كرة القدم بوصفها ديانة جديدة !
مرة كل أسبوع يهرع المشجع إلى الاستاد الرياضي..
ترفرف الرايات، تدوي الألعاب النارية والطبول..
وتهطل أمطار من الشرائط وقصاصات الورق الملونة..
المدينة تختفي، الروتين ينسى.. ولا يبقى سوى المعبد..
وفي هذا الحيز المقدس.. تعرض الديانة ألوهيتها..
وهي الوحيدة التي لا وجود لملحدين بين معتنقيها !
إدواردو غاليانو
(1)
في عقود الستينات والسبعينات تزايدت سلطة الرياضة، وتعاظم نفوذها، في نفس الوقت الذي تشكو فيه بعض الأديان من هبوط الاهتمام والالتزام.
وفي أكثر من مجتمع اكتسبت الرياضة طابعاً شبه ديني، وفي العصر الحديث تمت مناقشات عديدة تناولت بزوغ الطابع العقائدي للرياضة الحديثة، كما أوضح روجز في دراسة منشورة عام 1972م أن الرياضة قد أصبحت بسرعة تعبيراً طقوسياً مسيطراً [انظر: أمين الخولي، الرياضة والمجتمع (ص147-148)، نشر عالم المعرفة، سبتمبر 1996م].
كما ذهب بعض الباحثين إلى أبعد من ذلك، وأشاروا إلى كيفية اصطباغ المنظمات والهيئات الرياضية بالطابع الديني. وكتب أحدهم: “هناك تشابه بين التقاليد الدينية والرياضية:
كلاهما لديهم مباني خاصة للتجمع والقيام بنشاطات معينة.
كلاهما لديهم إجراءات للتنفيذ.
كلاهما لديهم طقوس قبل وخلال وبعد الحدث.
كلاهما يستقطب الانتباه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والإعلامي.
كلاهما لديه شخصيات بارزة ورموز كاريزمية.
كلاهما يعتمد على التكرار والانتظام (الصلاة/الوحدات التدريبية)، والانفعال والتأثر بالرموز.” [خالد الحشحوش، علم الاجتماع الرياضي (ص99)، نشر مكتبة المجتمع العربي، الطبعة الأولى 2013م].
وبالرغم من أن هذا التأويل السوسيولوجي للظاهرة الرياضية ينطلق غالباً من موقف أيديولوجي محدد يتعامل مع الدين بوصفه ظاهرة أو منتج اجتماعي كغيره من الظواهر الأخرى، ويخضع لآليات التطور، ويحقق عدد من الوظائف الاجتماعية، إلا أن استدعاء الحالة الدينية ومقارنتها بالرياضة لم يكن عبثاً، وإنما لضخامة المظاهر المتشابهة على صعيد السلوك والرموز والدلالات الاجتماعية والنفسية بين السياقين.
(2)
مهما قيل عن المبالغة في فكرة تحول الرياضة إلى أيديولوجية دينية، إلا أنه لا يمكن إنكار ظهور بعض الملامح ذات الطابع الإيماني في التعامل مع الظاهرة الرياضية. في البلاد المقفرة من الدين، والمحرومة من أنوار النبوة؛ تصبح الصورة أكثر وضوحاً، وكذلك القلب المليء بالتوق للإيمان والانتماء ولإيجاد المعنى في الحياة إذا لم يوفق للدين واليقين يختلق لنفسه معبودات وآلهة بحسب الظروف المتاحة.
ليس من قبيل الشاذ أن تعثر على شاب متعصب -ربما تصلك به قرابة أو زمالة- يكنّ حباً كاملاً وإجلالاً كبيراً لفريقه المفضل. إن هذه المشاعر والانبعاثات القلبية تمثل جوهر التدين، ولب التعبد، ومصداق هذه الأعمال القلبية يظهر عند حدوث التعارض بين مقتضيات الشرع والدين، ولوازم عشق الفريق. لا يملّ هذا العاشق من تتبع أخبار الفريق، على كل شاشة، وفي كل دهليز إخباري، ولديه خبرة ضخمة في تاريخ النادي، والتحولات التي مرّ بها، وهو لا يسئم من التحدث عن كل ما يتصل بالمعشوق، ولو تمثلّ له النادي إنسانة لصرخ بهـ/ـا:
هي السِّحرُ، إلا أنّ للسحر رُقْيَة * وإنّي لا ألقى لها الدهر راقيا
أحبّ من الأسماء ما وافق اسمها * أوشبههُ أو كان منه مُدانيا
وهذا التعلق القلبي من جنس بقية التعلقات الباطلة، وهو لا يتمكن في النفس إلا لفراغها من محبة الله ومحبة رسوله ﷺ ورمق الآخرة بعيون البصيرة، ولذلك يكثر هذا التعلق عند من لم يجاوزوا عتبة العمر ومطالع الشباب وزهرته، ففي تلك اللحظة العمرية تكون النفس مشبوبة، والمشاعر متطرفة، والدوافع متحفزة، إلا أن طوفان الكرة، وتناسل الشاشات التي تنقل المباريات من شتى بقاع الأرض اكتسح الجميع، بحيث لا تكاد تجد مجلساً من المجالس يخلو من ذكر هذه “الساحرة المستديرة”.
ومع الإقرار بأنه لا يمكن تعميم التوصيف السابق على كافة المتابعين للمشهد الرياضي، لا يسع المراقب إلا أن يسجّل انزعاجه من تزايد معدلات الهستيريا الكروية مؤخراً على الأقل، وآلاف المعرفات الرياضية في شبكات التواصل الاجتماعي، والزخم في بعض تطبيقات الهواتف الذكية، وملايين المقاطع اليوتيوبية، …الخ كلها تقف شاهدة على وجود تضخم “غير حميد” في جسد الوعي الشعبي.
(3)
حين كانت أسبانيا ما تزال تعاني من دكتاتورية فرانكو، كان رئيس رِيال مدريد يحدد مهمة كرة القدم بقوله: “إننا نقدم خدمة إلى الأمة، فما نريده هو إبقاء الناس سعداء”. بينما يصرّح زميله كالديرون بالقول:”كرة القدم مناسبة، لكي لا يفكر الناس بأشياء أخرى خطيرة!”. [إدواردو غاليانو، كرة القدم في الظل والشمس (ص278)، ترجمة صالح علماني، نشر دار طوى، الطبعة الأولى 2011م].
في واحدة من الأطروحات الاجتماعية المحترمة كثيراً ما يصف بعض الباحثين الرياضة بأنها “مخدر” يتوسط بين الوعي بالمشكلات الاجتماعية، والمحاولات شبه الجمعية لحلها. عندما انتهى جودمان من دراسته عن ألعاب الطبقة العاملة في أحد أحياء نيويورك أوصلته النتائج إلى أن الرياضة في هذه المدينة قد استغلت كوسيلة لجعل حياة هؤلاء العمال أكثر احتمالاً.
إن التاريخ مليء بالدلائل التي تشهد بدور الرياضة في الضبط الاجتماعي والجبر ابتداءً من ساحات الرياضات الرومانية حيث يلقى العبيد/المتمردون حتفهم من خلال حفلات رياضة المصارعة، ووصولاً إلى الحفلات والمهرجانات الرياضية الراهنة التي تعمل على إضفاء الهيبة على مسؤولي الحكومة، وتتعمد تغييب السكان -ولو مؤقتاً- عن مشكلاتهم الاقتصادية والاجتماعية[انظر: أمين الخولي، الرياضة والمجتمع (ص56-57)، مرجع سابق]. يدّعي البعض أن هذا التفسير يفتقر للرصانة، وأنه ينتمي لحقبة فكرية ماركسية بالية، إلا أن هذا التحليل ينبغي أن يحظى بمكانة محترمة عند تطبيقه على البلدان ذات الأنظمة السلطوية، والتي تمور عادة بالمشكلات والاهتزازات الشعبية، وإذا لاحظنا وجود علاقة “ما” بين تضخم الاهتمام الرياضي، وبين التوسع الحكومي -في بعض الدول- في دعمه، مع اهتزاز الثقة الشعبية بالنظام، أو حدة المطالبات الشعبية بالإصلاح والتغيير، حينها ندرك فاعلية المنظومة الرياضية في تثبيت سطحية الوعي الشعبي، وإرضاء رغباته بنيل البطولة، واختلاق معارك وهمية للانتصار على الأعداء، مع إدخاله في دوامة من الكرنفالات الرياضية المتتالية، بحيث يبقى شعوره منصرفاً عن أولويات النهضة، مرتهناً لأفق ضيق، ومنخرطاً في متتالية من التفاصيل التافهة.
(4)
وفوق ذلك، لقد تغلغلت الرؤية المادية في عالم الرياضة، فبعد أن كانت ممارسة الرياضة في الماضي تهدف إلى تهذيب الجسد والنفس، وتدريب الناس على التعاون وتسليتهم في الوقت ذاته، وتقوية البدن للتعبد والقيام بمتقضيات الشرع، كالتأهيل للجهاد وغير ذلك، انفصلت الممارسة الرياضية تدريجياً عن كل هذه القيم لتصبح مرجعية ذاتها، ومنفصلة عن القيمة الدينية والأخلاقية، لتصبح معايير الرياضة رياضية، ويصبح إحراز النصر هو الهدف الأعلى والأسفل والوحيد. ثم يدخل عنصر “الاحتراف” الذي يتناقض تماماً مع فكره التسلية وتزجية وقت الفراغ واللعب بطريقة إنسانية متحضرة، فهي تجعل الرياضة مركز الحياة. [عبدالوهاب المسيري، الإنسان والشيء، مقالة منشورة على موقع الجزيرة نت 2008-07-03. وانظر: عبدالوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (2/174)، طبع دار الشروق، الطبعة الثالثة 2009م]. ومن التمظهرات المادية للعالم الرياضي المعاصر مركزية المال في حركة الرياضة، فيتحول اللاعب إلى سلعة محضة، تتداوله الأندية في سوق النخاسة الجديدة، وتتحول الأندية لشركات دعائية هائلة، وتصبح قمصان اللاعبين شاشة عرض دعاية وإعلان، ثم يقتات من وراء ذلك كله طاقم من المعلقين الرياضيين وجيوش الأجهزة الفنية والإعلامية التابعة للنوادي، والكثير من المحللين الرياضيين الذي يثرثرون بالهراء قبل وبعد كل حدث رياضي، وحفنة من الكتّاب الرياضيين…الخ، ويتخلل ذلك رزم الرشاوى، والمكايد، والمؤامرات، والكذب، والشتم، بما يؤكد خطورة تفشي هذا الوباء القبيح الذي تعيشه الدوائر الرياضية.
(5)
ليست المشكلة تنحصر في مشجع يهتف خلف شاشة، أو فوق مدرج في إستاد رياضي أفتتح مؤخراً. المشكلة تتصل بقيمة وجود الفرد في المجتمع، وموقع المجتمع من الخارطة الحضارية والأممية، ومدى جدية المسئولين في استثمار الإنسان وبنائه بما يتلاءم مع مسؤولياته الدينية والقومية والحضارية، بعيداً عن سياسات التخدير الثقافي المنظم عبر أدوات التزييف الإعلامي والرياضي.
(6)
الرياضة تتضمن ولاءات وعداوات قبلية،
وطقوساً رمزية، وأساطير رائعة،
ومعارك ملحمية، وجمالاً حسياً،
وإشباعاً بدنياً، وإشباعاً فكرياً،
وإستعراضات مهيبة، وإحساساً عميقاً بالانتماء،
ولولا هذه القيم لأصبحت حياة الكثيرين خاوية..
فالرياضة –وليس الدين- هي أفيون الشعوب الآن!
تيري إيجلتون
مختارات