آفة الغضب 2
والأسباب المهيجة للغضب هي:
الزهو.. والعُجب.. والمزاح.. والهزل.. والهزء.. والتعيير.. والمماراة.. والغدر.. وشدة الحرص على فضول المال والجاه، ونحو ذلك من الأخلاق الرديئة المذمومة شرعاً، ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب، وتزال هذه الأسباب بأضدادها:
فيميت الإنسان الزهو بالتواضع.. والعجب بمعرفة ما في النفس من النقص.. والفخر بأنك من جنس عبدك.. وتزيل المزاح بالتشاغل بالمهمات الدينية التي تستوعب العمر.
وأما الهزل فتزيله بالجد في طلب الفضائل والأخلاق الحسنة والعلوم الدينية التي تبلغك إلى سعادة الآخرة.
وأما الهزء فتزيله بالتكرم عن إيذاء الناس، وبصيانة النفس عن أن يُستهزأ بك.. والتعيير يزال بالحذر من القول القبيح، وصيانة النفس عن مر الجواب.
وأما شدة الحرص فتزال بالقناعة بقدر الضرورة طلباً لعز الاستغناء، وترفعاً عن ذل الحاجة.
وإذا عرف الإنسان غوائل هذه الأخلاق الرديئة رغبت النفس عنها، ونفرت عن قبحها، فإذا واظب على مباشرة أضدادها مدة مديدة صارت بالعادة مألوفة هينة على النفس، فإذا انمحت عن النفس فقد زكت وتطهرت من هذه الرذائل،
وتخلصت من الغضب الذي يتولد منها.
فهذا حسم لمواد الغضب، وقطع الأسباب حتى لا يهيج، فإذا هاج الغضب فعلاجه بأمرين: العلم.. والعمل.
أما العلم فيكون بمعرفة ستة أمور:
الأول: أن يعلم ما في كظم الغيظ والعفو والحلم والصبر من الأجر والثواب، فتمنعه شدة الحرص على ثواب الكظم والعفو عن التشفي والانتقام، وينطفئ عنه غيظه كما قال سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (١٩٩)} [الأعراف: ١٩٩].
الثاني: أن يخوف العبد نفسه بعقاب الله، فيقول قدرة الله علي أعظم من قدرتي على هذا الإنسان، فلو أمضيت غضبي عليه لم آمن أن يمضي الله غضبه علي يوم القيامة أحوج ما أكون إلى العفو.
الثالث: أن يحذِّر نفسه عاقبة العداوة والانتقام، وَتَشمُّر العدو لمقابلته والسعي في أذاه، فيخوف نفسه بعواقب الغضب في الدنيا، وما يجر إليه من المصائب والعداوة.
الرابع: أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب، بأن يتذكر صورة غيره عند الغضب، ويتفكر في قبح الغضب في نفسه، ومشابهة صاحبه للكلب الضاري، ومشابهة الحليم الهادي للأنبياء والعلماء والحكماء والحلماء.
فيختار لنفسه ما يحمده الله والناس به.
الخامس: أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى الانتقام، ويمنعه من كظم الغيظ فيرده ولا يبالي به، كأن يقول له الشيطان: إن عدم الانتقام يُّحمل منك على العجز، وتصير حقيراً في أعين الناس، فيقول لنفسه: تأنفين من الاحتمال الآن، ولا تأنفين من خزي يوم القيامة إذا أخذ هذا بيدك وانتقم منك، وتحذرين من أن تصغري في أعين الناس، ولا تحذرين من أن تصغري عند الله والملائكة والنبيين.
السادس: أن يعلم أن غضب الله عليه يوشك أن يكون أعظم من غضبه؛ لأنه خالف مراد الله منه.
وأما العمل: فأن تقول بلسانك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
اسْتَبَّ رَجُلاًنِ عِنْدَ النَّبِيِّ (، فَجَعَلَ أحَدُهُمَا يَغْضَبُ وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ (فَقَالَ: «إِنِّي لأعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ ذَا عَنْهُ، أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» متفق عليه (١).
فإن لم يزل بذلك فاجلس إن كنت قائماً، واضطجع إن كنت جالساً، فإن سبب الغضب الحرارة، وسبب الحرارة الحركة، والقائم والقاعد متهيئ للانتقام.
فإن لم يزل ذلك فليتوضأ بالماء البارد، أو يغتسل، فإن النار لا يطفئها إلا الماء.
والسكوت حال الغضب مما يزيل أثر الشر عنه، وكظم الغيظ كذلك.
والغضب إذا لزم كظمه لعجزه عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن واحتقن فيه فصار حقداً، والحقد أن يلزم قلبه استثقاله والبغض له، والنفار عنه، وأن يدوم على ذلك ويبقى، فالحقد ثمرة الغضب.
والحقد يحمل على الحسد الذي يتمنى به الحاسد زوال النعمة عن الغير، ويشمت بما أصابه من بلاء، ويؤدي إلى هجره والانقطاع عنه، وأن يعرض عنه استصغاراً له، وأن يتكلم فيه بما لا يحل من كذب وغيبة وإفشاء سر، والاستهزاء به، وإيذائه أحياناً بالضرب، ومنعه حقه من قضاء دين أو رد مظلمة، أو صلة رحم، وكل ذلك حرام.
وعلاج الحقد: أن يحسن المحقود عليه إلى الحاقد بالعفو والصلة والدعاء له، والبر به: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥)} [فصلت: ٣٤، ٣٥].
وهذه الآفات إنما نشأت في النفوس، وانتشرت بين الأمة وتخلق بها الناس، حصل ذلك كله بسبب ترك الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصح لكل مسلم، وعدم الاستقامة على أوامر الله.
فضعف الإيمان، ثم زهدت النفوس في أحسن الأعمال، ورغبت عن معالي الأخلاق، وتخلقت بأخلاق الشياطين والبهائم، ثم صارت تدعو إليها: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣)} [يوسف: ٥٣].
ويتخلص المسلم من آفة الحقد والغل ونحوهما بما يلي:
١ - أن يذكر ما في بقاء هاتين من العداوة والمأثم وفوات الخير.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله (قال: «تُفْتَحُ أبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلا رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَ» أخرجه مسلم (١).
٢ - أن يعلم أن العفو والإصلاح فيه خير كثير للعافي، ولا يزيد العفو العبد إلا عزاً.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله (قال: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلا عِزّاً، وَمَا تَوَاضَعَ أحَدٌ لِلَّهِ إِلا رَفَعَهُ اللهُ» أخرجه مسلم (٢).
٣ - أن يعلم أن هذا مما يفرح به الشيطان، وهو تمزق الأمة: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١)}... [المائدة: ٩١].
اللهم آت نفوسنا تقواها.. وزكها أنت خير من زكاها.. أنت وليها ومولاها.
اللهم إنا نسألك نفوساً مطمئنة.. تؤمن بلقائك.. وترضى بقضائك.. وتصبر على بلائك.
مختارات