" تأسيس الأعمال على التقوى "
" عظم جرم الذي إذا أمر بتقوى الله أخذته العزة بالإثم "
ذمَّ الله – عز وجل - صنفاً من عباده إذا قيل له: اتق الله، أخذته العزة بالإثم، وهؤلاء حسبهم جهنم وبئس المهاد، قال تعالى: " وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ " [البقرة: 206] ولا شك أن هذا الصنف من الناس صنف باغ طاغ متجبر، ولذا فإنه إذا قيل للواحد منهم: اتق الله، تجده بغى، وطغا، وثار، وأرغى وأزبد، وقد يؤذي مخاطبه، وقد يقتله، ويفتك به.
وحسبك أن تعلم أن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ " [الأحزاب: 1] وقد سقت النصوص الكثيرة القرآنية والنبوية الآمرة بالتقوى، كقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ " [البقرة: 278].
وتقوى الله وصية الله للأولين والآخرين من البشر، والمؤمن إذا قيل له: اتق الله، تواضع لها، وأخبت، ورقَّ قلبه، وإذا كان قد زلَّ وأخطأ، فإنك تجده قد ارعوى، واستغر وتاب، وأناب.
" تأسيس الأعمال على التقوى "
ينبغي أن تؤسس الأعمال على التقوى، ومن ذلك بناء المساجد، ودور الأيتام، والمدارس، والجامعات، وقد ذمَّ الله تعالى في العهد النبوي الذين بنوا في المدينة في منطقة قباء مسجداً ضراراً، أرادوا من ورائه أن يتخذوه موضعاً للتآمر على رسول الله وعلى المؤمنين معه، فنهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن افتتاحه والصلاة فيه، وكان بناته قد دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة فيه، فكشف الله سترهم، فضح أسرارهم، وأنزل فيهم قرآناً يتلى تحذيراً من كلِّ من فعل مثل فعلهم، ورغَّب الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوم في المسجد الذي بني على التقوى، وهو الذي بني لعبادة الله، وفيه الذين يحبُّون أن يتظهروا، قال تعالى: " وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرُ أَمْ مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمُ حَكِيمُ " [التوبة: 107- 110].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآيات: " سبب نزول هذه الآيات الكريات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له: أبو عامر الراهب، وكان قد تنصّر في الجاهلية، وقرأ علم أهل الكتاب، وكان فيه عبادة في الجاهلية، وله شرفٌ في الخزرج كبير.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة، واجتمع المسلمون عليه، وصارت للإسلام كلمة عالية، واظهرهم الله يوم بدر، شرق اللعين أبو عامر بريقه، وبارز بالعداوة، وظاهر بها، وخرج فارّاً إلى كفار مكة من مشركي قريش، فألَّبهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب، وقدموا عام أحدٍ، فكان من أمر المسلمين ما كان، وامتحنهم الله، وكانت العاقبة للمتقين.
وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصَّفين، فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصيب ذلك اليوم، فجرح في وجهه، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى، وشجّ رأسه صلوات الله وسلامه عليه، وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار، فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته، فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق، يا عدوَّ الله ! ونالوا منه وسبّوه، فرجع وهو يقول: والله لقد أصاب قومي بعدي شرّ.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره، وقرأ عليه من القرآن، فأبى أن يسلم وتمرد، فدعى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيداً طريداً، فنالته هذه الدعوة، وذلك أنه لما فرغ الناس من أحدٍ، ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم، فوعده ومنَّاه، وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنَّيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول لله صلى الله عليه وسلم، ويغلبه ويردُّه عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه، ويكون مرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه، وفرغوا منه قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وجاؤوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلِّي في مسجدهم، ليحتجوا بصلاته عليه السلام فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية. فعصمه الله من الصلاة فيه، فقال: «إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله» فلما قفل صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة من تبوك، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم، نزل عليه الوحي بخبر مسجد الضّرار، وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء، الذي أسس من أول يوم على التقوى.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة؛ كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله " وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا ": وهم أناس من الأنصار، ابتنوا مسجداً، فقال لهم أبو عامر: ابنوا مسجداً واستعدُّوا بما استطعتم من وقوة ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتي بجند من الروم، وأخرج محمداً وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحبّ أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة، فأنزل الله تعالى: " لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدُ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ " إلى " وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " وكذا روي عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وعروة بن الزبير، وقتادة، وغير واحد من العلماء.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار، عن الزهري، ويزيد بن رومان، وعبد الله ابن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة، وغيرهم، قالوا: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني من تبوك – حتى نزل بذي أوان – بلدٍ بينه وبين المدينة ساعةٌ من نهار، وكان أصحاب مسجد الضِّرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فقال: «إني على جناح سفر وحال شغل» أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولو قدمنا – إن شاء الله تعالى – أتيناكم فصلينا لكم فيه».
فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك ابن الدُّخشم أخا بني سالم بن عوف، ومعن بن عديٍّ – أو: أخاه عامر بن عديٍّ – أخا بلعجلان، فقال: «انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه وحرقاه» فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدُّخشم، فقال مالك لمعن: انظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي، فدخل أهله فأخذ سعفاً من النخل، فأشعل فيه ناراً، ثم خرجا يشتدَّان حتى دخلا المسجد وفيه أهله، فحرَّقاه وهدماه وتفرقوا عنه، ونزل فيهم من القرآن ما نزل: " وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا " إلى آخر القصة.
وقوله: " وَلَيَحْلِفُنَّ " أي: الذين بنوه " إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى " أي: ما أردناه ببنيانه إلا خيراً ورفقاً بالناس، قال الله تعالى: " وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ " أي: فيما قصدوا وفيما نووا، وإنما بنوه ضراراً لمسجد قباء، وكفراً بالله، وتفريقاً بين المؤمنين، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله، وهو أبو عامر الفاسق، الذي يقال له: الراهب، لعنه الله.
وقوله: " لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا " نهي من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم والأمة تبع له في ذلك، عن أن يقوم فيه، أي: يصلي فيه أبداً، ثم حثَّه على الصلاة في مسجد قباء الذي أسس من أول يوم بنائه على التقوى، وهي طاعة الله، وطاعة رسوله، وجمعاً لكلمة المؤمنين ومعقلاً وموئلاً للإسلام وأهله. ولهذا قال تعالى: " لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ " والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء.
ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجد قباء كعمرة» [الترمذي، ابن ماجه].
وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور مسجد قباء راكباً وماشياً [البخاري ومسلم].
وقد ورد في الحديث الصحيح أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو في جف المدينة، هو المسجد الذي أسس على التقوى، وهذا صحيح،ولا منافاة بين الآية وبين هذا، لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى.
ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبد الله ابن عامر الأسلمي، عن عمران بن أبي أنس، عن سهل بن سعد، عن أبيّ بن كعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسجد الذي أسس على التقوى مسجدي هذا» تفرد به أحمد [مسند أحمد، صحح متنه محقق ابن كثير].
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا ربيعة بن عثمان التيمي، عن عمران بن أبي أنس، عن سهل بن سعد الساعدي قال: اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الآخر: هو مسجد قباء، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه، فقال: «هو مسجدي هذا» تفرد به أحمد أيضاً [قال محقق ابن كثير: أخرجه أحمد وابن أبي شيبة في مصنفه والطبري في تفسيره والطبراني في الكبير وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجال أحمد والطبراني رجال الصحيح. ابن كثير].
وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا ليث، عن عمران بن أبي أنس، عن سعيد بن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال: تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد قباء، وقال الآخر: هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هو مسجدي هذا» تفرد به أحمد [قال محقق ابن كثير: صحيح، أخرجه أحمد].
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا ليث، حدثني عمران ابن أبي أنس، عن ابن أبي سعيد، عن أبيه أنه قال: تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل: هو مسجد قباء، وقال الآخر: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هو مسجدي» وكذا رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة، عن الليث – وصححه الترمذي – ورواه مسلم كما سيأتي [وصححه محقق ابن كثير، أخرجه أحمد].
" أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرُ أَمْ مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمُ حَكِيمُ " يقول تعالى: لا يستوي من أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان، ومن بنى مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل، فإنما بنى هؤلاء بنيانهم " عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ " أي: طرف حفيرة منثالة " فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين " أي: لا يصلح عمل المفسدين.
قوله تعالى: " لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ " أي: شكّاً ونفاقاً بسبب إقدامهم على هذا الصنيع الشنيع، أورثهم نفاقاً في قوبهم، كما أشرب عابدو العجل حبه، وقوله: " إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ " أي: بموتهم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وزيد بن أسلم، والسديّ، وحبيب بن أبي ثابت، والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد من علماء السلف " وَاللَّهُ عَلِيمُ " أي: بأعمال خلقه " حَكِيمُ " في مجازاتهم عنها، من خير وشر [تفسير ابن كثير، بشيء من الاختصار].
مختارات