" الستون... والشيب "
" الستون... والشيب "
كنت قد ذكرت الشيب وأحكامه وكلام أهل العلم فيه في رسالة (يا...ابن الأربعين) أعيد بعضه هاهنا مختصراً:
جاء عند الإمام مالك رحمه الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أول الناس رأى الشيب إبراهيم عليه السلام، فقال: يارب ما هذا ؟ فقال الله تبارك وتعالى: هذا وقار يا إبراهيم (أي حلم ورزانة) فقال: رب زدني وقارا»، فالشيب ممدوح (ما بين الأقواس من شرح الزرقاني).
قال صلى الله عليه وسلم: «لا تنتفوا الشيب، فإنه نور الإسلام، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نوراً يوم القيامة» (حديث صحيح برقم (7340) في صحيح الجامع).
وقال صلى الله عليه وسلم: «من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة» (حديث صحيح برقم (6183) في صحيح الجامع) وزاد الحاكم في الكني: «ما لم يغيرها »(الزيادة من شرح الزرقاني).
وقال صلى الله عليه وسلم: «الشيب نور المؤمن، لا يشيب رجل شيبة في الإسلام إلا كانت له بكل شيبة حسنة ورفع بها درجة» (حديث صحيح برقم (3642) في صحيح الجامع).
وهذا شاعر لخص أثر كل شيبة تظهر على العقلاء من الناس، فقال:
لقد جلَّ خطبٌ إن كان كلما بدت شيبة يعرى من اللهو مركب
وللناس مع الشيب مذاهب:
فمنهم من رضي به واطمأن إليه، وعده نذيرا، واستعد لما بعده.
ومنهم من لم يأبه به، ولم يمثل له أي شيء، أو يعني له أي معنى، وما كأنه نزل بساحته.
وصنف آخر التفوا عليه، واحتالوا وسارعوا إلى إخفائه، بنتفه، أو صبغه بالسواد، أو تغيير لونه الحقيقي، ضجرًا به، وكرهاً له، أو تشاؤما منه، خصوصاً أنه إذا حلَّ تتابع.
والمرء وإن أخفاه بطريقة أو أخرى، فإن الواقع والحقيقة لا يمكن إخفاؤهما.
فإن لم يكن الشيب زاجرًا عن الأهواء، فلم يكن حينئذ نذيرًا..
ولقد بوب مسلم في صحيحه على حكم الصبغ والخضاب أبواباً، وساق أحاديث، منها: باب استحباب خضاب الشيب بصفرة أو حمرة وتحريمه بالسواد: عن جابر قال: أتى بأبي قحافة يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غيروا هذا بشيء، واجتنبوا السواد»الثغامة: نبت أبيض الزهر والثمر.
وقال: باب في مخالفة اليهود في الصبغ: وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن اليهود والنصاري لا يصبغون فخالفوهم».
قال النووي: ومذهبنا استحبابُ خضاب الشيب للرجل والمرأة بصفرة أو حُمرة، ويحرم خضابه بالسواد على الأصح (شرح النووي على صحيح مسلم) .
قال ابن حجر رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم «إن اليهود والنصاري لا يصبغون فخالفهوهم» يقتضي مشروعية الصبغ، والمراد به صبغ اللحية والرأس، ولا يعارض ما ورد من النهي عن إزالة الشيب، لأن الصبغ لا يقتضي الإزالة، ثم إن المأذون فيه مقيد لما أخرجه مسلم من حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: غيروه، ولأبي داود وصححه ابن حبان من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – مرفوعا: «يكون قوم في آخر الزمان يخضبون كحواصل الحمام لا يجدون ريح الجنة» وإسناده قوي إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه وعلى تقدير ترجيح وقف فمثله لا يقال فيه بالرأي، فحكمه الرفع، ولهذا اختار النووي أن الصبغ بالسواد يكره كراهية تحريم»(فتح الباري).
وللجنة الدائمة للإفتاء برئاسة الشيخ ابن باز – رضي الله عنه – فتاوى في صبغ شعر الرأس واللحية، منها: إن تغيير الشيب بصبغ شعر الرأس واللحية بالحناء والكتم ونحوهما جائز بل مستحب، وتغييره بالصبغ الأسود لا يجوز (فتاوي اللجنة الدائمة).
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا خطب أحدكم المرأة وقد خضب بالسواد فليعلمها».
قال المناوي: أي والحال أنه (يخضب) شعره الأبيض (بالسواد) أي يغير لونه به وذلك جائز للجهاد ممنوع لغيره (فليعلمها) وجوبا (أنه) أي بأنه (يخضب) لأن النساء يكرهن الشعر الأبيض غالباً، لدلالته على الشيخوخة الدالة على ضعف القوى، فكتمه تدليس، إذ لو علمت أنه غير شاب ربما لم تدخل عليه... رواه الترمذي والبيهقي وزاد بعد قوله: فليعلمها، (لا يغرنها) (فيض القدير).
وكان صلى الله عليه وسلم يتمثل بهذا البيت: كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً !
أي زاجراً ورادعا، وإنما كان يتمثل به لأن الشيب نذير الموت، والموت يسن إكثار ذكره، لتتنبه النفس من سنة الغفلة، فيسن لمن بلغ سن الشيب أن يعاتب نفسه ويوبخها بإكثار التمثل بذلك (فيض القدير).
وذكر البخاري أن عمر – رضي الله عنه – سمع مولى بني الحسحاس يقول الشعر فدعاه، فقال: كيف قلت؟ فقال: ودع سليمي إن تجهزت غاديا كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
قال: حسبك، صدقت...صدقت (الأدب المفرد للبخاري).
وكان أبو حازم – رضي الله عنه – ينصح ابنه بأمور اقتنع بها، فأعلنها حكما لابنه، وللأجيال من بعده، فيقول: يا بني لا تقتد بمن لا يخاف الله بظهر الغيب، ولا يعف عن العيب، ولا يصلح عند الشيب (حلية الأولياء).
مختارات