" مظاهر اتباع الهوى "
" مظاهر اتباع الهوى "
إن اتباع الهوى كثيرًا ما يكون فيه غموض وخفاء، ولذا قد لا يتنبه ولا يدرك المتبع لهواه أنه يفعل ما يفعل أو يقول ما يقول اتباعًا لهواه، وقد لا يشعر الآخرون أيضًا أن هذا الشخص يمارس بعض الأشياء اتباعًا لهواه، بل يظنون فيما يصدر منه أن فيه تحريًا للصدق والعدل والحق، وفي الحقيقة فإن هذا الأمر دقيق جدًا، فقد يعمل شخص عملاً أو يقول قولاً لهوى في نفسه،ويعمل شخص آخر العمل نفسه، أو يقول القول نفسه لا لهوى في نفسه، وإنما نصرة للحق، فيصعب التفريق بين الشخصين ومعرفة الدافع لكل منهما، وإنما يعرف حقيقة ذلك الشخص نفسه عند التجرد، وقد يدركه بعض الناس لأمارات تظهر على القول أو الفعل وقرائن تحف بهما وبصاحبهما، يقول الشاطبي – رحمه الله – عن قضية اتباع الهوى إنها «راجعة في المعرفة بها إلى كل أحد في خاصة نفسه، إلا أن يكون عليها دليل خارجي» (الاعتصام) وعلى كل حال يمكن ذكر بعض المظاهر التي يمكن أن يستدل بها على أن من صدرت منه متبع لهواه، فمن ذلك: أولاً: تعليق الولاء والبراء بما لم يعلقه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كأن يجعل الشخص ولاءه على من يوافقه في آرائه أو أقوال شيخه، وعلى من ينتصر لأقوال طائفته وتوجهات أصحابه أو أهل بلده وجماعته انتصارًا مطلقًا دون نظر ولا تمحيص ولا اعتراض، ويجعل عداءه لمن يخالف ذلك أو ينصب للناس مقالة أو يرفع شعارًا يوالي ويعادي عليه دون حجة شرعية فهذا من اتباع الهوى.
قال شيخ الإسلام – رحمه الله -: «ومن نصب شخصًا كائنًا من كان فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو " مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا " [الأنعام: 159] وإذا تفقه الرجل وتأدب بطريقة قوم من المؤمنين مثل اتباع الأئمة والمشايخ فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم العيار فيوالي من وافقهم ويعادي من خالفهم فينبغي للإنسان أن يعود نفسه التفقه الباطن في قلبه والعمل به فهذا زاجر. وكمائن القلوب تظهر عند المحن، وليس لأحد أن يدعو إلى مقالة أو يعتقدها لكونها قول أصحابه ولا يناجز عليها بل لأجل أنها مما أمر الله به ورسوله أو أخبر الله به ورسوله، لكون ذلك طاعة الله ورسوله» (مجموع الفتاوى).
وقال – رحمه الله – في موطن آخر:
«ولهذا تجد قومًا كثيرين يحبون قومًا ويبغضون قومًا لأجل أهواء لا يعرفون معناها ولا دليلها، بل يوالون على إطلاقها، أو يعادون من غير أن تكون منقولة نقلاً صحيحًا عن النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة، ومن غير أن يكونوا هم يعقلون معناها، ولا يعرفون لازمها ومقتضاها» (مجموع الفتاوى).
وقال شيخ الإسلام أيضًا:
«وليس لأحد أن ينتسب إلى شيخ يوالي على متابعته ويعادي على ذلك، بل عليه أن يوالي كل من كان من أهل الإيمان ومن عرف منه التقوى من جميع الشيوخ وغيرهم ولا يخص أحدًا بمزيد موالاة إلا إذا ظهر له مزيد إيمانه وتقواه، فيقدم من قدم الله ورسوله عليه ويفضل من فضله الله ورسوله» (مجموع الفتاوى).
وقال في موطن آخر:
«وليس لأحد أن ينصب للعامة شخصًا يدعو إلى طريقته ويوالي ويعادي عليها غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينصب لهم كلامًا يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصًا أو كلامًا يفرقون به بين الأمة يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون» (مجموع الفتاوى).
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله:
«ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين، وكثر تفرقهم، كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم، وكل منهم يظهر أنه يبغض لله، وقد يكون في نفس الأمر معذورًا وقد لا يكون معذورًا، بل يكوم متبعًا لهواه، مقصرًا في البحث عن معرفة ما يبغض عليه، فإن كثيرًا من البغض كذلك إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق، وهذا الظن خطأ قطعًا، وإن أريد أنه لا يقول إلا الحق فيما خولف فيه، فهذا الظن قد يخطئ ويصيب، وقد يكون الحامل على الميل إليه مجرد الهوى والألفة أو العادة، وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله، فالواجب على المؤمن أن ينصح لنفسه ويتحرز في هذا غاية التحرز، وما أشكل منه فلا يدخل نفسه فيه، خشية أن يقع فيما نهي عنه عن البغض المحرم.
وها هنا أمر خفي ينبغي التفطن له وهو أن كثيرًا من أئمة الدين قد يقول قولًا مرجوحًا، ويكون مجتهدًا فيه، مأجورًا على اجتهاده فيه، موضوعًا عنه خطؤه فيه، ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة، لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله، بحيث لو أنه قد قاله غيره من أئمة الدين لما قبله ولا انتصر له. ولا والى من يوافقه، ولا عادى من خالفه، ولا هو مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق لمنزلة متبوعه، وليس كذلك فإن متبوعه إنما كان قصده الانتصار للحق وإن أخطأ في اجتهاده.
وأما هذا التابع فقد شابه انتصاره لما يظنه الحق إرادة علو متبوعه، وظهور كلمته، وأنه لا ينسب إلى الخطأ، وهذه دسيسة تقدح في قصد الانتصار للحق فافهم هذا فإنه مهم عظيم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم» (جامع العلوم والحكم).
ومن هنا نعلم مدى الأهواء التي تحصل في نفوس بعض الناس ممن يتعلقون بأشخاص ويعجبون بهم ويقلدونهم وتتجمد أفكارهم وعقولهم أمام كل ما ينطق به هذا الشخص حتى ربما يحصل في نفوس بعضهم هاجس بأن كل ما ينطق به هذا الشخص أو يراه أو يتوقعه فهو الصواب الذي لا يصح لأحد أن يناقش فيه أو يعترض عليه، والمقصود بهذا كله ما يحصل من الآراء والاجتهادات في المسائل التي ليس عليها دليل صحيح صريح من الشرع، أما ما كان ظاهرًا وليس للاجتهاد فيه مجال فليس مقصودًا بالكلام هنا.
فمن جعل معيار الحق والموالاة موقوفًا على موافقته في آرائه واجتهاداته دون برهان مبين، ومعيار الباطل والمعاداة على من خالفه في آرائه وتوجهاته - كان من أهل الأهواء.
ولذا نجد أصحاب هذه الأهواء قد يوافق بعضهم بعضًا في الباطل كما أنهم قد يذمون من لم يذمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم انتصارًا لأهوائهم.
قال شيخ الإسلام – رحمه الله -: «وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة، إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه وأنه على السنة، فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم، وإن كان مجتهدًا معذورًا لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن يوافقهم وإن كان جاهلاً سيئ القصد، ليس له علم ولا حسن قصد فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله» (منهاج السنة).
ثانيًا: التحامل على المخالف والتشنيع عليه بما يخرج عن الحد الشرعي ويوقع في البغي والعدوان، وهذا التحامل والتشنيع قد يكون في أمور مختلقة لا أساس لها من الصحة، لكنها وافقت هوى في نفس المتحامل فأخذ يلوكها ويشيعها. وقد يكون لها أو لبعضها أساس من الصحة لكن زيد فيها أو نُقص منها وفسرت بتفسيرات لم تخطر في بال قائلها أو فاعلها، وقد يحكم عليه بلوازم لا تلزم أو لا يلتزمها، وقد تكون هذه الأمور التي شُنَّع بها صحيحة النسبة لمن قالها أو فعلها لكن له فيها اجتهادًا وهو مستند فيها إلى أدلة ربما تكون مساوية لأدلة من خالفه فيها، وهو في اجتهاده هذا له مندوحة يخرج بها عن موجب التشنيع ويستحق بها العذر، وإن كان هذا لا يعني السكوت وعدم المناقشة والنصيحة للوصول إلى الحق والتحذير من الخطأ.
وقد تكون تلك الأمور التي شُنَّع به على المخالف خطؤها ظاهر وفاعلها مجانب للصواب وقد يكون مستحقًا للإنكار، لكن يقع الناقد لها والمشنع على فاعلها في أمور تخرجه عن سمت العدل والإنصاف، وتوقعه في الظلم والاعتداء وذلك بتجاوزه في النقد والإنكار إلى حد يغمط فيه كل فضيلة للمخالف ويجحدها، ويتبرأ منه، ويناصبه العداء وقد يكون هذا المخالف من أولياء الله، وله حسنات تغمر ما حصل منه من خطأ أو زلة عابرة قد يكون لم يتقصدها، ولم يرفع بها لواء، ولم يدع إليها، لكن عين صاحب الهوى وقعت عليها، فتلقفها وخاض فيها، وعلق عليها الشروح والحواشي واللوازم التي لم تخطر على بال قائلها وفاعلها فيعتدي على المخالف بقوله أو فعله أو كتابته، ويتجاوز في ذمه وبغضه، وينسى حكمة الدعوة إلى الله، ويترك سنة النصيحة سرًا، التي هي خير للناصح والمنصوح فهي خير للناصح من حيث كونها أدعى إلى الإخلاص والبعد عن الرياء وحظوظ النفس، وهي خير للمنصوح من جهة أنها أقرب إلى القبول، وأبعد عن العزة التي تأخذ صاحبها بالإثم وتجعله يجحد ما مع الناصح من الحق ويستكبر عن الاعتراف بالخطأ. وقد حذر شيخ الإسلام – رحمه الله – في معرض ذكره لفوائد قوله تعالى: " عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ " [المائدة: 105] حذر من التعدي والتجاوز في عقوبة أشخاص مرتكبين لأمور متفق على إنكارها فقال:
«الرابع: أن لا يعتدي على أهل المعاصي بزيادة على المشروع في بغضهم أو ذمهم أو نهيهم أو هجرهم أو عقوبتهم... فإن كثيرًا من الآمرين الناهين قد يعتدي حدود الله إما بجهل وإما بظلم، وهذا باب يجب التثبت فيه وسواء في ذلك الإنكار على الكفار والمنافقين والفاسقين والعاصين..» ثم قال:
«وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين الأمة وعلمائها وعبادها وأمرائها ورؤسائها وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل. كما بغت الجهمية على المستنة في محنة الصفات والقرآن، محنة أحمد وغيره، وكما بغت الرافضة على المستنة مرات متعددة، وكما بغت الناصبة على علي وأهل بيته، وكما قد تبغي المشبهة على المنزهة، وكما قد يبغي بعض المستنة إما على بعضهم وإما على نوع من المبتدعة بزيادة على ما أمر الله به وهو الإسراف المذكور في قولهم: " رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا " [آل عمران: 147]» (مجموع الفتاوى، باختصار).
وقد تصل الحال بصاحب الهوى إلى أن يرد ما مع المخالف من الحق ويستكبر عن اتباعه والخضوع له، بل قد يفسر ما يفعله المخالف من الأعمال الصالحة بتفسيرات وتأويلات بعيدة ويحكم على النيات والمقاصد بأحكام قاطعة.
قال شيخ الإسلام بعد أن ذكر قوله تعالى: " إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ " [آل عمران: 19] وذكر غيرها من الآيات في هذا المعنى قال:
«فهذه المواضع من القرآن تبين أن المختلفين ما اختلفوا حتى جاءهم العلم والبينات فاختلفوا للبغي والظلم لا لأجل اشتباه الحق بالباطل عليهم وهذا حال أهل الاختلاف المذموم من أهل الأهواء كلهم لا يختلفون إلا من بعد أن يظهر لهم الحق ويجيئهم العلم، فيبغي بعضهم على بعض، ثم المختلفون المذمومون كل منهم يبغي على الآخر، فيكذب بما معه من الحق مع علمه أنه حق ويصدق بما مع نفسه من الباطل مع العلم أنه باطل» (منهاج السنة).
والواجب قبول الحق ممن جاء به كائنًا من كان.
مختارات