القارئ كمرآة
يتخذ البعض من القراءة موطن استجمام واسترواح من عناء العمل، ووعثاء الحياة، وهذا الانعكاس الإيجابي الذي تؤثره القراءة في كثير من النفوس لا يمثل إلا لوناً واحداً من ألوان التأثيرات المتباينة. وإذا تأملنا في العلاقة التي تكون بين القارئ والمقروء، سنجد أنها تتحدد غالباً بنوع المادة المقروءة.
والإنسان ينفعل ويتفاعل بطبيعته مع أكثر ما يقرأ إذا عُدِمَ المانع، ولذلك تجد أن مدمن القراءة في الأدب والشعر ونحوها ربما أورثه ذلك شيئاً من رهافة الحس ورقة الشعور والانفعال العميق بالملفوظ، والطرب للكلام الحسن ما لا تجده عنده غيره.
وكذلك تجد من يدمن القراءة في المباحث الإلهية من كتب الفلسفة والكلاميات قد يداخله من ألوان الحيرة والشكوك ما يعجز عن دفعه، وكذلك تجد الانضباط والتدقيق في مدمن المطالعة في كتب الفقه وأصول الفقه، والميل للتفصيل وضبط
التصور، وتنقيحه، وتجد الميل المفرط للتحليلات المسهبة والولع بالنماذج التفسيرية والأطر النظرية عند القارئ في العلوم الاجتماعية والسياسية.
وتجد مدمن القراءة في الروايات الأجنبية لا سيما الروايات الوجودية والعدمية مظلم النفس، تعلوه الكآبة، وتغلبه مشاعر سوداوية
خانقة، بل ويستمتع باستجلاب الأحزان، وعصر الآهات من ثمرة اليأس والتشاؤم.
إن العكوف على الروايات تعكس الكثير على شخصية القارئ/ـة وتصوراته عن العالم والناس والأفكار والمشاعر، فالرواية أوسع نمط أدبي يضم الفكرة والمشاعر واللغة والتاريخ والفلسفة
والسياسة والاقتصاد وعلوم النفس والمجتمع.
كتب الدكتور محمد الأحمري:”الرواية ليست قصة قرأتها، بل حياة راقبتها منفعتها أومضرتها. إنها تنافس الكتب السماوية، تنشدك الاقتداء والتمثل، فحين تسود الرواية يتراجع الدين”. وإذا تجاوزنا حرفية العبارة التي قد يرى البعض أنها تنطوي على مبالغة، إلا أن المعنى الكامن وراء العبارة جدير بالنظر. الرواية تقدم حياة، بل حيوات متنوعة، ومنظورة، شخوص حية، تقدم الإنسان المعاصر في شتى تمثلاته، بشكوكه واضطراباته، بآماله وطموحاته. تقدم الرواية الحب، والحرب، والكراهية والموت، وتغوص في وجدان القارئ وتخاطبه في حياته الخاصة، في همومه الشخصية، ومكابداته الوجودية، تستهدف ملء الخيال،/ وصياغة الشعور والأوهام، بلغتها الشعرية، واكتنازها الرمزي، وببلاغتها، واستعاراتها المذهلة، وباجتياحها لشرائح شاسعة. وتتحول الروايات المؤثرة والشهيرة لسلسلة طويلة من الاقتباسات والتوظيفات لشخوصها، وأفكارها، وسياقاتها، وتنبث في ألوف العقول والأرواح والأعمال النقدية، والتأويلية، والسينمائية، لتنغرس في أفق الرؤى الحديثة لعالم اليوم. وإذا نظرنا للأمور من هذه الزاوية لربما يغدو من الممكن أن نوافق مجدداً على قول الفيلسوف والناقد الفرنسي رينيه جيرار:”إن الأعمال الروائية الكبرى هي كنائس العصور الراهنة”.
مختارات