تعقيد الظاهرة الإنسانية
يولد الطفل وتولد معه الأسئلة. السؤال والفضول لمعرفة الأشياء غريزة إنسانية دفينة. في البدء تتكفل الأم بالجواب على أسئلة الطفل، ثم الأب، ولا يراعي الأبوان في الغالب الدقة في الجواب، بقدر مراعاتهم لتقديم فكرة تبسيطية عن الجواب، يعتقدون أنها تناسب وعي الطفل، هذا في أفضل الحالات، بينما يواجه الطفلعند آخرين بالإخراس الجبري، أو الإعراض، لاسيما حين تكون الأسئلة ذات طابع غيبي أو جنسي.
نتجاوز مرحلة الطفولة، ونظفر بجوابات متنوعة، عن أسئلتنا، وتأتي المدرسة لتعطينا مصفوفة طويلة من الإجابات عن ما نود معرفته، وما لانود. نكبر أكثر، وتهطل أسئلة جديدة، ولا نكتفي بإجابات ساذجة، ونغوص أكثر. وهنا تبدأ حاجتنا للاكتشاف الذاتي، للمكابدة/للمغامرة الشخصية من أجل الوقوف على حقائق الحياة، ومحكمات الشريعة، وظواهر الطبيعة، وحقيقة الجوهر الإنساني، وماهية النفس، والروح، وما إلى ذلك، بحسب ما يستهوينا من جوانب الحياة الواسعة. بعضنا يستمر محافظاً على روح الفضول اللذيذ، والبحث الدائم، والتنقيب المستمر عن دهشة التعرف على الأشياء، بينما آخرين اكتفوا بقوالب الثقافة الشفهية، وخبرات المجالس، وعناوين الصحفالالكترونية.
أود أن أتوقف الآن، لأذهب لتأمل مسارين من مسارات الأجوبة، والأفكار التفسيرية للظاهرة الإنسانية في كافة تجلياتها. وهذان المساران قد لا تجد لهما تمثّل محض في ما تقرأه أو تسمعه، وهذه القسمة لمجرد إيضاح الفكرة عبر الانقسام الثنائي.
الأول: التفسيرات والتحليلات الساذجة أو الاختزالية، وهي تفسيرات تعتمد على الإحالة إلى عامل واحد لتفسير ظاهرة ما، أو عوامل محدودة، وتسير أطروحاتها في سياق تأويلي مغلق، وتفقد القدرة على الانغماس والحفر في الطبقات والأغوار الداخلية. إجابات وتحليلات مصمتة، أحادية، معلبة. (تآمر الماسونية أسقطالدولة العثمانية/العنف نتيجة اضطراب نفسي/داعش عملاء/تفشي الاستبداد بسبب ثقافة تاريخية/تزايد الطلاق لفشل الجيل الجديد في تحمل المسؤولية/المال لا يجلب السعادة/انتشار الإلحاد بسبب مشاكل نفسية/الرسوب نتيجة الغباء/النظام الصارم هو طريق النجاح/فشل التعليم لفشل المعلم/التحرش سببه سفور الفتاة/الحب الحقيقي معدوم/سقوط الأندلس سببه الترف/…الخ)، والخلل الأساسي في مثل هذه المعالجات تعود لفشلها في إدراك الصيغ المعقدة والمركبة للظواهر الإنسانية، واغترارها بأهمية عامل ما.
المسار الثاني في تناول الظاهرة الإنسانية:
التفسيرات والتحليلات التي تضع في الاعتبار شدة تركيب وتعقيد الظواهر الإنسانية، وأود قبل المضي في توضيح ذلك أن أذكر مثالاً طريفاً لما نحن بصدده: في لعبة كرة القدم الشهيرة في البلاي ستيشن، حصلت تحولات كبيرة منذ صدور أوائل الإصدارات في 98م وقبلها، وحتى الإصدار الجديد، وتتسم الإصدارات الحديثة بشدة المقاربة للعبة في الواقع. وإذا تجاوزنا جودة الإخراج، ودقة صور اللاعبين…الخ من مظاهر الإتقان الفني والشكلي، نجد أن الإبداع الحقيقي حصل في بنية اللعبة من الداخ، بحيث انفتحت أمام اللاعب إمكانيات تمريرات وتحركات وتسجيل أهداف وتكتيكات هجومية تكاد تكون غير نهائية تقريباً، إذاً الجاذبية التي تحققها اللعبة باستمرار عبر”محاكاة الواقع” تقع في مقاربة أولية لحرية الإرادة البشرية لتتفادى مشكلة الإصدارات القديمة التي لم يكن فيها أمام اللاعب إلا بضعة تكتيكات قليلة يضمن بها الفوز، بحيث تفقد اللعبة تشويقها بعد مدة من استنفاد هذه التكتيكات. وقل مثل هذا عن كثير من الألعاب الالكترونية المشابه. حتى في تفسير جاذبية لعبة الشطرنج يقول بعض مؤرخيها أنه منذ اختراعها لم تتطابق لعبتا شطرنج بنسبة100% أبداً، لكونها تحتمل تنقلات شبه لا نهائية.
والمراد من كل ما سبق بيان أهمية اعتبار حرية الإرادة البشرية، وأن الإنسان كظاهرة لا يمكن حشره في قوالب نظرية جامدة، بدافع كسل نظري، أو ظاهرية ثقافية، فعند تناول ظاهرة كالتحرش مثلاً، أو الطلاق، أو العنف، أو حوادث الطرق، أو انخفاض سعر البترول، تأكد أنك أمام “شبكة” واسعة من المسببات المشاركة في بروز الظاهرة، صحيح أن بعض المسببات أكثر تأثيراً من بعض، لكن لا يستقل أحد منها بإبراز الظاهرة. شبكة مترابطة، ومتواشجة، بصورة غامضة أحياناً، وتفكيكها وإعادتها للعوامل الأولية، ثم رصد تحركات العوامل في السياق التاريخي، تحتاج صبر وجلد جازم.
وقناعتك بتعقيد الظاهرة الإنسانية سيجعل صمتك يطول في وسط ضجيج المجالس، لأنك ستدرك صعوبة الأمر، كما سيدفعك ذلك لإطالة التأمل والتفكير، وتقليب النظر. فالإنسان يعيش في ظرف تاريخي، ويتخلله سياق زماني، ويحكمه إطار مكاني، وتأثر في سلوكه ذاكرة ثقافية جمعية، وتراث نفسي خاص وعام،وتاريخ عقلي، وخيالات وأوهام ومخاوف، ونوازع خفية، وشهوات باطنة وظاهرة، وميكانيزمات بيولوجية محضة، وفوق كل ذلك فالإنسان يتحرك بتأثير مباشر من إرادة مفتوحة الاحتمالات، لا يمكن التنبؤ بها بصورة صارمة. وهذا لا يعني شجب الاهتمام ببعض الأسباب، ولا الاستهانة بالمحاولات الجزئية لمعالجة بعض المشاكل، كما لا يبرر سلوك بعض المثقفين والأكاديميين بتحقير مجمل الأطروحات الباحثة في إشكالية ما، باعتبارها ساذجة وتفتقر للرؤية التركيبية، وذلك لأجل إعطاء المشروعية لمواقفهم المخجلة من القضايا الملحّة. والقصد من ذلك بعمومه هو أهمية إدراك الطبيعية المركبة للظاهرة الإنسانية، واستعصائها على الاختزال والتبسيط.
مختارات