المشهد الأول
هكَذا بَدأتْ الحِكايَة..
{ وَ نُرِيدُ أَن نَمُنَّ عَلى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَ نَجْعَلهُم أَئِمَّة }..
بينَ تاريخ ِ{ الَّذِينَ اسْتُضْعِفوا } و قَرارِ الله بأنْ { نَجْعَلهُم أَئِمَّةً و نَجْعَلهُم الوَارِثُين } ؛ يَتحرَكُ قَدرٌ ضَليعٌ دَؤوبٌ في سِتارٍ خَفِي.. في مُقدمَةٍ عَجيبَةٍ.، في لَقْطَةٍ خَارِجَ قانونِ الكَون..
بأمرٍ يَخلَعُ فيه المنطقُ كلَّ مَنطقِه، و يُبقي العَقل دونَ أبجدياتِه { وَ أوْحَينَا إلى أُمِّ مُوسَى أَن أَرضِعيِه فإذا خِفتِ عَليه فَألقيِه في اليَم } ! هَكذا دون تَفسيرٍ يَدعُ القرآنُ الأسبابَ في بقعةٍ بعيدةٍ، و يحملُنا إلى عالمٍ مُختَلف.. النّجاةُ فيه ستكونُ في لحظةِ الغَرق !
تَسيرُ الأحداثُ في غَفلةٍ من الرّيحِ الظّالمةِ.. تَمتَطي تابوتَ طفلٍ، و قَلبَ امرأةٍ، و مَوجةَ مَسخرةٍ سيذكُرُها فِرعَون كثيرًا.. إذْ هي التي أوْصَلَت قدْرًا في هيئةِ طفلٍ إلى قَصرِه، ثمّ أطبَقَت عليه وعلى بقيةِ جُندِه !
كانَ البحرُ ظمآنًا لِـتابوتِ فرعون، وكان تابوتُ مُوسى هوَ المُقدمة !.. ما أحْلَمَ الله !
يبتدأُ الأمرُ بإلقاءِ الطّفل في اليَم.. حيثُ تَختارُ إرادةُ اللهً امرأةً في بدْء المَشهد.. تَختارُ إرادةُ اللهِ أُمًّا و طفلاً حَطَبًا للتَغيير.!
تختارُ مِن نَسيجِ الحَياة أَرَقَّ الخُيوط.. تختارُهم السّماءُ كي تَحْبِكَ شَبكةَ المَصيدَة !
{ فَألقيه فِي اليَم }.. الأمرُ كانَ أنْ تُلقي بهِ في لَحظةٍ هيَ فَوق الفِطرَة و فوق المَنْطق ؛ لِـتَستحيلَ بعدَها العَينَين الصّامِتَتين مَأتَمًا كبيرًا و شِبه مَقبرَة.!
هكذا يَصفُ القرآنُ قلبَها { فَأصْبَحَ فُؤادُ أُمّ مُوسى فَارِغًا} ؛ حتى كأنّ فراغَ القَلبِ من الطّفل هو فراغُ حياتِها من جَاذبيةٍ كانت تُمسِكُها فلا تَنفرط !
فؤادُ أمِّ موسى فارغًا.. تَسمعُ فيه ضَجيجَ الهَلعِ.. و لِلهَلعِ صَدًى تَنشَقُّ منه السّماوات !
{ لَولا أنْ رَبَطنا عَلى قَلبِها}.. أَتوارَى وَجَلًا مِن هَولِ التّعبير ؛ فاللهُ بكلِّ جَلالِه هُو منْ يربطُ على القلبِ المَفجوع..!
كان الربطُ يَحتاجُ وَعدًا { إنّا رَادُّوه إِلَيك }.. وكانَ مَعَ الوَعدِ بِشَارَةٌ { وجَاعِلُوهُ مِن المُرْسلِين }
حتّى
{ لوْلا أَن رَبَطنَا على قَلْبِها لَكانَت } غَصَّتُها { أَن تُبدي به }..
فَقد كان الصَّمتُ في فراغِ قلبِها يُشبِه (كومَة قَشٍّ في حُضْن الحَريق) ؛ حيثُ يكونُ الصمتُ مُقدمةً لاشتعالٍ ثقِيلٍ لا تُطيق أمواجُ النيلِ أن تَبلغَه !
تَلتحفُ أمّ موسى بِرحمةِ الله كي يَظلَ اليقينُ فيها واقِفًا مُنتَصِبًا.. تَبتَهلُ.. اجمَعْنِي أنتَ يا الله كي لا أتَناثَر.. كي لا أكون نهايةً مبكرة !
ما أوجَعَ المَسافَة في قلبِها بينَ مَوجةٍ و مَوجة !
ما أوجعَ الانْتِظار بين تَهادِي التّابوتِ وبين شَهقَةِ أمٍّ تَرتجفُ و هي تَتّلو على الماء توَسلاتِها أن يَرحمَ الصَغير !
تَبدو خَطواتُ الوقْتِ بطيئةً كأنّها تُكمِلُ معَ هَديرِ البَحرِ مَشاهدَ المٌلحمة !
يَتكاثرُ الخَوفُ في كلّ لَحظةٍ في القَلبِ الفَارِغ.. يَصعدُ على جُدرانِ الانهيارِ في قلْبِها.. يَتغلغَلُ في تَصَدُعِه و يُحَمِحِمُ في السُّويداء!
مَنْ يدري.. بل من يُدركُ أنّ اليُتمَ يَزيدُ في عُمر المَرأة إذا بَردَت روحُ طِفلها!
من يدري أن المَرأَة تَنكسرُ إلى نِصفيْن: نِصفٌ في المَقبرة، و نِصفٌ بين الأٌحياء إذا رحلَ طفلُها !
مَنْ يَدري أنّ المَرأةَ بلا أطْفالِها ؛ كَشجرَةٍ تَرى انهيارَ أوراقها !
مَنْ يَدري أنّ المَرأةَ تَختارُ مِلْحَ الدّموعِ لِتَرسُمَ به صُورةَ طِفْلٍ مَضى دونَ إذنٍ منْ قلبِها..!
مَن يدري أنّ الجَمرَ يَتّقِدُ في أهدابِ المَرأة فتَظلُّ لياليها يَقِظةً تَنتظرُ القِيامَةَ كي تُلْقِمَ الرَّضيعَ صَدْرهَا !
يَلحُّ العَويلُ في الفُؤاد الفَارِغ.. تَتكَوٌّمُ على نفْسها.. ثمّ يَقفزُ سُؤالٌ يُزلزِلُها.. تُرى هلْ بَكى الصَغيرُ في مَهْدِه فأيْقظَ الحيتان..
ربَّـاه !.. ما أثْقل الحُزنَ يَوم يتَكىءُ على قَلبِ امرأةٍ كانت تَحتَمي من شِتاءِ الحَياةِ بِدفءِ صَغيرِها !
يا للأُمومةِ يومَ تُصبحُ هي قُربانَ البِدايةِ للتغيير..
يا للأُمومة كيفَ يَصنعُ منها القرآنُ أيْقونَةَ التَّضْحِية و الفِداء.!
{ أٌلقِيهِ في اليَمّ }.. هذا فِعلٌ لمْ يُسجَل في تاريخِ امرأةٍ مِن قَبل.. !
يَهدرُ النيلُ و لا يَسمعُ النَّحيب.. فقد كانَ النيلُ مُنشغِلاً بأمرِ الله.. كانَ الماءُ يَسيلُ بحكمةٍ بالغةٍ في مَجرًى مرسومٍ باقْتدارٍ مَهيب..
اليمُّ في البدايةِ سَيحملُ الطِفلَ الصغيرَ.. و البحرُ في النّهاية سَيحرسُ النبيَّ الكَبيرَ.. و في المُنتَصفِ سَيغرقُ فِرعَون..
و سَيظلُّ الموجُ وَدودًا فقطْ ؛ معَ الأقْدامِ التي لم يَعلَقْ بها شيءٌ من الطُغيان !
يا للعَجَب.. أضْعفُ الأَوتارِ في الحِكايةِ ؛ هي التي تَعزِفُ لَحنَ الخُروجِ للأمٌّة المَقهورَة..
حيثُ تَبدو المرأةُ في ضَعفِها هي تَدبيرُ الله، وهي الكثيرُ في فقْرِها..
ما أعجبَ القرآن.. معَ كلّ حَدثٍ عَظيمٍ تَتجلى المرأةُ رُكنًا رَكينًا ؛ حتّى كأنّها ما يَقدحُ به زِنادُ المعْركَة.!
يُعيدُ القرآنُ بِناءَ التَّصوُّر ؛ فيَضعُ الأنثى في الوظِيفَة اللاّئقَة.. في المَكانِ الّذي يُبقي الجُذوع َمُتجذِّرة !
ابْقوا مَعَنا في سِلسِلَة (أحْسنُ القَصَصِ).. فلا زالَ للحِكايةِ بَقيّة..
مختارات