" نماذج من محاسبة السلف لأنفسهم "
" نماذج من محاسبة السلف لأنفسهم "
إن الهدف من إيراد هذا المبحث ما هو إلا التذكير فحسب، لأن في إيراد القصة أثراً لا يخفى على القارئ والسامع. فكيف إذا كانت هذه القصص من حياة صفوة الأمة وخيارها، وهم سلفها الكرام – رضي الله عنهم وأرضاهم؟!
ولا شك أن البحث والاستقصاء عن كل ما ورد من نماذج رائعة وصور مشرقة لمحاسبة السلف الصالح لأنفسهم يتطلب مجهوداً جبارا ووقتا طويلاً، وحسبنا هنا أن نذكر طرفا من ذلك موعظة وذكرى.
إن أولئك القوم ارتبطت قلوبهم بالله، فكانوا أجسادا في الأرض وقلوبا في السماء، وما إن يحصل من أحدهم تقصير أو زلة إلا ويسارع في معالجة خطئه، ومعاقبة نفسه على ذلك، حتى لا تكاد تأمره إلا بخير. ولعلنا نقتصر هنا على بعض النقولات العجلى عن أولئك النفر الكرام لعلها تحرك القلوب، وتشحذ النفوس، وتسهم في تربية المسلم لنفسه تربية جادة.
* عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: سمعت عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يوما وخرجت معه حتى دخل حائطا فسمعته يقول – وبيني وبينه جدار «عمر !! أمير المؤمنين !! بخ بخ، والله بُنَيَّ الخطاب لتتقين الله أو ليعذبنك» (الزهد للإمام أحمد).
* وجاء رجل يشكو إلى عمر وهو مشغول فقال له: (أتتركون الخليفة حين يكون فارغا حتى إذا شغل بأمر المسلمين أتيتموه)؟ وضربه بالدرة، فانصرف الرجل حزينا، فتذكر عمر أنه ظلمه، فدعا به وأعطاه الدرة، وقال له: «اضربني كما ضربتك» فأبى الرجل وقال: تركت حقي لله ولك، فقال عمر: «إما أن تتركه لله فقط، وإما أن تأخذ حقك» فقال الرجل: تركته لله، فانصرف عمر إلى منزله فصلى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه: «يا ابن الخطاب، كنت وضيعا فرفعك الله، وضالا فهداك الله، وضعيفا فأعزك الله، وجعلك خليفة فأتي رجل يستعين بك على دفع الظلم فظلمته؟!! ما تقول لربك غدا إذا أتيته؟ وظل يحاسب نفسه حتى أشفق الناس عليه» (مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب) لابن الجوزي).
*وقال إبراهيم التيمي: «مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، قلت لنفسي: يا نفس، أي شيء تريدين؟ فقالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً ! قلت: فأنت في الأمنية فاعملي» (الزهد للإمام أحمد).
*وحكى صاحب للأحنف بن قيس قال: كنت أصحبه فكان عامة صلاته بالليل، وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه حتى يحس بالنار ثم يقول لنفسه: (يا حنيف ! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟) (ذم الهوى).
* وكان عمر بن عبد العزيز شديد المحاسبة لنفسه قليل الكلام، وكان يقول: (إنه ليمنعني من كثير من الكلام مخافة المباهاة) (سير أعلام النبلاء للذهبي).
* ونقل عن ابن الصمة: أنه جلس يوماً ليحاسب نفسه فعد عمره فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها فإذا هي واحد وعشرون ألفا وخمسمائة يوم، فصرخ وقال: (يا ويلتي ! ألقي الملك بواحد وعشرين ألف ذنب ! فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب)؟!! ثم خر فإذا هو ميت !!
فسمعوا قائلا يقول: يا لك ركضةٌ إلى الفردوس الأعلى.
يقول الغزالي معلقاً على هذه القصة: (فهكذا ينبغي أن يحاسب (العبد) نفسه على الأنفاس، وعلى معصيته بالقلب والجوارح في كل ساعة، ولو رمى العبد بكل معصية حجراً في داره لامتلأت داره في مدة يسيرة قريبة من عمره، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي، والملكان يحفظان عليه ذلك " أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ " [المجادلة:6] (الإحياء).
* وقال عبد الله بن قيس: (كنا في غزاة لنا فحضر العدو، فَصِيح في الناس فقاموا إلى المصاف في يوم شديد الريح، وإذا رجل أمامي وهو يخاطب نفسه ويقول: " أي نفسي ! ألم أشهد مشهد كذا فقلت لي: أهلك وعيالك؟!! فأطعتك ورجعت ! ألم أشهد مشهد كذا فقلت لي: أهلك وعيالك؟!! فأطعتك ورجعت ! والله لأعرضنك اليوم على الله أخذك أو تركك، فقلت: لأرمقنك اليوم، فرمقته فحمل الناس على عدوهم فكان في أوائلهم، ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا (أي هربوا) فكان في موضعه، حتى انكشفوا مرات وهو ثابت يقاتل، فوالله ما زال ذلك به حتى رأيته صريعاً، فعددت به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة) (الإحياء).
مختارات