فقه درجات الآخرة - الجزء الثانى
من طال وقوفه في الصلاة ليلاً ونهاراً، وقام للدين، وتحمل لأجله المشاق، خف عليه الوقوف في ذلك اليوم وسهل عليه.
ومن آثر الراحة والدعة والبطالة طال عليه الوقوف هناك، واشتد عليه.
وثِقَلُ ميزان العبد يوم القيامة بحسب إيمانه وأعماله الصالحة، واتباعه للحق، والصبر عليه، ومجاهدته من أجله.
والمشي على الصراط يوم القيامة يكون في السرعة والبطء حسب سرعة السير على الصراط المستقيم في الدنيا.
فأسرع الناس سيراً هنا أسرعهم سيراً هناك، وأثبتهم هنا أثبتهم هناك كما قال سبحانه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} [إبراهيم: 27].
والخلق في الآخرة متفاوتون بحسب أعمالهم.. فأهل الجنة والثواب وإن اشتركوا في الربح والفلاح ودخول الجنة فإن بينهم من الفرق ما لا يعلمه إلا الله، مع أنهم كلهم قد رضوا بما آتاهم مولاهم، وقنعوا بما حباهم.
وأهل النار والعقاب متفاوتون بحسب أعمالهم، فلا يجعل قليل الشر منهم ككثيره، ولا التابع كالمتبوع، ولا المرؤوس كالرئيس.
فالله يجازي كلاً بحسب عمله، وبما يعلمه من مقصده: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)} [الأنعام: 132].
والناس في الآخرة متفاوتون في النعيم والعذاب كما تفاوتوا في الدنيا بالعمل.
فالأرواح الطيبة السفلية في الأرض تكون في الجنة مجاورة للأرواح الطيبة العلوية، وفوق ذلك مجاورة ملك الملوك في داره، وتمتعهم برؤية وجهه، وسماع كلامه، ومرافقتهم للملأ الأعلى الذين هم أطيب خلقه وأزكاهم وأشرفهم.
أما الأرواح الخبيثة السفلية فلا يمكن أن تكون مجاورة للأرواح الطيبة العلوية في مقام الصدق بين الملأ الأعلى.
فلا يليق بذلك الرفيق الأعلى، والمحل الأسمى، والدرجات العلى، روح سفلية أرضية قد أخلدت إلى الأرض، وعكفت على ما تقتضيه طبائعها مما تشارك فيه الحيوان البهيم.
بل قد تزيد على الحيوان البهيم، فلا فرق بينهما وبين البهائم والحمير والكلاب والبقر إلا بانتصاب القامة، ونطق اللسان، والأكل باليد، وإلا فالقلب والطبع على شاكلة قلوب هذه الحيوانات وطباعها.
بل طباع هذه الحيوانات خير من طباع هؤلاء وأسلم وأقبل للخير.
ولهذا جعلهم الله شر الدواب كما قال سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)} [الأنفال: 22].
فلا يليق بحكمة العزيز الحكيم أن يجمع بين خير البرية وأزكى الخلق، وبين شر البرية وشر الدواب في دار واحدة، يكونون فيها على حال واحدة من النعيم أو العذاب: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)}... [القلم: 35].
وقال سبحانه: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)}... [السجدة: 18 - 20].
فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء والأعمال إلا بأعلاها وأفضلها، وأحمدها عاقبة.
والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات، وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار.
فالنفس الشريفة العلية لا ترضى بالظلم، ولا بالفواحش، ولا بالسرقة، ولا بالخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك وأجلّ.
والنفس الخبيثة بضد ذلك، فكل نفس تميل إلى ما يناسبها ويشاكلها من الأرواح والأعمال.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الأرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» متفق عليه
والناس يوم القيامة صنفان:
سعداء.. وأشقياء.
والسعداء قسمان:
السابقون المقربون.. وأصحاب اليمين.
فهذه درجاتهم في الآخرة كما قال سبحانه: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)} [الواقعة: 7 - 12].
فالسابقون في الدنيا إلى الإيمان، هم السابقون إلى الجنان، والسابقون في الدنيا إلى الخيرات، هم السابقون يوم القيامة إلى الجنات فالناس في الآخرة ثلاثة أقسام كما هم عند الموت كذلك ثلاثة أقسام كما قال سبحانه عن الإنسان بعد خروج روحه: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)} [الواقعة: 88 - 96].
فهذه مراتب الناس عند القيامة الصغرى حال القدوم على الله:
مقرب له الروح والريحان، وجنة النعيم.
ومقتصد من أصحاب اليمين له السلامة، فهو سالم غانم.
وظالم بتكذيبه وضلاله فله نزل من حميم، وتصلية جحيم.
ودرجة النبوة.. والصديقية.. والربانية.. ووراثة النبوة.. وخلافة الرسالة.. تلك هي أفضل درجات الأمة في الدنيا والآخرة.
ولو لم يكن من فضلها وشرفها إلا أن كل من عَلِمَ بتعليمهم وإرشادهم أو عَلَّم غيره شيئاً من ذلك كان لهم مثل أجره ما دام ذلك جارياً في الأمة على آباد الدهور والأزمان.
قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)}... [النساء: 69 - 70].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» أخرجه مسلم
فكم ينزل بعمل هؤلاء من البركات والهدايات؟.
وكم يُكتب لهم من الأجور والحسنات؟.
تلك والله المكارم والمغانم، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4].
ودخول كفار الإنس والجن النار بعدل الله، ودخول مؤمني الإنس والجن بفضل الله ورحمته، فرحمته سبحانه سبقت غضبه.
والفضل أغلب من العدل، ولهذا لا يدخل النار إلا من عمل أعمال أهل النار،وأما الجنة فيدخلها من آمن وعمل صالحاً، ويدخلها من لم يعمل خيراً قط، بل ينشئ الله لها أقواما يسكنهم إياها من غير عمل عملوه، ويرفع بها درجات العبد من غير سعي منه، بل بما يصل إليه من دعاء المؤمنين، وصلاتهم، وصدقتهم، وأعمال البر التي يهدونها إليه، بخلاف أهل النار، فإن الله لا يعذب فيها أحداً بغير عمل أصلاً.
فمسيء الجن والإنس في النار بعدل الله، وبما كانوا يكسبون.
ومحسنهم في الجنة بفضل الله، وبما كانوا يعملون.
والجميع متفاوتون في الدرجات والكرامات والعقوبات بحسب أعمالهم: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)} [الأنعام: 132].
مختارات