المشهد الثاني
{ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ۖ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ }..
هُنا تَجرِبَةٌ تَتكشَّفُ فيها الرّوحُ الإنْسانِية !
هنا عُمرُ امرَأةٍ تتَكثفُ فيه أعْمارُ أُمّةٍ تنتَظرُ الميلادَ.!
هنا امرَأةٌ ألقَت صَغيرَها كي تَعتِقَ أُمّةً، و تَركَت قَلبَها لألْفِ احتِمال !
{ إذا خفْتِ عَليهِ فَأَلقِيهِ فِي اليَم }.. ثمَ ماذا.. ثم َ{ لا تَخَافِي وَ لا تَحْزَنِي }.. ما أقْسَى ذلكَ يا مَولاي..!
هلْ تَمْلكُ الأمُ ارتِعاشَةَ شَوقِها للطّفلِ الوَليد.. هلْ تَملِك؟!
وحْدَكَ أنتَ يا ربُّ مَنْ يَعلَمُ أنّها تَشْبعُ به إذْ يَجوعُ لِصَدرِها..
و في لَحظَةٍ مُوغِلَةٍ في الوَجَع ؛ تَلمحُ أمُّ موسى صُورةَ الطِّفلِ في كلّ الوُجُوه ِ.. و تَشُمُّ احتِراقَ الرّبيعِ في قَلبِها..!
و على حافَّةِ قَلبِها ؛ ظَلَّت الدُموعُ تَفيضُ، فقَد كانَت النّساءُ في مِصْرَ تَلِدُ الصّغارَ لخَيمةِ العَزَاء !
إذ قَرّرَ عَقلٌ فاسِدٌ أنه لا يَحقّ لِطفلٍ أنْ يحْلُمَ بالشّمسِ واقفَةً !
{ قُصّيهِ }.. هل كانَ الحُزنُ يُفجِؤُها في الكَلماتِ ؛ فتَخشَى أنْ تَنقِلَ شَفَتيها سرَّ الحِكاية.. سِرُّ طفلٍ سَيثمِرُ ذِكرياتٍ للأمّة !
{ قُصِّيه }.. هلْ كانَت تَعصِفُ الوَساوِسُ بخَطواتِها فلا تَتَّزِن ! كانت تَتأَرجَحُ بَينَ البَوحِ المَفْجوعِ أو التَجلُدِ المُرهِق !
كانت أُمًّا.. و الأمُ إذا صَمتَت من شِدّةِ الحُزنِ شَهِدَ الكَونُ عَجزَ اللُغةِ عن النَّحيب !
{ قُصِّيه } يا بُنيَتي.. فهذا المَساءُ ناقِصٌ فقد رَحلَ القَمرُ..!
{ قُصِّيه }.. فَـلَستُ أُطِيق !
تَقتحِمُ أختُ موسى صُفوفَ الجُندِ كَأنّها ذاهِبةٌ إلى المقْصََلة.. و في ابتِهالٍ صامِتٍ ؛ تتَفوَّقُ على الجُموعِ الهَشَّةِ في ميزَانِ الله !
تَتجولُ عَينَيها في الدُّروعِ اللامِعَةِ.. مُطمَئنَةً كشاطِئٍ يَعلمُ أن يدًا خَفِيةً تَسوقُ السّفينَةَ إلى المَرفَأ الآمِن !
لم تكُن الصّغيرةُ تَملكُ مِتراسًا خُرافيًا تَصدُّ به التَحقيقَ الوَاقِفَ على بوابَاتِ القَصْر.. لكنّها كانت تَملِكُ شيئًا يُشْبهُ الضَّبابَ.. أبيَضَ مثلَ القُطنِ يَمتدُّ كالفَضاءِ.. كانَ ذلكَ هوَ الإحسَاسُ بمَعيّةِ الله !
كان مَشهدًا أُسطورِيًّا بكلّ المَقَاييِس.. فَتاةٌ غَضّةٌ تَقصُّ آثارَ رَضيعٍ.. ما أكبرَ الفَاجعةِ لو أنّ الجُندَ انتبهوا أنّ قلبَها كانَ يَنبضُ في صَدرِ الرّضِيع..!
كانت تلكَ تَضحيةٌ ؛ و كلُّ تَضحيةٍ لا يَتَتلمَذُ عليها هُنا لا يُعوّلُ عليها !
و في ابتِسَامةِ الذِي يَرَى المَصيرَ قالت الفتاة ُ{ هَل أَدُلكُم عَلى أَهْلِ بَيتٍ يَكْفلونَه } ؛ و لوْ قالَت على أُمٍّ تَكفلُه لَقُتِلَ الصّغيرُ.!
بَينَ معنى { أهلِ بَيْتٍ } وَ معنى { أُمّ تَكفله } ؛ كانت حِكمةُ الله تُلهِمُ الصَغيرةَ أنْ تَنطِقَ بِلُغةٍ تُبقي الغِطاءَ على الصّغيرِ مُسبلًا !
و كانت حِكمةُ الله حِينها تُرَتبُ مَوعِدًا لِفِرعَون.. كان الخَيطُ الرابِعُ الآنَ حُضنَ امرأةٍ عَقيمٍ ظلَّ يتَّسعُ في الفَراغِ، و يَشتَهي أنْ يفيقَ على ضَمّةٍ دافِئَةٍ !
ثَلاثُ نُسْوَةٍ و طِفْل على عتَبةِ مَلحَمَة التّغيير.. و بِضعُ تفَاصيلٍ رَقيقةٍ تَرسُمُ صحوًا غيرَ مُتوقَعٍ.. صحوًا سَيُربِكُ الليلَ !
تَأمل هذا الجُندي الخَفِي..{ ألْقَيتُ عَليْكَ مَحَبَةً مِنِّي }.. كانت كافِيةً كي تتَشَبثَ به { آسيا } و تقول { لا تَقْتلُوهُ قُرّة عَيْنٍ لِي وَ لَك } !
كلّ الصّدورِ كانت تنهارُ إذا اتَكَأ عليها فمُ الرّضيع.. فقط لأنّ اللهَ قال { و حَرَّمْنَا عَلَيه المَراضِع }.! يَغورُ اللّبنُ.. و تَشتركُ قَطَراتُ الحَليبِ في مَشهدِ التَدبيرِ الإلهي.. تُصبحُ القَطرات مثلَ مياهِ النّيل.. تَتجمعُ على دُفُعات..
مِثلَ كَتيبَةٍ خَفيَّة تَتَسلَّلُ بِحَذرٍ إلى قَدَرٍ يَختبِىُء في مهدٍ عاجِز.. نُقطةُ الحَليبِ، و دَمْعُ الانتظارِ، و عاطفةُ امرأةٍ عَقيمٍ، و أُخت
تَلتصقُ بالحذَر ؛ أولئكَ هم جُندُ اللهِ الذين انتَصَبوا قبالةَ جُندِ فرعَون وهامَان !
يا لِروعةِ القرآنِ.. حيثُ يكتبُ حِكايةً مُدهشةً مَليئَةً بنقاطٍ تَظلُّ تَسترسِلُ فينا نحوَ المُفاجآت !
كانَ فرعون يَتجولُ في ليالي النّومِ الدّاكنةِ و يُحكِمُ إقفالَ القَناديل.. و يَجعلُ الأيّامَ رَتيبةً لا إيقاعَ فيها..!
و كانَ عُمرُ النّاسِ في زَمَنه شِتاءاتٍ ثَقيلةً.. و في الشّتاءِ دَومًا يَطولُ الّليلُ !
هل تَعلم أنّ تَدبيرَ الله يُرهِب !! فمنَ العَتمةِ باغَتَ الخوفُ فرعونَ.. إذ كان الحُلُمُ الذي أرهَقَه قادمًا من الظّلام ؛ حيثُ أيْقَظَه حلمٌ أتى من عَالمٍ فوقَ الزّمان !
حلمٌ يُرتبُ انحناءً نهائِيًا للقوةِ الفَاسَدة.. و لذلك كرّرَ القرآنُ قولَه { وَ هُم لا يَشْعُرون } مرّتان.. !
ما بين { أَلقِيهِ في اليَمِّ } و بينَ { نُري فِرعَونَ وهَامانَ و جُنودَهُما مِنهم ما كانُوا يَحذَرُون } ؛ كان بينهما عُمْرًا ربّما بِحجمِ آلافِ الدّمَعاتِ و الجِراحاتِ المُتخثّرة من كَثرةِ ما مَرّ عليها من الحُزن.! تَبدو المَسافاتُ نحوَ الوَعدِ في حِسّ البَشريّة نوعًا من النِّسيان.. نَظنُ أنّنا في زَاويةِ الإهْمَالِ.. وأنّ قرارًا بالنَفي من سُطورِ الفَرحِ قد اتَخَذه القَدرُ تجَاهَنا.. ثم تُدهِشُك المُفاجآةُ.. يُدهشُك اللهُ وهو يُعلنُ في المَلَأ الأعْلى أنّ حقبَةً من التّاريخِ أو سُلطةً بَشريّةً قد آنَ آوانُ أنْ تكون َ{ نَسيًا مَنْسِيًّا }..!
في لَحظةٍ يَكتبُ الخلودُ من عُمرِ امرأةٍ سَطرًا في صَميمِ الوِجودِ و يُلغِي مَرحلَةً كامِلةً !
دَومًا على شاطِىء وَعدِ اللهِ ؛ انتظروا عَودةَ المَهدِ مُحمَلًا.. إذا أرْسَلتُموهُ بتَضحيةٍ نَفيسَة !
مختارات