سلمان العودة..وإشكالية الجغرافيا
كانوا يقولون إن الحديث عن الجن والسلاح وغيرها من الموضوعات المثيرة إن ابتدأ في مجلس لا يكاد ينتهي ؛ لأنها أحاديث تنطوي على غرائب ومفاجآت، ولعل الحديث عن الشيخ " سلمان العودة " يندرج ضمن هذه الأحاديث المثيرة، فهو شخصيّة كونت بقلقها قلقاً ثقافيا جعل الكثير يتعاطى بحساسية مع هذه الأيقونة: المادحون والقادحون، المحبّون والشانئون، الراضون والمعترضون على حد سواء !
فانحسرت الواقعية عن هذه الشخصية لتحل مكانها مؤشرات رمزيّة وبات العودة قريباً من النماذج الأدبيّة سواء التاريخي منها أو الأسطوري.. والذي يجبرك في كثير من الأحيان أن تتحدث منه لا عنه.. ويجعل الكثير من القصص والآراء تحتفَّ حوله و التي يكون بعضها صحيحاً وكثير مجتزأً أو مبالغاً فيه.
وأتذكر وأنا أتأمل هذه الشخصية مقولة ابن رشيق القيرواني عن المتنبي: " ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس ".
فقد كان _ أعني المتنبي _ قلِقاً: في شعره وحياته وخيالاته..اختصر نفسه في بيته الشهير:
على قلق كأن الريح تحتي ** أوجهها يميناً أو شمــــــــــــــــــــالاً..
فأنتج هذا القلقُ قلقاً ثقافياً قال عنه:
أنام ملء عيوني عن شواردها ** ويسهر القوم جرّاها ويختصمُ
في البداية يجب أن أعلن رفضي لكثير من آراء وتصريحات العودة فكما أن له منهجه الذي يصدر عنه فلي منهجي الذي أقبل أو أرفض على ضوئه الآراء والتصريحات.. ولكني لم أنشئ هذه المقالة لأطوف حول المختلف، وإنما لأحلل شيئا آخر يتعلق بهذه الشخصية أظن أنه سيفيدني وغيري وسيرفع كثيراً من علامات التعجّب التي تخلقها تصريحات العودة بعد كل قضيّة مؤرقة في السعودية.
يظهر لي أن العودة شخصيّة لا جغرافيّة، ولأننا جغرافيّون بدرجة كبيرة حاولنا أن نسقط الجغرافيا عليه أو أن نسقطه هو على الجغرافيا فنشأت على ضوء هذه العمليّة البسيطة أعقد الاختلافات !
وقبل تفصيل الكلام ما معنى: شخصية غير جغرافيّة؟
أعني بهذا التركيب أن هناك أشخاصا: علماء ومفكرين وسياسيين.. تدفع بهم ظروفهم العلمية وعبقرياتهم الخاصة ليتعالوا على محيطهم وأوطانهم ليغدوا حقاً مشاعاً يتنازعه أكثر من جانب، فليسوا ملكاً لوطن في أفكارهم وتصريحاتهم وآرائهم وإنما بات حجم أفكارهم أعرض بكثير من جوازات سفرهم.. فتنشأ الإشكاليات من محاولات مواطنيهم أن يجعلوا لأفكارهم نفس جنسياتهم ولو ألغوا هذا الإجراء لأراحوا واستراحوا !
العودة وإن كان سعوديّ الجنسيّة كمواطن له شخصيّته وهويّته، إلا أنّه غير سعوديّ الفكرة بل هو على الحقيقة بات عالميّ الفكر، وعلى هذا لم تعد تصريحاته متأثرة بمنظومة العادات والتقاليد والاختيارات الفقهية المنتمية للبيئة السعودية، بل صار يستفيد _ بحكم سفره الكثير وقراءته وتأملاته _ من مدارس فقهية واجتهادات متعددة شكّلت سلمان العودة العالميّ..
بالطبع أنا هنا لا أمتدح ولا أقدح في هذه الصفة، ولكني أحاول فهم سبب تلك الربكة التي تحدثها تصريحات الشيخ بين الفينة والأخرى.. خاصة وأنا _لاعتبارات عديدة مقتنع بها_ أرفض كونها صادرة عن هوى مجرّد !
هناك عمليّة بسيطة إن أجريناها ارتحنا كثيراً من تلك الفكرة التي تجعل البعض يصنف العودة على أنّه أفغانيّ السعودية، أو كواكبي القصيم، أو محمد عبده العصر الحديث.. هذه العملية تكمن في أن نخرج هذا الرجل من سجن الجغرافيا لندخله في الفضاء التاريخي، عند ذلك فقط نستطيع أن نفهم الكثير من آرائه التي تبدو غريبة.. نفهم لا أن نقتنع !!
أنا _ على الأقل _ لن أستطيع بأي حال أن أعتبر العودة بلعام بن باعوراء " الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين "، ولن أتخيله أبداً غاشّاً أو كاذباً أو مرتزقاً أو غير ذلك من المترادفات.. نعم أنا لا أقبل لا بالطول وبالعرض الكثير من آرائه ولكن هذا لن يجعلني أضحّي بما أعتقده، وهو أنّه صادق ومخلص ومجتهد.. حتى وإن خانه اجتهاده في بعض المسائل..
وهناك عمليّة أخرى بسيطة أيضاً لو قام بها العودة لارتاح من كم كثير من الهجوم والظنون، ألا وهي أن يخرج نفسه من سلطة الجغرافيا وأن يغض طرفه ما استطاع عن القضايا الحساسة المنتمية لوطنه الجسدي ليتحدث بدلا عن ذلك عمّا يؤرق وطنه الفكري.. الممتد على طول العالم الإسلامي وعرضه..
وما يجعلني أقول ذلك هو أن القضايا السعودية _ وغير السعودية_ سواء كانت دينية أو اجتماعية تخضع لمؤثر العادات والتقاليد والاختيارات الفقهية وما إلى ذلك مما يؤطّر الحديث عنها ويجعل مساحة التعبير عنها ذات حدود.. لا تؤمن بها عقلية العودة التي باتت عاداتها واختياراتها أوسع وأضخم..
هذا ما يخلق الكثير من الغرابة في تصريحات العودة، فعندما تسمع أو تقرأ ما يقوله عن قضيّة ما تشعر أن بإمكانك أن تمسح اسم العودة وتضع مكانه اسم أي عالم سوداني أو مصري أو تونسي ليصبح ذلك القول أكثر اتصالا بقائله وتواؤما مع بيئته، لأنك تقرأ كلاماً لا أقول إنه غير متأثر بكيمياء البيئة بل وكأنه لا يعرف عنها شيئا، ولم يسمع بها في حياته، ولم يكن في حين من الدهر جذيلها المحكك وعذيقها المرجّب.
ولنتخيل جميعاً كيف ستتغير نظرة ناقديّ العودة لو أنّه كان مصريّ الجنسية مثلاً؟ وكيف سيتحوّل من مغضوب عليه إلى مرضيّ عنه ! فكثير من آراء الشعراوي مثلاً لم تحم آراء الشيخ العودة حولها، وجرأة الشيخ محمد الغزالي لا تعتبر جرأة العودة عندها إلا محاولات عاثرة، وغرائب خالد محمد خالد وجنوحه الفكري لا نقارن به اجتهادات العودة.. ومع هذا كلّه تجدنا نوصي بالاستماع لخواطر الشعراوي وقراءة كتب الغزالي وتأمل الناشئة " لرجال حول الرسول " لخالد محمد خالد...
وقد حفظ لنا التاريخ شخصيات عديدة مارست ضدّها الجغرافيا صنوفاً من التهميش، فالبخاري هذا العظيم تاريخياً كان مطروداً جغرافيّا، قل مثل ذلك في ابن تيمية نزيل سجون الطغاة والذي ما إن نجا _ بموته _ من سطوة الجغرافيا حتى جعل منه التاريخ أسطورة عظيمة..
ولو تأملنا قليلاً ما عرف عن الإمام الشافعي من تغير فتاويه ومذهبَيه القديم والجديد، لتيقنا أنه لا يمكن لمثله أن يتبنى أفكاراً جديدة في مدّة وجيزة، وأن الخمسة أعوام التي قضاها آخر حياته في مصر والتي كان في أربع منها يعاني المرض لم تكن لتخلق ذلك الاختلاف الكبير في آرائه ! وأننا لنفهم ذلك التغير والذي أملى على ضوئه مدوّنته العظيمة " الأم " لا يمكن أن نخرج من فكرة أنها آراء ناضجة منذ أكثر من عقد من الزمن، وأنّه زاولها تمحيصاً وتأملا حتى استوت على سوقها فاختار لنفسه جغرافيا مناسبة لفكره المتطوّر عن آراء المدارس التي استقى منها ثقافته وهي: المدرسة المالكية متمثلة في شيخه الإمام مالك الذي درس على يديه الموطّأ، والمدرسة الحنفية والمتمثلة في قراءته لكتب إمامي المذهب الحنفي: أبي يوسف ومحمد بن الحسن، والمدرسة الحنبلية المتمثلة في علاقته الحميمة العلمية والأخوية بالإمام أحمد..
فكان الإمام الشافعي ذكياً عندما اختار بيئة مناسبة لفكره، فصنع مذهبه المستقر في خمسة أعوام كان مريضاً في أكثرها، ولكنّه عرف كيف يستغل طاقة الجغرافيا، فلم يعاند مكّة وإنما صادق مصر !
ومع الفارق _ بل الفوارق_ إلا أنه يبدو أن الشيخ العودة فعل قريباً مما فعله الإمام الشافعي (أعني في تطوير فكره وتحوير منهجه).. إلا أنه لم يصادق مصر وإنما عاند السعودية !
الذي أخشاه وهو الذي دفعني أن أكتب هذه المقالة وأنا في أشد حالات التذمر من بعض آراء العودة والتي كان آخرها ما يتعلق بقضية " كشغري " أقول: الذي أخشاه هو أن نكون مارسنا شيئا من الظلم تجاه شخصية الشيخ سلمان، وأن نكون لم نحسن فهمها، وأننا لو اتبعنا شيئا من التحوير في التعاطي معها قد نتقبّلها أو نتفهمها وأنا أعني الفئة الرافضة لبعض أفكاره لا المؤيّدة والسعيدة..
وليس بالضرورة أن يكون المادحون قد فهموا معادلة " الشخصية غير الجغرافيّة " فقد يكون فرح البعض بآراء العودة من باب: ليس حبا في علي وإنما كرهاً لمعاوية. فليس صحيّا أن يضحي الإنسان برأيه المعجون ببيئته ونفسيّته وتربيته لأجل قول شيخ كاريزمي الشخصية، بل قد يدل هذا على نقص في الديانة وأنه لا يميّز ما يعتقده. وأيضاً أنا هنا لا أعمم. ولكن يعجبني كثيراً أولئك الرافضين لكثير من اجتهادات العودة ثم هم يحسنون الظن فيه ويحفظون له سابقته ويحيلون كثيراً من غرائبه إلى تميّز قد ينصفه التاريخ وإن جارت عليه الجغرافيا.
أخيرا: سنظل يا شيخ سلمان نستفيد منك ونحن ننتقدك، ونعتب عليك ونحن نحبك، ونتفاجأ منك ونحن نصفق لك..
مختارات