تابع " مظاهر اتباع الهوى "
تابع " مظاهر اتباع الهوى "
ثالثًا: الاضطراب والتناقض في المواقف والآراء والأحكام فصاحب الهوى قد يعيب أمرًا ثم يفعله، وقد ينتقص عملاً أو مشروعًا، ثم يشيد به ويشارك فيه، وقد يسفه رأيًا لأن قائله فلان من الناس، فإذا قال به شخص يعظمه عاد إلى تمجيد ذلك الرأي الذي سفهه وقد يذم شخصًا ثم يمدحه أو العكس دون مسوغ صحيح لمدحه أو ذمه، فيكون ميزان قبوله ورده للأشياء والأقوال ومدار مواقفه وتوجهاته أهواء النفس فحسب فيقع في اضطراب كبير وتناقض كثير وفساد في الرأي، ولهذا حذرنا ربنا – سبحانه وتعالى – من طاعة صاحب الهوى لأن أمره لا يؤول إلى رشد وسداد أبدًا، قال تعالى: " وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا " [الكهف: 28].
وقال شيخ الإسلام – رحمه الله -: «وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك، ولا يطلبه، ولا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه» (منهاج السنة).
ومن مظاهر التناقض والاضطراب وفساد الموازين لدى صاحب الهوى أن يتحاشى أمورًا ويشدد فيها ثم يفعل ما هو أكبر منها ويتساهل فيها.
وما ذاك إلا لغلبة الجهل واستيلاء الهوى.
قال ابن الجوزي – رحمه الله -: «رأيت كثيرًا من الناس يتحرزون من رشاش نجاسة ولا يتحاشون من الغيبة، ويكثرون من الصدقة، ولا يبالون بمعاملات الربا، ويتهجدون بالليل ويؤخرون الفريضة عن الوقت في أشياء يطول عدها من حفظ فروع وتضييع أصول، فبحثت عن سبب ذلك فوجدته من شيئين: أحدهما: العادة، والثاني: غلبة الهوى في تحصل المطلوب، فإنه قد يغلب فلا يترك سمعًا ولا بصرًا...» (صيد الخاطر).
ويذكرني هذا بموقف الخوارج لما أسروا عبد الله بن خباب – رضي الله عنه – واقتادوه فبينما هم يسيرون لقي بعضهم خنزيرًا لبعض أهل الذمة فضربه فشق جلده، فأنكروا على صاحبهم حتى ذهب إلى الذمي فاستحله وأرضاه، وأخذ أحدهم تمرة ساقطة من نخلة، فأنكروا عليه حتى ألقاها من فمه، ومع ذلك ذبحوا عبد الله بن خباب – رضي الله عنه – وقتلوا زوجته وبقروا بطنها عن ولدها (انظر هذه القصة في البداية والنهاية).
رابعًا: تقصد تتبع السقطات والأخطاء في زلات الكلم وسبق القلم وفلتات اللسان وعثرات الأفكار، دون قصد النصيحة أو التألم لحصول ذلك في الأمة، وضلال أخيه عن الصواب، بل إن صاحب الهوى قد يفرح بوقوفه على خطأ أخيه وقرينه ليتخذ من ذلك ذريعة للحط من قدره والتشهير بعثرته وفي المقابل يحصل له – أي لصاحب الهوى – رفعة وشهرة في ظنه.
وقد لا يفكر في الاعتذار لأخيه أو تلمس المعاذير له أو التلطف في نصحه وبيان عيبه والستر عليه، لأن الدافع له أصلاً ليس الرغبة في الخير وهداية الضال بل لغرض في نفسه من الأهواء والأغراض الخسيسة.
ويقرب من هذا المظهر الخامس لاتباع الهوى وهو.
خامسًا: أن ينكر بعض المنكرات وينهى عنها لهوى في نفسه لا لكونه منكرًا فحسب وهذا يظهر من خلال أمور منها: أن ينكر منكرًا ويقع فيه أو في شر منه، وقد ينكر أمرًا ويتجاوز في إنكاره الحد الشرعي، وقد ينكر أمرًا ويترك أمرًا آخر أولى بالإنكار دون مسوغ شرعي بل لمجرد الهوى. وقد ينكر منكرًا لكون الواقع فيه شخصًا لا يحبه ويترك الإنكار إذا وقع فيه من يحبه، وقد يكون الدافع للإنكار الانتصار للنفس أو للطائفة والمذهب والقبيلة أو لحصول الشهرة أو لشجاعة في الطبع دون إخلاص النية لله تعالى.
قال شيخ الإسلام عن صاحب الهوى الذي يغضب ويرضى لهواه: «ويكون مع ذلك معه شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة، وهو الحق، وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء، ليعظم هو ويثني عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعًا، أو لغرض من الدنيا، لم يكن لله ولم يكن مجاهدًا في سبيل الله، فكيف إذا كان الذي يدعى الحق والسنة هو كنظيره معه حق وباطل، وسنة وبدعة، ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة» (منهاج السنة).
وقال في موطن آخر: «وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان فقد يذنب الرجل أو الطائفة، ويسكت آخرون عن الأمر والنهي، فيكون ذلك من ذنوبهم، وينكر عليهم آخرون إنكارًا منهيًا عنه فيكون ذلك من ذنوبهم، فيحصل التفرق والاختلاف والشر. وهذا من أعظم الفتن والشرور قديمًا وحديثًا، إذ الإنسان ظلوم جهول، والظلم والجهل أنواع، فيكون ظلم الأول وجهله من نوع، وظلم كل من الثاني والثالث وجهلهما من نوع آخر وآخر» (مجموع الفتاوى).
وقال أيضًا: «فالنفس فيها داعي الظلم لغيرها بالعلو عليه، والحسد له والتعدي عليه في حقه، وداعي الظلم لنفسها بتناول الشهوات القبيحة كالزنا وأكل الخبائث فهي قد تظلم من لا يظلمها، وتؤثر هذه الشهوات وإن لم تفعلها فإذا رأت نظراءها قد ظلموا وتناولوا هذه الشهوات صار داعي هذه الشهوات أو الظلم فيها أعظم بكثير، وقد تصبر ويهيج ذلك لها من بغض ذلك الغير وحسده وطلب عقابه وزوال الخير عنه ما لم يكن فيها قبل ذلك، ولها حجة عند نفسها من جهة العقل والدين بكون ذلك الغير قد ظلم نفسه والمسلمين، وأن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر واجب والجهاد على ذلك من الدين.
والناس هنا ثلاثة أقسام:
- قوم لا يقومون إلا في أهواء نفوسهم، فلا يرضون إلا بما يعطونه ولا يغضبون إلا لما يحرمونه، فإذا أعطى أحدهم ما يشتهيه من الشهوات الحلال والحرام زال غضبه وحصل رضاه، وصار الأمر الذي كان عنده منكرًا – ينهى عنه ويعاقب عليه ويذم صاحبه ويغضب عليه – مرضيًا عنده، وصار فاعلاً له وشريكًا فيه، ومعاونًا عليه ومعاديًا لمن نهى عنه، وينكر عليه. وهذا غالب في بني آدم يرى الإنسان ويسمع من ذلك ما لا يحصيه، وسببه أن الإنسان ظلوم جهول فلذلك لا يعدل، بل ربما كان ظالمًا في الحالين، يرى قومًا ينكرون على المتولي ظلمه لرعيته واعتداءه عليهم، فيرضى أولئك ببعض الشيء فينقلبون أعوانًا له، وأحسن أحوالهم أن يسكتوا عن الإنكار عليه..
- وقوم يقومون ديانة صحيحة: يكونون في ذلك مخلصين لله مصلحين فيما عملوه، ويستقيم لهم ذلك حتى يصبروا على ما أوذوا...
- وقوم يجتمع فيهم هذا وهذا، وهم غالب المؤمنين فمن فيه دين وله شهوة تجتمع في قلوبهم إرادة الطاعة وإرادة المعصية وربما غلب هذا تارة وهذا تارة» (مجموع الفتاوى).
وذكر شيخ الإسلام: أن الأقوال والأفعال يجب أن يراد بها وجه الله وأن تكون موافقة للشريعة ثم قال: «ويحتاج أيضًا أن يؤمر بذلك لأمر الله وينهى عنه لنهي الله ويخبر بما أخبر الله به لأنه حق وإيمان وهدى كما أخبرت به الرسل، كما تحتاج العبادة أن يقصد بها وجه الله، فإذا قيل ذلك لاتباع الهوى، والحمية، أو لإظهار العلم والفضيلة أو لطلب السمعة والرياء، كان بمنزلة المقاتل شجاعة وحميَّة ورياء، ومن هنا يتبين لك ما وقع فيه كثير من أهل العلم والمقال وأهل العبادة والحال، فكثيرًا ما يقول هؤلاء من الأقوال ما هو خلاف الكتاب والسنة ووفاقها، وكثيرًا ما يتعبد هؤلاء بعبادات لم يأمر الله بها بل قد نهى عنها أو ما يتضمن مشروعًا محظورًا وكثيرًا ما يقاتل هؤلاء قتالاً مخالفًا للقتال المأمور به أو متضمنًا لمأمور محظور.
ثم كل من الأقسام الثلاثة المأمور والمحظور والمشتمل على الأمرين قد يكون لصاحبه نية حسنة وقد يكون متبعًا لهواه وقد يجتمع له هذا وهذا» (مجموع الفتاوى).
ويدخل في هذا المظهر من يتقصى في ذكر عيوب وأخطاء بعض إخوانه من المسلمين في بعض المجالس سواء كان ذلك يحتاج إليه أو لا يحتاج إليه. ويذكر ذلك لمن في معرفته مصلحة ولمن لا مصلحة في علمه بذلك، حتى صارت مجالس هؤلاء موائد يأكلون عليها أعراض ولحوم المسلمين من غير أن يجدوا في أنفسهم حرجًا مما يقولون، بل ربما اختلقوا لذلك مسوغات شرعية – في زعمهم – فضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
سادسًا: المبالغة في المدح أو الذم، فإذا أحب طائفة أو شخصًا غلا في حبه وتجاوز في مدحه حتى يثنى عليه بما ليس فيه، بل تعود مَسَاوئُه محاسنَ في نظر الهاوي ويجعله في مقام العصمة أو قريبًا منها، ولا يتقبل أي قدح فيه ولا بيان أي خطأ حصل منه وإن كان ظاهرًا ظهور الشمس في رابعة النهار ويبدأ يتأول أقواله ويفسر أفعاله بما لا يدل عليه سياق الكلام ولا ظاهر الحال فلا يكون حبه لمن أحب خالصًا لله، ولا تكون متابعته لمن تابعه لمعرفة الحق وسلوكه بل لهوى في نفسه، وفي المقابل فإن صاحب الهوى إذا أبغض جماعة أو مذهبًا أو أهل بلد أو شخصًا فإنه يبغي في بغضه ويقذع ويتعدى في ذمه بالاستطالة في قوله أو فعله حتى ربما ينسى أو يتناسى كل خير وفضيلة لمن أبغضه بل ربما عادت محاسنه مساوئَ في نظر صاحب الهوى ويرد ما معه من الحق، فيخرج عن حد الشرع في ذلك وتختل عنده الموازين حتى ربما يحب المذموم ويكره المحمود شرعًا، ويخرج عن الصراط المستقيم ومنهج أهل العدل والإيمان.
وهذا الأمر ظاهر جدًا يرى الإنسان ويقرأ ويسمع عنه كثيرًا.
قال شيخ الإسلام – رحمه الله -: «وأمام من أحب شخصًا لهواه، مثل أن يحبه لدنيا يصيبها منه أو لحاجة يقوم لها بها، أو لمال يتأكله به، أو بعصبية فيه، ونحو ذلك من الأشياء فهذه ليست محبة لله، بل هذه محبة لهوى النفس، وهذه المحبة هي التي توقع أصحابها في الكفر والفسوق والعصيان، وما أكثر من يدعي حب مشايخ لله، ولو كان يحبهم لله لأطاع الله الذي أحبهم لأجله، فإن المحبوب لأجل غيره تكون محبته تابعة لمحبة ذلك الغير وكيف يحب شخصًا لله من لا يكون محبًا لله، وكيف يكون محبًا لله من يكون معرضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبيل الله.
وما أكثر من يحب شيوخًا أو ملوكًا أو غيرهم فيتخذهم أندادًا يحبهم كحب الله» (مجموع الفتاوى).
وقال الحافظ ابن رجب: «وكذلك حب الأشخاص الواجب فيه أن يكون تبعًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فيجب على المؤمن محبة الله ومحبة من يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عمومًا... ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان ذلك نقصًا في إيمانه الواجب، فيجب عليه التوبة من ذلك، والرجوع إلى اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من تقديم محبة الله ورسوله وما فيه رضا الله ورسوله على هوى النفس ومراداتها كلها» (جامع العلوم والحكم).
وقال شيخ الإسلام – رحمه الله -: «من الناس من يكون حبه وبغضه وإرادته وكراهيته بحسب محبة نفسه وبغضها لا بحسب محبة الله ورسوله وبغض الله ورسوله وهذا من نوع الهوى، فإن اتبعه الإنسان فقد اتبع هواه " وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ " [القصص: 50] فإن أصل الهوى محبة النفس ويتبع ذلك بغضها.
فالواجب على العبد أن ينظر في نفس حبه وبغضه ومقدار حبه وبغضه هل هو موافق لأمر الله ورسوله؟ وهو هدى الله الذي أنزله على رسوله، بحيث يكون مأمورًا بذلك الحب والبغض لا يكون متقدمًا فيه بين يدي الله ورسوله فإنه قد قال: " لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ " [الحجرات: 1] ومن أحب أو أبغض قبل أن يأمره الله ورسوله ففيه نوع من التقدم بين يدي الله ورسوله، ومجرد الحب والبغض هوى، لكن المحرم اتباع حبه وبغضه بغير هدى من الله» (مجموع الفتاوى باختصار).
وكذلك ينبغي على المسلم أن ينظر فيما يصدر عمن يحبه من أقوال وأعمال هل هي صحيحة ومشروعة أم أنها باطلة وصادرة عن هوى النفس، فإن أهواء النفوس لا يكاد ينجو منها أحد سواء من الصالحين أو الفاسقين.
قال شيخ الإسلام – رحمه الله -: «ومما يتعلق بهذا الباب أن يعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة، أهل البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونًا بالظن ونوع من الهوى الخفى (هذا راجع إلى أصل أهل السنة والجماعة في أنه لا أحد معصوم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، لا الصحابة – رضي الله عنهم – ولا غيرهم، خلافًا للرافضة القائلين بعصمة الأئمة الاثني عشر، وغلاة الصوفية في غلوهم في شيوخهم) فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين.
ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه فتزيد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحًا في ولايته وتقواه، بل في بره وكونه من أهل الجنة بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان، وكلا هذين الطرفين فاسد. والخوارج والروافض وغيرهم من أهل الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا، ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه وأعطى الحق حقه، فيُعظم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيحمد ويذم ويثاب ويعاقب ويحب من وجه ويبغض من وجه، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافًا للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم» (منهاج السنة).
مختارات