معاهدة الصلح
معاهدة الصلح
يا من كل يوم من الذنب يغترف وهو مصرٌّ على أن لا يعترف، اسمعها مني عالية مدوِّية:
طهِّر قلبك من دنس ذنبك بالمتاب، قبل أن يكُبك على وجهك غدا في أشد العذاب.
لكن لماذا بدأنا بالتوبة كأول علاج؟!
والجواب: التوبة النصوح تزيل أخطر السموم على الإطلاق، ولا سُم أخطر على القلب من الذنوب، لذا كانت التوبة أعظم جرعة مضادة لأثر الذنب، والترياق المناسب لرد الهجوم على القلب، والكفيل برد العدو على أدباره بل والقضاء عليه، المعاصي طوق في عنق العاصي لا يفكه منها إلا التوبة، ولهذا سماها علماء القلوب وظيفة العمر لأنها تلزم الشاب والشيخ والطائع والعاصي والمتقدِّم والمتعثِّر.
وقد بيَّن أبو حامد الغزالي علاقة التوبة بالطاعات، وكيف أن التوبة شرط لازم للإقبال على الطاعة وشرط لازم كذلك لقبول أي طاعة، فقال رحمه الله في كتابه منهاج العابدين:
" عليك يا طالب العبادة –وفقك الله لطاعته- بالتوبة، وذلك لأمرين:
أحدهما: ليحصل لك توفيق الطاعة، فإن شؤم الذنوب يورث الحرمان، ويعقب الخذلان، وإن قيد الذنوب يمنع من المشي إلى طاعة الله عز وجل، والمسارعة إلى خدمته، وإن ثقل الذنوب يمنع من الخفة للخيرات، والنشاط إلى الطاعات، فيا عجبا!! كيف يُوفَّق للطاعة من هو في شؤم معصية والقساوة؟ وكيف يُدعى إلى الخدمة من هو مُصِرٌّ على المعصية والجفوة؟! وكيف يُقرَّب للمناجاة من هو متلطِّخ بالأقذار والنجاسات؟! فلا جرم أن لا يجد المُصِرُّ على العصيان توفيقا، ولا تخف أركانه للعبادة، وإن اتفق ؛ فبِكَدٍّ لا حلاوة معه ولا صفوة، وكل ذلك لشؤم الذنوب وترك التوبة.
والثاني من الأمرين: أنه تلزمك التوبة لقبول عبادتك، فإن رب الدَّيْن لا يقبل الهدية، وذلك أن التوبة عن المعاصي وإرضاء الخصوم فرض لازم، وعامة العبادة التي تقصدها نفل، فكيف يقبل تبرعك والدَّيْن قد حلَّ عليك لم تقضه؟! أم كيف تترك لأجله الحلال والمباح وأنت مُصِرٌّ على فعل المحظور والحرام؟! وكيف تناجيه وتدعوه وتثني عليه ؛ وهو والعياذ بالله عليك غضبان؟! ".
معدلات التوبة!!
لكن كم مرة عليك أن تعلن توبتك كل يوم؟! وما هو معدَّل رجوعك إلى ربك وإعلان خضوعك له؟!
تتنوع الأحاديث التي تتناول ذلك:
• فمنها ما يربط التوبة بوقوع الذنب من العبد، فيجعل عليه كلما أذنب توبة كما في قوله :
« ما من عبد يذنب ذنبا فيتوضأ فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله بذلك الذنب إلا غفر الله له ».
• ومنها ما يجعله عادة للعبد أذنب أم لم يذنب باعتبار أن العبد خطَّاء على الدوام عرف ذنبه أم جهله، لذا قال النبي مرسيا معدلا يوميا للتوبة:
« إني لأتوب إلى الله تعالى في اليوم سبعين مرة ».
• ومنها ما يجعلها خمس مرات على الأقل كل يوم كما في حديث أبي هريرة : كان رسول الله يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتة هُنيَّة، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! إسكاتتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟! قال: « أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقِّني من خطاياي كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد ».
فتجديد التوبة إذن في ضوء هذا الحديث لا بد أن يتم كل يوم خمس مرات على الأقل، فتجدِّد توبتك كل صلاة، وتستفتح صلاتك بالاعتذار، والسؤال الأول الذي يتبادر إلى الأذهان: لماذا يردِّد المسلم هذا الدعاء في اليوم خمس مرات على الأقل، فإن حافظ على السنن الرواتب ردَّده إحدى عشرة مرة؟!
والجواب:
لأن الله سبحانه جعل الدخول عليه مشروطا باستيفاء الطهارة، فلا يدخل المصلي عليه حتى يطهر، وكذلك جعل الدخول إلى جنته موقوفا على الطيب والطهارة، فلا يدخلها إلا طيب طاهر، فهما طهارتان: طهارة البدن، وطهارة القلب، ولهذا شُرِع للمتوضئ أن يقول عقب وضوئه:
« أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهِّرين ».
فطهارة القلب بالتوبة، وطهارة البدن بالماء، فلما اجتمع له الطهران صلح العبد للدخول على الله تعالى، والوقوف بين يديه ومناجاته.
والسؤال الثاني: لماذا قال: « اللهم طهِّرني من خطاياي بالماء والثلج والبرد »، وما فائدة تخصيص الثلج والبرد بل ورد في لفظ آخر والماء البارد مع أن الماء الحار معروف بأنه أبلغ فى التنقية وغسل الأوساخ وإزالة الأذى؟!
سأل الإمام ابن القيِّم شيخه ابن تيمية نفس السؤال فأجاب رحمه الله بقوله:
" الخطايا توجب للقلب حرارة ونجاسة وضعفا، فيرتخي القلب، وتضطرم فيه نار الشهوة وتنجسه، فإن الخطايا والذنوب له بمنزلة الحطب الذى يُمِدُّ النار ويوقدها، ولهذا كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب وضعفه، والماء يغسل الخبث ويطفئ النار، فإن كان باردا أورث الجسم صلابة وقوة، فإن كان معه ثلج وبرد كان أقوى في التبريد وصلابة الجسم وشدته، فكان أذهب لأثر الخطايا ".
وهذا مصداق قول النبي :
« تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الصبح غَسَلَتْها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الظهر غَسَلَتْها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العصر غَسَلَتْها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم المغرب غَسَلَتْها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العشاء غَسَلَتْها، ثم تنامون فلا يُكْتب عليكم حتى تستيقظوا ».
نحترق بالذنوب كل يوم خمس مرات كما نصَّ الحديث، فالذنوب إذن نار، نعم الذنوب مُحرِقة، وإذا أحرقت أهلكت، لولا أن منَّ الله علينا بصلوات طيبات تطفئ لهب السيئات المهلكات.
الذنوب نار والقلب الحي مع النار كالشجرة الخضراء إذا أُدخِلت النار ؛ تبدأ تعرق وتلفظ ماءها أو بالأحرى دموعها، وكذلك القلب الحي إذا وقع عليه الذنب ارتجف وجلا ودمعت عين صاحبه خوفا.
الذنوب نار والقلب الميت مع النار كالشجرة اليابسة إذا دخلت النار علا دخانها وتفحَّمت في الحال ولم تخرج منها دمعة واحدة، وكذلك صاحب القلب الميت إذا نزل عليه الذنب لم يتأثَّر بل ربما امتلأ سرورا بذنبه وفرحا بمعاندة ربه.
لكن كثيرا من الناس من لا يحس بلفح نار الذنب وحرِّها لأن قلبه تفحَّم من أثر الذنوب منذ زمن، ولم يعُد فيه سوى الرماد، وهل تأكل النار من الرماد شيئا؟!
يا قلب ما لي لا أراك تطيعني أتحثُّ نحو المهلكات خطاكا
يا أيها القلب المُكبَّل بالأسى مزِّق بعزم التائبين أساكا
تُب واعتبر واندم على ما قد مضى وادفن بأمواج الرشاد هواكا
واغسل ذنوبك بالمدامع ساجدا فعساك تبلغ ما تريد عساكا
مضاعفات القوة
1. التوبة العملية:
لا تعتمد على الصدمة الأولى، بل استثمرها في البناء، واستغِلَّها في تشييد مناعة إيمانية حصينة تقضي على كل ما تسلل إليك من عدوى الذنوب وجراثيم الهوى، واسمع كلام ابن القيِّم وقد فطن إلى هذا المعنى مبكِّرا:
" وليست التوبة تركا، وإن كان الترك من لوازمها، وإنما هي فعل وجودي، يتضمن إقبال التائب على ربه وإنابته إليه والتزام طاعته، ومن لوازم ذلك: ترك ما نُهي عنه، ولهذا قال تعالى: ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توْبوا إِلَيْهِ ﴾ [هود: 3]، فالتوبة رجوعٌ مما يكره سبحانه إلى ما يحب، وليست مُجرَّد الترك، فإن من ترك الذنب تركا مُجرَّدا، ولم يرجع منه إلى ما يحبه الرب تعالى ؛ لم يكن تائبا، فالتوبة: رجوع وإقبال وإنابة ".
لذا عرَّف سهل بن عبد الله التسترى التوبة بأنها: " تبديل الحركات المذمومة بالحركات المحمودة "، وأكَّد ذلك ابن الجوزي في نغمة لها نفس التردد وذات الصدى لتُحدِث نفس الأثر في الروح:
" قد ثبت في الحكمة أن شفاء الأمراض قصد أسبابها، فمن استشفى لمرضه بغير ذلك فقد أتى البيوت من غير أبوابها، فمن كان داؤه المعصية فشفاؤه الطاعة، ومن كان داؤه الغفلة فشفاؤه اليقظة، ومن كان داؤه كثرة الاشتغال فشفاؤه في تفريغ البال ".
وسماه المقدسي سبيل المضادة حين قال:
" فاسلك سبيل المضادة، فإن الأمراض إنما تعالج بضدها ".
فكل من أدمن الاستماع إلى الغناء المحرَّم وجلس مجالس الغيبة لا يكفِّر ذلك عنه إلا سماع القرآن ومجالس الذكر، وكل من أطلق بصره في حرام لا تتم توبته إلا بتقليب نظره إما في كتاب الله المنظور وهو كونه العظيم أو كتاب الله المقروء وهو قرآنه الكريم، وكل من سعت قدمه إلى أماكن الحرام لا بد له من إتعاب هذه القدم في السعي إلى الخيرات والقربات حتى يشفى، وكل من تلوَّث لسانه بالفحش من القول والسباب والغيبة لا بد له من تطهيره بالذكر، لذا أوصاك ابن المبارك:
اغتنم ركعتين زلفى إلى الله إذا كنت فارغا مستريحا
وإذا ما هممت بالنطق في الباطل فاجعل مكانه تسبيحا
والشاهد: فاجعل مكانه تسبيحا...
إن العمل وحده هو الذي يمحو العمل، والسعي والجد بحزم في تكفير السيئات هو العملة المعتمدة في شراء العفو، " وأما انتظار عفو الله تعالى، فعفو الله سبحانه ممكن، إلا أن الإنسان ينبغي له الأخذ بالحزم، وما مثال ذلك إلا كمثل رجل أنفق أمواله كلها، وترك نفسه وعياله فقراء ينتظر من الله تعالى أن يرزقه العثور على كنز فى خربة، وهذا ممكن إلا أن صاحبه ملقب بالأحمق ".
فهم كعب بن مالك مفهوم التوبة العملية بفطرته الإيمانية، وكان قد تخلَّف عن غزوة تبوك دون عذر، ثم اعترف بذلك صادقا أمام رسول الله ، ومع أن الله جلَّ في علاه قد شهد له بقبول توبته وأنزل في ذلك قرآنا يُتلى إلى قيام الساعة: ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 118]
لكن كعبا لم يركن مع هذه التبرئة الإلهية إلى الراحة والسكون بل فهم أن له دورا آخر وعملا لم يتم فقال:
" يا رسول الله! إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أُحدِّث إلا صدقا ما بقيت، قال: فوالله ما علمت أن أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا أحسن مما أبلاني الله به، والله ما تعمَّدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي ".
وأصرَّ على تأكيد توبته بعمل صالح آخر حين قال:
" يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله ". قال رسول الله : « أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ». قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر.
2. أبعاد الندم الثلاثية:
كلما كان ندمك أصدق كلما كان شفاؤك أسرع، وكلما زاد ندمك كلما حسُنت توبتك، وكلما طال ندمك كلما ثقلت موازينك وعلت درجتك، فصدق الندم وقدره وطول بقائه بالقلب ثلاث صفات يتنافس فيها طالبو الشفاء اليوم ويقتسمون بها المنازل عند رب كريم.
وممن حقق هذه الأبعاد الثلاثية صحابي بدري مبارك هو أبو حذيفة هشيم بن عتبة بن ربيعة ، وأبوه هو من هو في زعامة الكفر، لكنه سبحانه يخرج الحي من الميت، واسمع خبر هذا الحي صاحب القلب الحي على لسان ابن كثير:
" عن عبد الله بن عباس أن النبي قال لأصحابه يوم بدر: إني قد عرفت رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أُخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله فلا يقتله، فإنه إنما خرج مستكرها، فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا ونترك العباس!! والله لئن لقيته لألجمنه بالسيف، فبلغَتْ رسول الله ، فقال لعمر: يا أبا حفص!! قال عمر : والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله بأبي حفص.. أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف؟! فقال عمر: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه بالسيف، فوالله لقد نافق، فقال أبو حذيفة: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفا إلا أن تُكفِّرها عني الشهادة، فقُتِل يوم اليمامة شهيدا ".
فانظر رحمك الله إلي صدقه حيث لم يتراجع عن موقفه أبدا ولم يتغيَّر لا كمن يعزم على التوبة لحظيا ثم ينكص عنها بعد قليل، وانظر مقدار ندمه الذي دفعه إلى اختيار الموت في سبيل الله وحده كوسيلة وحيدة يكفِّر بها عن خطيئته لا كمن لا يساوي مقدار ندمه حزنه على ترقية وظيفية أو مكافأة مالية تافهة، وتأمل طول بقاء ندمه في القلب طوال قرابة عشر سنين لا كمن ينسى ذنبه فور حصوله أو بعد ساعة أو ساعتين على الأكثر، لكن.. ما هو تعريف الندم كي نحققه وما هو الباعث عليه حتى نصل إليه؟
قال أبو قدامة المقدسي:
" والندم هو توجع القلب عنده شعوره بفراق المحبوب، وعلامته طول الحزن والبكاء، فإن من استشعر عقوبة نازلة بولده أو من يعزُّ عليه، طال بكاؤه، واشتدت مصيبته، وأي عزيز أعز عليه من نفسه؟ وأي عقوبة أشد من النار؟ وأي سبب أدل على نزول العقوبة من المعاصى؟ وأى خبر أصدق من رسول الله؟ ولو أخبره طبيب أن ولده لا يبرأ من مرضه لاشتد فى الحال حزنه، وليس ولده بأعز من نفسه، ولا الطبيب أعلم من الله ورسوله، ولا الموت بأشد من النار، ولا المرضى أدل على الموت من المعاصي على سخط الله، والتعرض بها للنار ".
3. التوبة النصوح:
قال الزرعي في شرح المنازل:
" النصح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء:
أحدها: تعميم جميع الذنوب واستغراقها بحيث لا تدع ذنبا إلا تناولته.
والثاني: إجماع العزم والصدق بكليته عليها بحيث لا يبقى عنده تردد ولا تلوُّم ولا انتظار، بل يجمع عليها كل إرادته وعزيمته مبادرا بها.
والثالث: تخليصها من الشوائب والعلل القادحة في إخلاصها، ووقعها لمحض الخوف من الله تعالى وخشيته والرغبة فيما لديه والرهبة مما عنده، لا كمن يتوب لحفظ جاهه أو حرفته أو منصبه، أو لحفظ حاله أو ماله أو استدعاء حمد الناس أو الهرب من ذمهم أو نحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصها لله تعالى، ولا ريب أن التوبة الجامعة لما ذُكِر تستلزم الغفران وتتضمنه وتمحق جميع الذنوب، وهي أكمل ما يكون من التوبة ".
إن التوبة النصوح هي مجال تنافس عملي بين المرضى، فمن أراد أن يضاعف أثر التوبة ودواءها فليحقق شروط التوبة النصوح الثلاثة.
فالشرط الأول للتوبة النصوح أن تكون توبة شاملة، وليس بالضرورة أن يكون صاحب التوبة مرتكب كبيرة أو مصرا على صغيرة، بل قد تشمل كل واحد منا ولو كان صالحا كالتوبة من الغفلة، والتوبة من عدم شكر النعمة، والتوبة من إيثار حب غير الله على حب الله، والتوبة من عدم إتقان العبادة، والتوبة من استقلال العبد المعصية وهو عين الجرأة على ربه، والتوبة من إضاعة الوقت، والتوبة من التقصير في الدعوة ونصرة الدين، والتوبة من غلبة الهوى عند لحظات الضعف، بل والتوبة من التوبة أي من عدم استكمال شروط التوبة.
ولذا كان من حرص النبي بنا ورحمته بأمته أن علمنا أن نقول في سجودنا -وهو أكثر المواضع قربا من الله- هذا الدعاء الجامع المانع، وهو دعاء يجبر كسر أوبتنا وما أشده، ويسد خرق توبتنا وما أوسعه، فعن أبي هريرة أن النبي كان يقول في سجوده: « اللهم اغفر لي ذنبي كله، دِقَّه وجِلَّه، وأوله وآخره، علانيته وسِرَّه ».
والشرط الثاني للتوبة النصوح كما حكاه الزرعي: المبادرة بها على الفور وعدم تسويفها.
والثالث: اتهام التوبة، وهو أن لا يتيقن العبد أنه أدى توبته على الوجه المطلوب الذي ينبغي له، بل يجب أن يخاف أنه ما وفاها حقها فلم تُقبل منه، وأنه لم يبذل جهده في صحتها فلم تمحُ ذنبه.
4. التكرار يعلِّم الأبرار:
في كثير من الأحيان.. خسارة معركة تُعلِّمك كيف تربح الحرب، والوقوع في الذنب يعرِّفك كيف تتجنبه في المستقبل، ومما يضاعف أثر دواء التوبة هو أن تعرف كيف استزلك الشيطان وأوقعك في الذنب، ثم ما هي المقدمات التي سلكتها ابتداء فأدَّت بك إلى العصيان انتهاء، وذلك لتتجنَّبها في المستقبل، وتستخلص الدروس مما وقعت فيه، ولا ترجع إليه مرة أخرى « لا يُلدغ المؤمن من جُحرٍ مرتين ».
فقد تكون الخلوة هي من أدت بك إلى السقوط، أو الفراغ، أو الصحبة السيئة هي التي زيَّنت لك الحرام، أو مكان معصية سعيت إليه بقدميك حتى هويت، وتكون من علامات التوبة المقبولة أن تُثبِت لربك أنك استفدت مما جنيت.
ليست التوبة إذن جلدا للذات ولا غرقا في أخطاء الماضي، لأن الاشتغال بضياع وقتٍ ماضٍ تضييعٌ لوقت ثان، وإنما التوبة استخلاص للعبر من ماضيك لتستقبل بها حاضرك، وتستشرف بها مستقبلك، وإن المريض الذكي اليوم هو من يتعلَّم من أخطائه، ويعقد مع نفسه جلسات محاسبة دورية يخرج منها بتوصيات عملية تصحح مسيرته وتُقوِّم اعوجاجه وتعيده إلى الجادة، وربما صحَّت الأجساد بالعلل.
5. تعجيل التوبة:
من سوَّف لنفسه بالتوبة على الدوام تراكمت ظلمة الذنوب على قلبه، وتعذَّر عليه الاستدراك، لأن القليل يدعو إلى الكثير، والذنب يستدعي ذنبا آخر، فيقوِّي أحدهما الآخر، ثم يستدعيان ثالثا، ثم تجتمع الثلاثة فتستدعي رابعا، وهلم جرا حتى تغمره الذنوب، وتحيط به خطيئته من كل جانب، فيصير القلب مقيدا بسلاسل الشهوات لا يمكنه التخلص من مخالبها، وهذا من معاني انسداد باب التوبة، ولعله المراد بقوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [يس: 9].
وتأخير التوبة من أضراره كذلك نسيان ذنبك، ومعنى نسيان ذنبك أن يضيع في مجاهل النسيان من كثرة توارد الذنوب بعده، لذا كانت المبادرة إلى التوبة على الفور هي عمل كل عاقل رأى العواقب وأبصر المصير الذي ينتظره إن تأخَّر، وكان تأخير التوبة هو الذنب الثاني في سلسلة الذنوب المتصلة التي رآها ابن القيِّم فقال:
" المبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور ولا يجوز تأخيرها، فمتى أخرها عصى بالتأخير، فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبة أخرى ؛ وهي توبته من تأخير التوبة، وقلَّ أن تخطر هذه ببال التائب، بل عنده: أنه إذا تاب من الذنب لم يبق عليه شيء آخر، وقد بقي عليه التوبة من تأخير التوبة ".
أخي.. إن أخَّرت توبتك فقد أعطيت أول خيط من ثوب إيمانك لشيطانك، فأخذ ينسل الثوب خيطا من بعد خيط حتى يدعك في عراء الأهواء عريانا من خير لباس.. لباس التقوى ﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾ [الأعراف: 26].
6. الأجر على قدر المشقة:
إن توبة من أصعب ما يكون هي توبة الغامدية في عهد النبي ، فقد وقعت في جريمة الزنا، لكنها تابت وأرادت أن تكفِّر عن هذه الخطيئة بإقامة الحد عليها، فأمرها النبي أن تذهب حتى وضعت حملها، ولم تُنسِها مشقة الحمل مرارة الذنب ووجوب التكفير عنه، لذا رجعت إلى النبي ثانية تطلب إليه أن يُطهِّرها، فردَّها النبي حتى تفطم طفلها، ولم يُنسِها حنان الأمومة وشدة تعلقها بطفلها يوما بعد يوم مرارة ذنبها، لذا رجعت إلى النبي ثالثة ليطهِّرها، وتطهيرها هو رجمها حتى الموت، وإلى هذا المصير قادها قلبها، فامتثلت قدماها للأمر، وأتت رسول الله معترفة، فنالت وسام الشرف على لسان نبينا :
« لقد تابت توبة لو قُسِّمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله ».
توبة امرأة تعدل توبة سبعين من الصحابة، فتوبتها تعدل توبة كم واحد منا!!
لكن لماذا؟!
أقول: لأنها التوبة الأصعب ولا شك!! فهي توبة تساوي موتة، وليست أي موتة بل رجما بالحجارة حتى تزهق الروح، ثم هي فراق الولد الذي اشتد تعلق القلب به، ثم هو قمة الصدق الذي دام رغم مرور سنتين.
وحين تناثرت قطرات دمها الزكي على ثوب خالد بن الوليد غضب وسبَّها ناظرا إلى هول جريمتها محتقرا لها باعتبارها زانية، فنهاه النبي مبيِّنا حقيقة ما فعلت:
« مهلا يا خالد! لا تسُبَّها، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغُفِر له ».
إن توبة من اقتات المال الحرام والربا دهرا، أو توبة من عاش وسط بيت غير ملتزم مليء بالملاهي والموبقات، أو توبة من يعمل في بيئة لا تتقيد بتعاليم الإسلام بل تتحرر منها ولا تعين على التوبة بل تصرف عنها، أو توبة شاب غرق دهرا في الشهوات والمغريات والكبائر والملهيات، توبة كل هؤلاء هي سباحة ضد التيار، ومن ثم فهي أشرف قدرا وأكبر أجرا، ولعلها في ميزان الله أثقل من توبة أتقى العباد وأزهد الزهاد.
مدَّعي النبوة الشهيد!!
لا تيأسوا معاشر المذنبين من فداحة ذنوبكم وطول عصيانكم، بل انظروا دائما إلى الجانب المشرق والوجه الساطع من الخطيئة، والمحوا فيها الفرصة السانحة كي ترتقوا أعلى المقامات وتحوزوا غاية الفضل، فالذنب مفتاح التوبة، وكلما كان السقوط أصعب كان القفز أعلى.
وليس هناك ذنب أخطر من ادعاء النبوة، ومع ذلك غفر الله هذا الذنب، بل وارتقى بصاحبه إلى أسمى مقام يطمح إليه بشر ألا وهو مقام الشهادة، فاعرفوا قدر الرب سبحانه وأنتم تتعاملون معه، واذكروا ما ذكرته كتب التاريخ عن طليحة بن خويلد الأسدي الذي ادعى النبوة ثم ماذا؟! اقرؤوا ما بعد ماذا:
" وقد خرج عكاشة مع خالد يوم إمرة الصديق بذي القصة، فبعثه خالد هو وثابت بن أقرم كطليعة بين يديه، فتلقاهما طليحة الأسدي وأخوه سلمة فقتلاهما، ثم أسلم طليحة بعد ذلك، وكان عُمر عكاشة يومئذ أربعا وأربعين سنة، وكان طليحة ممن شهد الخندق من ناحية المشركين ثم أسلم سنة تسع ووفد على رسول الله إلى المدينة، ثم ارتد بعد وفاة رسول الله في أيام الصديق وادعى النبوة، ثم رجع إلى الإسلام واعتمر، ثم جاء يُسلِّم على عمر، فقال له: اغرب عني فإنك قاتل الرجلين الصالحين: عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم، فقال: يا أمير المؤمنين ؛ هما رجلان أكرمهما الله على يديَّ ولم أهنأ بأيديهما، فأعجب عمر بكلامه، ورضي عنه، وكتب إلى الأمراء أن يُشاوَر ولا يُوَلَّى شيئا من الأمر، ثم عاد إلى الشام مجاهدا، فشهد اليرموك وبعض حروب كالقادسية ونهاوند الفرس، وكان من الشجعان المذكورين والأبطال المشهورين، وقد حسن إسلامه بعد هذا كله، وكان يُعَدُّ بألف فارس لشدته وشجاعته وبصره بالحرب، واستشهد طليحة بنهاوند سنة إحدى وعشرين مع النعمان بن مقرن وعمرو بن معدي كرب ".
إن في هذه القصة كذلك إشارة إلى أن تكرار التوبة والإكثار منها والمواظبة عليها يجعل فرص الخاتمة الحسنة والنهاية الأروع كبيرة، لأن المرء يموت على ما عاش عليه، مما يحث كل عاقل فينا على إدمان التوبة تمهيدا لإحسان خاتمته.
مختارات