" أقسام الناس في التقوى والصبر "
" أقسام الناس في التقوى والصبر "
ذكر شيخ الإسلام أن الناس في التقوى، وهي طاعة الأمر الديني، والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني أربعة أقسام:
الأول: أهل التقوى والصبر، وهم الذين أنعم الله عليهم من أهل السعادة في الدنيا والآخرة.
الثاني: الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر، مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلاة ونحوها، ويتركون المحرمات، لكن إذا أصيب أحدهم في بدنه بمرض ونحوه أو في ماله أو في عرضه، أو ابتلي بعدو يخفيه عظم جزعه وظهر هلعه.
الثالث: قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى، مثل الفجار الذين يصبرون على ما يصيبهم في مثل أهوائهم، كاللصوص والقطّاع الذين يصبرون على الآلام في مثل ما يطلبونه من الغصب وأخذ الحرام؛ والكتَّاب وأهل الديوان الذين يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها، وكذلك طلاب الرئاسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر عليها أكثر الناس، وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم يصيرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والآلام.
وهؤلاء هم الذين يريدون علواً في الأرض أو فساداً من طلاب الرئاسة والعلو على الخلق، ومن طلاّب الأموال بالبغي والعدوان، والاستمتاع بالصور المحرّمة نظراً أو مباشرة وغير ذلك يصبرون على أنواع من المكروهات، ولكن ليس لهم تقوى فيما تركوه من المأمور، وفعلوه من المحظور، وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من المصائب: كالمرض والفقر وغير ذلك، ولا يكون فيه تقوى إذا قدر.
وأما القسم الرابع، فهو شر الأقسام: لا يتقون إذا قدروا، ولا يصبرون إذا ابتلوا؛ بل هم كما قال الله تعالى: " إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا " [المعارج: 19- 21] فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا قدروا، ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا، إن قهرتم ذلوا لك ونافقوك، وحابوك واسترحموك، ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل وتعظيم المسؤول، وإن قهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم قلباً، وأقلهم رحمةً وإحساناً وعفواً، كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق الإيمان أبعد، مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون، ومن يشبههم في كثير من أمورهم، وإن كان متظاهراً بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم، فالاعتبار بالحقائق: " فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " [مسلم].
فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم كان شبيهاً لهم من هذا الوجه، وكان ما معه من الإسلام أو ما يظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما يظهرونه منه، بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو أعظم ردَّة وأولى بالأخلاق الجاهلية، وأبعد عن الأخلاق الإسلامية، من التتار.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبته: «خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» وإذا كان خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، فكلُّ من كان إلى ذلك أقرب وهو به أشبه كان إلى الكمال أقرب، وهو به أحق، ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه به أضعف، كان عن الكمال أبعد، وبالباطل أحق، والكامل هو من كان لله أطوع، وعلى ما يصيبه أصبر، فكلما كان أتبع لما يأمر الله به ورسوله وأعظم موافقة لله فيما يحبه ويرضاه، وصبراً على ما قدره وقضاه، كان أكمل وأفضل، وكل من نقص عن هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك [الزهد والورع والعبادة، لشيخ الإسلام ابن تيمية].
مختارات