تابع " مظاهر اتباع الهوى " 2
تابع " مظاهر اتباع الهوى " 2
سابعًا: ومن مظاهر اتباع الهوى قلة وندرة الاستشهاد بنصوص الشرع المحكمة الواضحة، وإذا استشهد بها صاحب الهوى على ما يريد فلا يستشهد بها على معناها الصحيح بل يضعها في غيرها موضعها، فأهل الأهواء يتتبعون المتشابه ويدعون المحكم. ويستشهدون بحوادث الأعيان ويدعون القواعد والأصول والأركان، كحال الذين في قلوبهم زيغ أو في قلوبهم مرض، قال تعالى: " هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ " [آل عمران: 7] وفي الحديث عن عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلا هذه الآية ثم قال: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» (رواه البخاري ومسلم).
فصاحب الهوى يتتبع المتشابه (الإبانة لابن بطة) ويقرأ نصوص الشرع لا ليستفيد منها حقًا ومنهجًا يقوم به فكره وتصوره، بل ليأخذ منها ما يرى أن فيه حجة له أو ردًا على من خالفه ولذا روى ابن بطة بسنده عن أيوب قال: «لا أعلم أحدًا من أهل الأهواء يخاصم إلا بالمتشابه» ومن ذلك ما جاء أن واصل بن عطاء رأس المعتزلة كان يصلي في الليل، ولوح ودواة موضوعان فإذا مرت به آية فيها حجة على مخالف، جلس فكتبها ثم عاد إلى صلاته (انظر المنية والأمل لابن المرتضى).
وكما يتبع صاحب الهوى المتشابه من النصوص الشرعية فإنه يتبع – أيضًا – المتشابه من كلام العلماء وعباراتهم ويدع ما يبينه من محكم كلامهم.
وصاحب الهوى يكره سماع وقراءة النصوص الشرعية المخالفة لما هو عليه كما ذكر ذلك غير واحد من السلف عن بعض أهل البدع، ومن المعلوم أنه لا يلزم أن يقف كل صاحب هوى من النصوص الشرعية موقف هؤلاء المبتدعة، فهذا أمر يتفاوت فيه أهل الأهواء بحسب غلوهم في اتباع أهوائهم لكن يجمعهم على الأقل استثقال سماع تلك النصوص المخالفة لمنهجهم وعقيدتهم، والتبرم بها، والحرج عند سماعها وإسماعها.
وما ذاك إلا لأن أهل الأهواء يأخذون ببعض النصوص دون بعض يأخذون منها ما يوافق أهواءهم ويردون ما يخالفهم بالتأويلات الفاسدة والتحريفات الظاهرة فتجد صاحب الهوى ينادي بالتمسك بالشرع والتأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم في الأمور الموافقة لهواه أو التي له فيها مصلحة وله فيها حق يريد أن يستخرجه، أما ما كان مخالفًا لهواه أو ما كان فيه بيان لحقوق غيره عليه ونحو ذلك، فإنه يصد ويعرض ويتغافل عن تحكيم الشرع أو يرده ردًّا صريحًا أو غير صريح، وهؤلاء لهم نصيب من الذم المذكور في قوله تعالى: " وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ " [النور: 47-52].
ثامنًا: ومن المظاهر أيضًا الكراهية للناصحين من أهل الإيمان والتقوى وأهل العدل والإنصاف المتبعين للسنة ومنهج السلف قولاً وفعلاً واعتقادًا ومنهجًا، فالمتبع لهواه يجد في هؤلاء تقويمًا لقوله وفعله، وصدًا له عن هواه، ونطقًا بالحجة والبرهان الذي يسكته وهذا ما لا يعجبه ولا يرتضيه، إذ إن من سمات أهل الأهواء حبهم لمن يمدحهم ولو بالباطل وبغضهم لمن ينصحهم وينكر عليهم أهواءهم قال تعالى: " وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ " [الأعراف: 79] بل ربما اتهموا من ينصحهم ويبين لهم عيوبهم بأنه متبع لهواه ومريد للفتنة وسيئ القصد والإرادة... وقد يكون منطق بعضهم مشابهًا لمنطق فرعون حين قال في موسى عليه الصلاة والسلام ما حكاه الله تعالى عنه بقوله: " إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ " [غافر: 26] ومشابهًا لموقف من قالوا لرسلهم: " لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا " [إبراهيم: 13].
تاسعًا: ومن مظاهر اتباع الهوى كثرة التفرق والاختلاف وتعدد الطوائف والأحزاب وتناحرها، وطعن كل فريق في الآخر والزعم بأن الحق كله معه والباطل كله مع من خالفه ونحو ذلك.
فهذا كله لا شك أنه ليس من دين الإسلام في شيء قال تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ " [الأنعام: 159] وقال تعالى: " وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ " [آل عمران: 105] وقال تعالى: " وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ * هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ " [الجاثية: 16-20].
قال شيخ الإسلام بعد أن ذكر هذه الآيات الأخيرات وغيرها: «فهذه المواضع من القرآن تبين أن المختلفين ما اختلفوا حتى جاءهم العلم والبينات، فاختلفوا للبغي والظلم، لا لأجل اشتباه الحق بالباطل عليهم، وهذا حال أهل الاختلاف المذموم من أهل الأهواء كلهم، لا يختلفون إلا من بعد أن يظهر لهم الحق ويجيئهم العلم، فيبغي بعضهم على بعض...» (منهاج السنة).
وقال الشيخ عبد الله الغنيمان حفظه الله: «ومن نظر في كثير من الخلافات بين الجماعات والأفراد سواء كان ذلك في مسائل العلم أو في مجال التوجيه والعمل وجد ظاهرها في طلب العدل والإنصاف، أو الصواب وترك الانحراف، وحقيقتها حب عبادة النفس واتباع الهوى أو أغراض سيئة دنيئة» (الهوى وأثره في الخلاف، للشيخ عبد الله الغنيمان).
فهذه التحزبات والانتسابات التي يكون عليها مدار ومعقد الولاء والبراء والتي يحصل بسببها التفرق والشحناء وظهور العداوة والبغضاء بين المسلمين هي من طرق أهل الأهواء والابتداع لا من منهج أهل السنة والاتباع.
قال شيخ الإسلام – رحمه الله –: «فأما الانتساب الذي يفرق بين المسلمين وفيه خروج عن الجماعة والائتلاف إلى الفرقة، وسلوك طريق الابتداع ومفارقة السنة والاتباع، فهذا مما ينهى عنه، ويأثم فاعله ويخرج بذلك عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم (مجموع الفتاوى).
ولا يدخل في هذا من يجتمعون على التعاون على البر والتقوى ويوالون جميع المؤمنين بحسب ما فيهم من الطاعة سواء كانوا في جماعتهم أم لا، ويعادون من كان فيه سبب العداوة بحسب ما فيه من المعصية سواء كان في جماعتهم أم لا.
عاشرًا: في الأخذ ببعض المسائل العلمية وترجيحها، لا يكون رائد صاحب الهوى الحق ومعرفة الدليل الصحيح والدلالة الصريحة بل يتبنى بعض المسائل ويرجح بعض الأمور لهوى في نفسه إما موافقة لشيخه أو مخالفة لقرينه ومنازعه أو لكونه رأيًا جديدًا أو غريبًا أو لغرض دنيوي، وقد يكون هواه في الأخذ بالأسهل وتتبع الرخص وقد يكون هواه في الأخذ بالأشد وإن كان مرجوحًا ودون مراعاة لمصالح شرعية.
وقد وقفت على كلام نفيس طويل للشيخ عبد الرحمن المعلمي – رحمه الله – تكلم فيه عن غلبة الهوى على كثير من النفوس ودقة مداخله، وضرب لذلك أمثالاً تصوره وتقربه ومما جاء فيه قوله: «افرض أنك قرأت آية فلاح لك منها موافقة قول لإمامك وقرأت أخرى فلاح لك منها مخالفة قول أخر له، أيكون نظرك إليهما سواء لا تبالي أن يتبين منهما بعد التدبر صحة ما لاح لك، أو عدم صحته؟
افرض أنك وقفت على حديثين لا تعرف صحتهما ولا ضعفهما أحدهما يوافق قولاً لإمامك والآخر يخالفه، أيكون نظرك فيهما سواء، لا تبالي أن يصح سند كل منهما أو يضعف؟
افرض أن رجلاً تحبه وأخر تبغضه تنازعًا في قضية فاستفتيت فيها ولا تستحضر حكمها، وتريد أن تنظر، ألا يكون هواك في موافقة الذي تحبه؟
افرض أنك وعالمًا تحبه وأخر تكرهه أفتى كل منكم في قضية واطلعت على فتويي صاحبيك فرأيتهما صوابًا، ثم بلغك أن عالمًا أخر اعترض على واحدة من تلك الفتاوى وشدد النكير عليها، أتكون حالك واحدة سواء كانت هي فتواك أم فتوى صديقك أم فتوى مكروهك؟
افرض أنك تعلم من رجل منكرًا وتعذر نفسك في عدم الإنكار عليه ثم بلغك أن عالمًا أنكر عليه وشدد النكير، أيكون استحسانك لذلك سواء فيما إذا كان المنكر صديقك أم عدوك، والمنكر عليه صديقك أم عدوك؟ فتش نفسك تجدك مبتلى بمعصية أو نقص في الدين، وتجد من تبغضه مبتلى بمعصية أو نقص أخر ليس في الشرع بأشد مما أنت مبتلى به؟ فهل تجد استشناعك ما هو عليه مساويًا لاستشناعك ما أنت عليه، وتجد مقتك نفسك مساويًا لمقتك إياه؟
وبالجملة فمسالك الهوى أكثر من أن تحصى وقد جربت نفسي أنني ربما أنظر في القضية زاعمًا أنه لا هوى لي فيلوح لي فيها معنى، فأقرره تقريرًا يعجبني، ثم يلوح لي ما يخدش في ذاك المعنى، فأجدني أتبرم بذلك الخادش وتنازعني نفسي إلى تكلف الجواب عنه وغض النظر عن مناقشة ذاك الجواب؛ وإنما هذا لأني لما قررت ذاك المعنى أولاً تقريرًا أعجبني صرت أهوى صحته، هذا مع أنه لم يعلم بذلك أحد من الناس، فكيف إذا كنت قد أذعته في الناس ثم لاح لي الخدش؟ فكيف لو لم يلح لي الخدش ولكن رجلاً آخر اعترض علي به؟ فكيف لو كان المعترض ممن أكرهه.
والعالم قد يقصر في الاحتراس من هواه ويسامح نفسه فتميل إلى الباطل فينصره، وهو يتوهم أنه لم يخرج من الحق ولم يعاده وهذا لا يكاد ينجو منه إلا المعصوم، وإنما يتفاوت العلماء، فمنهم من يكثر منه الاسترسال مع هواه، ويفحش حتى يقطع من لا يعرف طباع الناس ومقدار تأثير الهوى بأنه متعمد، ومنهم من يقل ذلك منه ويخف، ومن تتبع كتب المؤلفين الذين لم يسندوا اجتهادهم إلى الكتاب والسنة رأسًا رأى فيها العجب العجاب، ولكنه لا يتبين له ذلك إلا في المواضع التي لا يكون له فيها هوى. أو يكون هواه مخالفًا لما في تلك الكتب على أنه إذا استرسل مع هواه زعم أن موافقيه براء من الهوى، وأن مخالفيه كلهم متبعون للهوى» (القائد إلى تصحيح العقائد ضمن التنكيل باختصار).
حادي عشر: الجدل بالباطل وعدم الاعتراف بالخطأ ومحاولة إيجاد الأعذار الوهمية والكاذبة للنفس والتسويغ للتقصير، واستبدال المناقشة الهادئة المبنية على الأدلة والبراهين وتفهم الرأي الآخر، استبدال ذلك برفع الأصوات وتسفيه وتحقير الطرف الآخر والتعالم عليه، ومن استحكم في نفسه اتباع الهوى قد يعلم في قرارة نفسه أن الحق مع خصمه، وأنه في جدله هذا إنما يحاول إلباس نفسه ألبسة الزور وذر الرماد في العيون والظهور بمظهر العصمة من الخطأ، وادعاء الصواب والرشد في كل أقواله وأفعاله بل وفي توقعاته وظنونه، فهذه كلها دليل على أن صاحبها متبع لهواه معجب بقوله غير مخلص في مجادلته.
ومن أخطر الأمور أن يضفي على باطله صفة الحق، وأن يستدل لأخطائه وتقصيره بما لا يدل على ذلك من النصوص الشرعية ويضعها في غير موضعها.
ومما ذكره إمام الحرمين الجويني في آداب الجدل قال: «فأول شيء فيه مما على الناظر أن يقصد التقرب إلى الله سبحانه وطلب مرضاته في امتثال أمره – سبحانه – فيما أمر به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعاء إلى الحق عن الباطل، وعما يخبر فيه، ويبالغ قدر طاقته في البيان والكشف عن تحقيق الحق وتمحيق الباطل، ويتقي الله أن يقصد بنظره المباهاة وطلب الجاه والتكسب والمماراة والمحك والرياء ويحذر أليم عقاب الله – سبحانه – ولا يكن قصده الظفر بالخصم والسرور بالغلبة والقهر فإن من دأب الأنعام الفحولة كالكباش والديكة» (الكافية في الجدل).
فصاحب الهوى معجب برأيه ولذا تجده ينفذ ويمضي كل ما يخطر بباله وما تهواه نفسه دون أن يسترشد بآراء الآخرين أو يستشيرهم، وإن استشار فإنما يستشير من يغلب على ظنه أنه يوافقه في هواه، أو يستشير في أشياء تافهة ليست ذات بال.
ثاني عشر: التقصير في محاسبة النفس ورؤيتها بعين الكمال والاعتذار لها عن تسويفها وتقصيرها واتباعها هواها، والإسراف في المباحات والتقصير في المندوبات وغشيان المكروهات والمشتبهات، وعدم أخذ النفس بالعزائم والاحتياطات وعدم تطلعها إلى مقامات الورع والتسابق والمنافسة في الخيرات.
فكل هذه علامات على أن صاحبها واقع في أسر شيء من الهوى.
قال ابن الجوزي – رحمه الله -: «وقد كان أهل الحزم يعودون أنفسهم مخالفة هواها وإن كان مباحًا، ليقع التمرين للنفس على ترك الهوى مطلقًا وليطلب الأرباح في المعاملة بترك المباح» (ذم الهوى).
ثالث عشر: الخمول والكسل والدعة والخلود للراحة والبطالة وتوهم كثرة الانشغال وعدم التطلع لمعالي الأمور بل يهون من شأن من يسعى لذلك ويعيب عليه، ويكون داعية تخذيل وتحقير.
رابع عشر: اختراع العيوب والعراقيل أمام الأعمال التي لا تهواها نفسه، فقد يصور أمرًا ما بصورة المستحيل ويوهم وجود العقبات والصعوبات أمام القيام به وفعله، لكن لو وافق هذا الأمر هوى في نفسه فإن كل ما صوره من العقبات والصعوبات يتلاشى ويزول ويذهب أدراج الرياح وتجد هذا الهاوي يقوم بهذا العمل خير قيام متناسبًا أوهامه وأهواءه السابقة وقد يقلل صاحب الهوى من شأن عمل ما لأنه لا يرغب فيه أو لا تهواه نفسه أو لأنه يكلفه، رغم قناعته الداخلية بأهميته وثمرته وجدواه لكنك تجده في وقت أو موقف آخر ينتصر لهذا العمل نفسه ويعلي من شأنه ويحاول إقناع الناس به ويسفه من ينتقصه وما ذاك إلا لأنه وافق هوى في نفسه أو وجد مصلحة شخصية من ورائه دون وزن مواقفه هذه بميزان الشرع.
خامس عشر: الغموض وعدم الوضوح أو الإفصاح عن حقيقة أهدافه ومقاصده التي حملته على قول ما قال أو فعل ما فعل أو ترك ما ترك، وإذا سئل عن ذلك حاد عن الجواب لأنه ليس لديه جواب مقنع، وقد يجيب ويعلل لموقفه بما لا يدل على حقيقة فعله أو تركه ولذا فإن صاحب الهوى يكون متصفًا بلي لسانه وإعراضه عن قول الحق والشهادة به، وقد قال تعالى: " فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا " [النساء: 135].
سادس عشر: إن صاحب الهوى «لا يرى إلا الهوى» (ذم الهوى) كما قاله ابن الجوزي – رحمه الله – فكما أنه يعمل ما يعمل لهواه، فإنه في الوقت نفسه يفسر كثيرًا من أعمال الناس أو أكثر ما يصدر منهم بالهوى، فإذا تكلم شخص نسبه للهوى وإذا سكت فكذلك، وإذا زاره شخص زعم أنه إنما زاره لغرض ولمصلحة، وإذا تركه شخص اتهمه بالهوى وإذا أحسن إليه أحد زعم أنه غير مخلص وهكذا لا يكاد يسلم منه أحد وكما قيل: «كل إناء بما فيه ينضح» وما ذاك إلا لأنه ينظر بمنظار الهوى فلا يرى إلا الهوى.
مختارات