الشكور
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وصحبه ومن والاه.. وبعد
فما زالت أسماء الله الحسنى ترينا شيئا من جماله وجلاله وعظمته سبحانه.. لنخشع له، ونحبه، ونرجوه، ونعبده..
ومن أسمائه ذات الجلال والجمال والكبرياء والعظمة " الشكور ".. فهو يشكر عبده على ما قدّم من عمل صالح..
وجملة " عمل صالح " لا حدود لها.. تكاد لعظمتها واتساعها تملأ ما بين السماوات والأرض !
فهو سبحانه يأمرك بهذا العمل الصالح الذي فيه صلاح دنياك وآخرتك فإذا عملته.. يكون سبحانه هو المستحق لشكرك لدلالتك عليه.. وتيسيره لك.. وإصلاح حالك به.. أليس كذلك؟.. ولكنه بكرمه هو من يشكرك عليه !
فهل في الكرم مثل هذا؟ وهل في الجود قريب من هذا؟
كيف يشكرك؟
هذا سؤال تفنى الأوراق دون الإجابة عنه..
فكما أن ذاته سبحانه لا تدركها الأبصار.. فإن أسماءه وصفاته لا تدرك حقيقتها العقول..
ومع ذلك فلنا من باب التفكر والتدبر أن نسيح مع هذا الاسم العظيم نستجلي ظلاله في حياتنا..
فمن شكره سبحانه:
يغفر الذنوب ويستر العيوب..
يوفي الحسنات ويعظم الأجور..
يعطي الصحة والعافية.. والأبناء.. والمال.. والحياة الهانئة..
يرزقك الذكر الحسن والسمعة الطيبة..
يستجيب دعواتك.. ويشعرك بقربه.. ويؤنسك به..
يشفيك من أسقام مات غيرك بمثلها..
ويرفع عنك بلايا تضعضعت نفوس غيرك بأقل منها..
يهديك إلى الحق.. وقد ضل الكثير عنه..
ويثبتك على الهداية.. وقد زاغت عنها أفئدة من هم أذكى منك وأعلم منك وأقدم في الإسلام منك !
اقرأ وتخيّل:
" مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة " هل انتهت؟ لا.. " والله يضاعف لمن يشاء ".. سبحانك..
حبّة في العمل تتحوّل بفضله وبكرمه وبشكره لك إلى سبعمئة حبّة في الأجر والثواب..
كيف: واحد يساوي سبعمئة !
تعمل صالحاً يستحق أجرا مثله.. فيأجرك الله مثله سبعمئة مرّة.. ويضاعف لمن يشاء !
مع كرم الله تتغيّر المسائل الحسابية !! لأنّه كرم لا يخضع للمعادلات الحسابية.. بل للفضل الإلهي..
سبحانه.. إذا أعطاك أدهشك.. وإذا أكرمك أذهلك !
هؤلاء أنبياؤه عملوا الصالحات وجاهدوا لتبليغ كلماته، فشكرهم بأن أعلى ذكرهم وجعلهم قدوات يُقتدى بهم وخلّد قصصهم وعبرهم في أعظم كتبه، وحمى أعراضهم فلم يبح لأحد أن يستنقص من قدرهم أو أن يسيء الظن بهم.. وغير ذلك من شكره لهم سبحانه وتعالى..
ولذكرهم في كتابه مزية أستشعرها دائما !
عبد من العبيد.. خلقه الله بقدرته.. لم يكن شيئا مذكورا.. ثم يقول عنه:
" واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا "
" واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا "
" واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد "
" واذكر في الكتاب إدريس... "
" إنا وجدناه صابرا ".. توقف قليلا.. أكمل الآن: " نعم العبد " الملك العظيم يقول عن عبد من عبيده: نعم العبد !!
يا الله.. ما أعظم كرمه إذا أراد أن يكرم..
وإذا نظرت في شكره سبحانه لنبيّنا محمد عليه الصلاة والسلام وكيف أنه قسم له رحمته " أهم يقسمون رحمة ربك ".. واختصه برسالته " الله أعلم حيث يجعل رسالته " وكان معه في جميع أدوار حياته " والله يعصمك من الناس " وجمله بأجمل الأخلاق " وإنك لعلى خلق عظيم "..
بل انظر كيف أنّه قرن اسمه باسمه في الأذان وفي الشهادة.. قال حسّان:
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشقّ له من اسمه ليجلّه... فذو العرش محمود وهذا محمّد
وهؤلاء الصحابة الذين بذلوا أرواحهم وأعمارهم وأموالهم نصرة للدين شكرهم بأن جعل الكلام فيهم من علامات النفاق.. ورضي عنهم.. وضاعف أجر أعمالهم وعدّلهم جميعا بلا استثناء.. وجعلهم خير القرون.. وقال فيهم: " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ".. وقال: " وكلا وعد الله الحسنى ".. والأحاديث في فضل عمومهم وأعيانهم أشهر وأظهر من أن تذكر.. وكل هذا شيء من شكر الله لما قاموا به من تصديق وجهاد وبذل..
فكما يشكر الكريم من عمل معروفا.. فكذلك سبحانه وله المثل الأعلى يشكر شكرا يليق بكرمه وبعزّته وعظمته.. شكرا لا كالشكر..
فهو شكور لأن الشكر الواحد منه أعظم من كل شكر..
وهو شكور لأن العمل الواحد منك يشكره المرة تلو الأخرى..
وهو الشكور لأنّه يشكر العمل الكبير والعمل الصغير بشرط أن يكون خالصا صوابا.. فهو لا يشكر الأعمال العظيمة فقط بل حتى مثقال الذرة منك يشكره وينمّيه " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره " فقد أدخل امرأة الجنّة بشق تمرة، وبغيّا بأن سقت كلبا.. وثالثا كل حياته ذنوب بأن خاف منه.. ورابعاً ليس له إلا حسنة واحدة لأنّه تصدق بها على صاحبه.. وهكذا.. وخامساً قتل مئة نفس ! لأنّه هاجر إليه..
ومن شُكره سبحانه أن يعجّل بثواب المتصدق.. فيرزقه بركة ويغدق عليه من نعمه..
يخبرنا عليه الصلاة والسلام عن أن الله يقبل صدقة عبده بيمينه ويربيها كما يربّي أحدكم فلوّه.. وهذا من شكره وفرحه سبحانه بطاعة عبده..
يخبرني أحد سكّان المنطقة الشرقية عندما كنّا واقفين عند متجر شهير وكان هذا الكلام قبل عشر سنوات تقريباً.. يخبرني عن قصة هذا المتجر..
يقول: كان صاحبه موظّفا عاديا يجمع من رواتبه وتجمع زوجته من رواتبها كي يبنوا بيت العمر كما يقال، ولمّا شارف المبلغ أن يجتمع صلّى الزوج في مسجد وسمع كلمة من أحد المشايخ حث فيها على بناء المساجد وأنّه " من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنّة " وقعت تلك الكلمة من الرجل موقعها.. فانصرف من ليلته إلى زوجته وأخبرها بنيّته أن يجعل كامل المبلغ في مسجد يبنيه، فإذا بزوجته تدفع له مالها عن طيب خاطر وتطلبه أن تشاركه في مشروع المسجد !
لك أن تتخيّل كيف تغيّر خطّتك التي بذلت لأجلها عرق سنين في ليلة ! ويكون ذلك التغيير لله عز وجل ونابعا من قلب حيّ يريد الله والدار الآخرة..
يقول صاحبي.. بعد بناء المسجد أخذوا في الجمع من جديد ولعلّ فكرة التجارة قد طرأت على عقل الزوج فافتتح متجراً صغيراً.. فإذا بالزبائن يأتون من كل مكان وإذا بالأموال تمطر عليه فوسّع الرجل متجره ثم بعد مدّة فتح له فرعا ثم الثاني والثالث.. يقول صاحبي: والآن له في المنطقة الشرقية فقط ثلاثة عشر فرعاً.. وهذا الكلام قبل عشر سنوات.. سبحان الشكور.. سبحان من لا يخسر أبدا من يتاجر معه..
لقيت بالأمس رجلا قال لي إن اسمه فلان بن فلان الرحيلي.. فقلت له ممازحاً: هل أنت صاحب محطّات الرحيلي الشهيرة في جدة؟
فقال لي: لا، ولكنّه قريبي !
ثم قال سأخبرك بقصّة الرحيلي هذا، كان في بداية حياته كثير الصدقة على الفقراء، وكان يعول الأيتام.. ثم فتح الله عليه فكانت له هذه المحطّة وغيرها من الأعمال التجاريّة الناجحة..
هذا ما يعمله الشكور الحميد سبحانه..
يقول عليه الصلاة والسلام: " ما نقص مال من صدقة ".. يجب علينا أن نؤمن بهذا الكلام إيماناً عميقاً..
وهذا ربّنا يقول في الحديث القدسي: " يا عبدي أنفق أنفق عليك "..
فإذا وضعت ريالا في كفّ فقير فثق أن الله سيضع لك من فضله ما يوازي بل ويفوق ذلك الريال صحّة ورضا وعطاء وفضلا..
طالب جامعي فقير سمع وهو يسير لصلاة الجمعة رجلا يهتف بقرب صندوق التبرعات ويحث الناس قائلا: عبدي أَنفقْ أُنفق عليك.. فتش جيبه فإذا بثروته كلها خمسة ريالات.. فأخرجها وأودعها صندوق التبرعات.. كان في قلبه صوت اليقين يقول: لقد أنفقت يا ربي.. فأنفق..
في المساء زار أخاه فأخبره هذا الأخ (دون أن يعلم بحاله) أن جمعية مالية قد حلت في حسابه وهو لا يحتاجها كلها.. وبعد ممانعة استقطع منها ألفين وأعطاها صاحبنا !! لقد أنفق الله عليه..
قرأت قديما في إحدى المجلات قصة كتبتها صاحبتها: أن سائلا طرق بابهم في صباح يوم فأخرجت من محفظتها آخر مئة ريال ودسّتها في يد ذلك السائل..
وكانت روحها تهمس: يا الله العشرة أضعاف.. العشرة أضعاف..
دخلت المطبخ وصنعت فطورا لها ولزوجها.. استيقظ الزوج وجلس على المائدة وبينما هو يتناول طعام الإفطار إذ به يتذكر ويقول: هناك على تلك الطاولة ظرف لكِ استلمته البارحة من البريد..
قامت الزوجة لترى ما في الظرف.. فإذا به شيك بنكي أجرة مقالة كتبتها في إحدى الصحف ومن العجيب أنّها كانت: ألف ريال عدّا ونقدا !!!
ومن أوضح صور الشكر الرباني هو ما اقترن ببر الوالدين من تيسير في العيش وتوفيق في جميع الشؤون.. حتى كأن نجاح التجارة حصر على البررة.. يمكنك أن تستعرض من تعرفهم من الناجحين.. ستجد بر الوالدين جامعا مشتركا بينهم.. ولا بد !
يقول سبحانه " وافعلوا الخير "..
ومهما كان هذا الخير صغيرا.. فإن الشكور يشكره..
عندما تحرص أن تطفئ نور سيارتك عند إشارة المرور حتى لا تزعج من هم في الشارع المقابل.. قد لا يعلمون بمقصدك.. بل حتى لا ينتبهون لفعلك.. لكن احذر أن تظن أن الشكور لن يكافئك.. كيف؟ لا يهم.. من المحتمل أن مرضا كان سيخطف بصرك وقاك الله منه شكرا لك على صنيعك النبيل..
حرصك على فتح الباب ليلا بلطف حتى لا تزعج النائمين..
مسكك لباب المسجد منتظرا لكبير في السن أن يدخل..
تفاديك أن تدهس قطة عابرة..
ابتسامتك لطفل..
ترتيبك لغرفة في منزلكم..
دعاؤك لمسلم مات.. بسبب أنك متيقن أن لا قريب له يدعو له..
إغلاق صنبور ماء كان غير محكم الإغلاق..
رفعك غصنا ملقى على الطريق..
كل هذا من الخير.. " وافعلوا الخير " وسبحان من يشكرك على فعل الخير وإن كان مثقال ذرة..
ومن أجل وأحسن الخير أن تمسك المصحف لتلاوة وردك، ثم تقع عينك، بل يقع قلبك على خير يحثك الله على فعله فتضمر في نفسك ألا ينقضي يومك ذلك إلا وقد أتيت منه ما استطعت.. إنك بذلك تفعل أعظم ما يمكنك فعله.. إنك تفعل الشيء الذي لم ينزل الله القرآن إلا لتفعله !
أما إن سألت عن أعظم خير يمكنك فعله.. فهو أن تسلم وجهك لله ! أن تحيا مسلما.. وتعبد الله مسلما.. وتعامل الناس مسلما.. وتنظر وتتكلم وتشعر مسلما.. ثم تموت مسلما..
سئل الإمام أحمد: من مات على الإسلام والسنة.. مات على خير؟ فقال لسائله: اسكت، بل مات على الخير كله !
يقول سبحانه: " وما تقدّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ".. كل خير وأي خير تقدّمه لنفسك.. ستجد أن الشكور الحفيظ حفظه ونمّاه فتأتي يوم القيامة تجده عنده موفوراً قد عظم وبات أكبر من يوم أن فعلته..
وفي الأثر الضعيف المتن الحسن المعنى: " صنائع المعروف تقي مصارع السوء " وهذا من شكره.. فلم يضيّع صنيعك الحسن بل جعله وقاء لك عن أن تموت موتة سيئة !
قال تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره "
ومع أن الذرة لا تكاد ترى إلا أنّك إن فعلت خيرا بقدرها فإنّك ستراه يوم القيامة ينتظرك.. ليبهجك به سبحانه ويربط على قلبك في يوم يجعل الولدان شيبا..
لذلك فشعور أنّه سبحانه الشكور وأنّ الخير كلّه منه يجعل العبد على ثقة بربّه محسنا الظن به سبحانه..
قيل لأعرابي: إنّك تموت ! فقال: إلى أين يذهب بي؟ قيل: إلى الله. فقال: كيف أكره أن أقدم على الذي لم أر الخير إلا منه؟
شعور عظيم ذلك الذي يملأ فؤاد هذا الأعرابي.. يقرّه عليه القرآن الكريم حين يقول الحق سبحانه: " وما بكم من نعمة فمن الله "
كل شيء.. نعم كل شيء يحوطك من الصحة والمال والراحة والتيسير والرضا هو منه.. " وكان فضل الله عليك عظيما "..
تعبده ستين أو سبعين سنة.. أكثرها دون التكليف أو نوم أو في عمل المباحات.. ومع ذلك يكافئك عنها جنة عرضها السماوات والأرض.. تسكنها الأبد كله !
فإن كان سبحانه يعطي لا على شيء.. فكيف إذا كان هناك شيء؟ كيف إذا فرقت بينك وبين بقيّة عباده الذين يرزقهم ويتحبب إليهم بالنعم بأن عملت صالحاً يرضاه.. عند ذلك لا يجوز لك أن تعتقد أن لن يكرمك الكريم ويشكرك الشكور ويحمدك الحميد سبحانه..
ثلاثة يلجئهم المطر إلى غار فيصبحون وقد أطبقت صخرة عظيمة بابه فلا يستطيعون الخروج.. فيبتهلون ويتوسلون إلى الله بصالح أعمالهم.. فيكون شكره لهم سبحانه بأن يجعل مكافأة العمل أو جزءا من مكافأة العمل جزءا من تفريج ذلك الكرب وزحزحة تلك الصخرة العظيمة.. وما إن انتهى ثالثهم حتى انفرجت الصخرة وخرجوا يمشون في الشمس !
يبذل عيسى عليه السلام عمره له سبحانه.. منذ أن نطق كلمته الأولى في المهد وهو عبد لله.. فيتآمر ضدّه شرار بني إسرائيل ليقتلوه.. فيكون شكره له سبحانه من أغرب الشكر.. رفعه إليه ! هكذا انتشله من بؤرة الهم والمكائد والقلق.. وجعله في سماواته يعيش مع ملائكته وخيار خلقه..
إنك مع الله في ربح دائم..
والله هو القادر على انتشالك مما أنت فيه.. أعلم جيدا أن لديك من الهموم والكروب ما لا يتناسب مع النجاة منها إلا لفظة انتشال.. اعمل الخير.. لينتشلك الله به.. كما كان تسبيح يونس سبب انتشاله من بطن الحوت..
إنّك تتاجر مع ذي الكرم المتناهي وذي الشكر المتناهي وذي الفضل المتناهي..
ليس هناك احتماليّة خسارة في سوق.. الله من يسيّر أمرها.. فكن معه ثم ارقب أفضاله وشكره.. لن يتركك.. ثق بذلك.. لن تسجد لله سجده إلا ويشكرك عليها شكرا يليق به وبكرمه.. فقط كن معه..
هذا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد..
مختارات