي، ولولا ذلك ما قام الإسلام ولا ظهر دين الله ولا علت كلمته، ولا يرى تركه والمداهنة فيه إلا من أضاع حظه ونصيبه من العلم، وتركه على سبيل المداهنة والمعاشرة، وحسن السلوك كما يفعله بعض الناس أعظم ضررًا، وأكبر إثمًا من تركه لمجرد الجهالة.
إذ أن هذا الصنف من الناس رأوا أن السلوك وحسن الخلق، ونبل المعيشة لا يحصل إلا بذلك فخالفوا الرسل وأتباعهم، وخرجوا عن سبيلهم ومناهجهم؛ لأنهم يرون العقل إرضاء الناس على طبقاتهم مسالمة لهم، واستجلابا لمودتهم ومحبتهم، وهذا مع أنه لا سبيل إليه فيه إيثار للخطوط النفسانية والدعة والراحة، وترك المعاداة في الله، وتحمّل الأذى في ذاته، وهذا في الحقيقة هو الهلكة في الآجلة، فما ذاق طعم الإيمان من لم يوال في الله ويعاد فيه، فالعقل والرزانة والرشد في ما يوصل إلى رضى الله ورسوله، وهذا إنما يحصل بمراغمة أعداء الله، وإيثار مرضاة الله، والغضب إذا انتهكت محارم الله.
وقد دلت النصوص على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى وجوبه، وأن القائم به خير الناس وأفضلهم، وأن الخيرية لا تحصل إلا بذلك، وأن الفلاح محصور في أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الفوز بالسعادة الأبدية، وقد وردت نصوص كثيرة في الوعيد على تركه، مثل قوله -تعالى-: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ.
ففي هذه الآية لعنهم على ألسن أنبيائهم بترك النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، واللعن هو الطرد والإبعاد عن الله وعن رحمته، وجاء في معنى الآية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديث: إن من كان قبلكم كانوا إذا عمل العامل فيهم بالخطيئة جاءه الناهي تعذيرًا، فإذا كان الغد جالسه وواكله وشاربه، كأنه لم يره على خطيئة بالأمس، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ثم لعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، والذي نفس محمد بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه عن الحق أطرًا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم
.
وذكر ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن عمرو الصنعاني قال: أوحى الله -عز وجل- إلى يوشع بن نون إني مهلك من قومك أربعين ألفًا من خيارهم، وستين ألفًا من شرارهم، قال: يا رب هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار، قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يواكلونهم ويشاربونهم.
وذكر أيضا من حديث عمر لينقضنّ الإسلام عروة عروة حتى لا يقال: الله الله، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم، ولتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليبعثن الله عليكم من لا يرحم صغيركم ولا يوقر كبيركم.
وفي المسند مرفوعًا: يا أيها الناس، إن الله يقول: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيبكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتسألوني فلا أعطيكم.
وفي حديث ابن عباس وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا لم ترفع أعمالهم ولم يسمع دعاؤهم.
وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: " يوشك القرى أن تخرب وهي عامرة، قالوا: كيف تخرب وهي عامرة؟ قال: إذا علا فجارها أبرارها، وساد القبيلة منافقوها " .
وفي بعض الآثار: أن الله أوحى إلى جبرائيل أن اخسف بقرية كذا وكذا، فقال: يا رب، إن فيهم فلانًا العابد قال: به فابدأ، إنه لم يتمعّر وجهه فيّ قط، وذكر ابن عبد البر أن الله بعث ملكين إلى قرية ليدمراها، فوجدا فيها رجلًا قائمًا يصلي، فقال الله -عز وجل-: دمّراها، ودمّراه معهم، فإنه ما تمعّر وجهه فيّ قط ". "
فإنكار المنكر -أيها المسلم- والغضب لله ينشأ من حياة القلب وغيرته وتعظيمه، وإذا عدم الحياة والغيرة والتعظيم، وعدم الغضب والاشمئزاز، وتساوى عنده الخبيث والطيب في معاملته وموالاته ومعاداته، فأيّ خير يبقى في قلبٍ هذا شأنه، ولو لم يكن إلا مشابهة المغضوب عليهم والضالين في الإنس بأهل المعاصي، ومواكلتهم ومشاربتهم لكفى بذلك عيبًا وذمًّا.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوام دين الله -عز وجل- وتركه وإهماله، سبب لحلول العقوبات والمثلات، والطرد والإبعاد عن رحمة الله، كما قال -تعالى-: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثم بيّن سبب اللعن فقال: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ.
وقد قصّ الله علينا في القرآن الكريم قصة أصحاب السبت لنأخذ العبرة لئلا يصيبنا ما أصابهم، وأن أهل هذه القرية صاروا إلى ثلاث فرق: فرقة ارتكبت المحذور واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت الذي نهاهم الله عن الاصطياد فيه، وفرقة أخرى نهتهم عن ذلك واعتزلتهم، وفرقة سكتت، فلم تفعل المنهي عنه ولم تنه عن فعلته، ولكنها قالت للفرقة المنكرة: لم تنهون هؤلاء، وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من الله، فلا فائدة في نهيكم إياهم، فقالت الفرقة المنكرة لهم: نفعل ذلك معذرة إلى ربكم فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولعل لهذا الإنكار يؤثر فيهم فيتّقون ما هم فيه ويتركونه، ويرجعون إلى الله تائبين، فلما أبى الفاعلون للمنهي عنه قبول النصيحة نجّى الله الناهين، وأهلك الظالمين.
وانظر -أخي المسلم- إلى هذه الآيات التي يقصها عليك رب العزة والجلال في شأن أصحاب السبت وفرقهم الثلاث، يقول الله -تعالى-: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ.
فنص الله على نجاة الناهين وهلاك الظالمين، وسكت عن الساكتين؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فهم لا يستحقون مدحا فيمدحون ولا ارتكبوا عظيمًا فيذمون، ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم: هل كانوا من الهالكين أو من الناجين؟ على قولين:
أحدهما: أن الساكتين كانوا من الناجين.
والثاني: أن الساكتين كانوا من الهالكين.
قال أبو زيد نجت الناهية، وهلكت الفرقتان، وهذه أشد آية في ترك النهي عن المنكر(ولكن الشيطان قد فتح للكثير من الناس أبوابا من الشر في إسقاط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألقاها على أناس يظنون أنهم مهتدون فاعتقدوها أعذارًا لهم، وإنما هي من زخارف الشياطين).
نسأل الله العفو والعافية، فان هؤلاء قد التمسوا رضى الناس بسخط الله، ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس.
نستجير بالله من غضبه ومن أليم عقابه، ونعوذ برضاك -اللهم- من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا نحصي ثناء عليك.
أخي المسلم: إن من حكمة الله -تعالى- أن ابتلى عباده المؤمنين الداعين إلى الله، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، أتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى دين الله، ابتلاهم بثلاثة أصناف من الناس، وكل صنف له أتباع، الصنف الأول: من عرف الحق فعاداه حسدًا وبغيًا كاليهود فإنهم أعداء الرسل والمؤمنين كما قال -تعالى-: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ وقال: وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
الصنف الثاني: أهل الأموال الذين فتنتهم دنياهم وشهوتهم، فهم لا يقبلون الحق لما يعلموا من أن الحق يمنعهم من كثير مما أحبوا وألفوا من شهوات، فلم يعبئوا بداعي الحق، ولم يقبلوا منه، والناس تبع لهم في ذلك، وقد قال الله في هذا الصنف: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
الصنف الثالث: الذين نشئوا في باطل وجدوا عليه أسلافهم، فهم يظنون أنهم على حق، وغيرهم على الباطل، فهؤلاء لا يعرفون إلا ما نشئوا عليه، وهم يحسبون إنهم يحسنون صنعًا، وقد قال الله على هذا الصنف: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ وقال: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ.
وكل هذه الأصناف الثلاثة وأتباعهم أعداء الحق من لدن زمن نوح -عليه الصلاة والسلام- إلى أن تقوم الساعة، فالواجب على المسلم أن يقوم بهذا الواجب العظيم -واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر-، وليعلم أن الله مبتليه في هذه الحياة الدنيا ليظهر صدقه وصبره، ووقوفه أمام الحق ودعوته إلى الله، وإلا فالله قادر على هداية الناس في لحظة واحدة، قال الله -تعالى-: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ولا تجوز المداهنة في دين الله، وكم كان الكفار يودّون مداهنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ.
والعقوبات إذا نزلت فالمداهن داخل فيها، كما قال الله -تعالى-: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ؛ لأن الساكت المداهن عاصي لله ورسوله، ويشهد لهذا ما جاء عن بعض السلف " أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، والمتكلم بالباطل شيطان ناطق " .
فلو علم المداهن الساكت أنه من أبغض الخلق عند الله، وإن كان يرى أنه طيب لتكلم وصدع بالحق، ولو علم طالب رضى الخلق بترك الإنكار عليهم أنه عاصي لله تارك للواجب، وإن كان يظن أنه مطيع لله من مداهنته ونزع، ولو تحقق من بخل بلسانه عن الصدع بأمر الله إنه شيطان أخرس، وإن كان صائما قائما لما اختار مشابهة الشيطان لسكوته عن الحق.
وفي الحديث، عن النعمان بن بشير مرفوعا: مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة، فصار لبعضهم أعلاها ولبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعًا أخرجه البخاري والترمذي عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
فتأمل هذا الحديث، فإنه كاف لك في معرفة عظم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفق الله الجميع لمرضاته.
مختارات