" المطلب التاسع : الهندسة النفسية "
" المطلب التاسع: الهندسة النفسية "
أخلاق وذوقيات: لا بد لطالب السمو ومريد المعالي أن يلحظ نفسه بين آونة وأخرى، وأن لا يترك خيرًا إلا أضافه إليها وضمه تحت كنفها، ولا يعلم شرًا مسيطرًا أو بداية شر إلا أزاله وغير مجراه وبدد أسبابه؛ حتى تعود مطمئنة هادئة ذات هندسة رائعة التركيب والتصميم، وعندها يستحق أن يحمل همّ الإسلام ويقبض على راية المجد ويصعد في مدارج السمو.
وهذه الهندسة النفسية عبارة عن ذوقيات رفيعة وأخلاق عليا ومعاملات متأدبة يجب حيازتها والتروي من معينها.
وهذه الذوقيات والأخلاق والمعاملات منها ما يكون مع النفس ومنها ما يكون مع الناس ومنها ما يكون مع الله والله أعلى وأجل.
يقول الإمام ابن الجوزي: «فقبيح بالعاقل إهمال نفسه، وقد نبه الشرع على الكل بالبعض فأمر بقص الأظفار ونهى عن أكل الثوم والبصل النيء؛ لأجل الرائحة، ويبغي له أن يقيس على ذلك ويطلب غاية النظافة ونهاية الزينة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعرف مجيؤه بريح الطيب فكان الغاية في النظافة والنزاهة» (صيد الخاطر).
أخلاق النفس وذوقياتها:
1- الاهتمام بالمظهر فيختار من الثياب أبيضها وأنظفها وأصلحها وكذلك غترته ونعله، وليس المراد من ذلك البذخ؛ كلا؛ بل المراد التكامل في قضية طهارة الثوب ونظافته مع نظافة القلب وطهارته، ولما في ذلك من أثر حسن في النفس أولاً وفي الناس ثانيًا وفي التجاريب شاهد عدل، والله يقول: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4].
الاهتمام بالنظافة العامة للجسد من اغتسال كلي أو جزئي وخاصة أيام الصيف اللاهبة التي تجعل المرء يفر من رائحة جسده فكيف برائحة غيره، والنظافة تكسب النفس حيوية وتزيدها نشاطًا.
3- الابتعاد عن المظاهر المشينة من تنخم مفزع أو تمخط مقذر أو وضع للأصابع في تجاويف الأنف أو الأذن أو هرش الصدر أو البطن أو الإبط أو الأفخاذ أو إطالة الأظفار أو تركٍ لشعر الإبط مما يسبب وسخًا وروائح كريهة تؤذي النفس اللطيفة.
4- الاهتمام بشعر اللحية غسلاً ودهنًا وترجيلاً.
5- الاهتمام بشعر الشارب وحفه وتنسيقه حتى يكون مهذب النظر لا تأخذه العين احتقارًا وازدراءً ومن ذلك إزالة الشعر الخارج من تجويف الأنف لما يسببه من تشويه للوجه وربما علق به ما لا يسرك أن يراه الناس.
6- الاهتمام بالسواك إذ فيه طهارة للأسنان وحفظ لها وتنظيف للفم يطرد الروائح الكريهة والبخر.
7- الانتباه لطريقة السير على القدمين فلا تمش متراخيًا متكسرًا ولا تمش سريعًا متخبطًا بل وسطًا بين ذلك، وإياك والالتفات أثناء السير أو إدخال اليدين في جيبي الثوب، وإن كنت في سيارتك فعليك أن تكون لطيفًا في قيادتك حليمًا لا يستفزك طيش الآخرين متقيدًا بالنظام لأن فيه سلامتك حسيًا ومعنويًا.
8- التحفظ أثناء الكلام فلا تكن سريع الكلام يتطاير الرذاذ من فمك – كالمدفع الرشاش – في وجوه المخاطبين، ولا تكن بطيئًا تضجر النفوس وتملها.
9- التحفظ في طريقة الجلوس فلا تضع ساقًا على ساق كجلسة أهل المقاهي ولا تجلس معتمدًا على يديك من خلفك ناصبًا قدميك إذ لا تأمن تسربًا يورث ريحًا أو صوتًا.
10- الظرف واللطافة في طرق الأبواب عند الاستئذان وأن يكون الطرق ثلاثًا كما هي السنة إلا إن خشي عدم السماع فله الزيادة بأدب، فإن لم يؤذن له فلينصرف منشرح الصدر لأنّ في هذا خيرًا له.
11- الحذر من ارتياد الأماكن المشبوهة أو التي فيها منافاة كمال سواء كانت أماكن بيع أو شراء أو أماكن عامة.
12- التأدب أثناء استعمال الهاتف فلا تطل الكلام فيما لا حاجة فيه ولا فائدة منه وعليك بالسلام أولاً ثم ذكر الاسم ثانيًا وإياك أن تتصل في الأوقات المنهي عنها.
ذوقيات وأخلاق عند معاملة الناس: وفي معاملة الناس يجب على طالب السمو ومريد المعالي أمور مهمة يظنها كثير من المغفلين سهلة لا يعبأ بها ولكنها في مبدأ الكرام مدارج كمال يجب أن تصعد حتى القمة، ومن ذلك:
1- إن الناس يكرهون النصيحة في العلن وقد ورد عن الإمام الشافعي رحمه الله ما يؤيد ذلك حين يقول:
تعمدني بنصحك بانفرادي وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تعط طاعة
وذلك لأن النصح في العلن فيه نوع شماتة ونوع استعلاء جُبلت النفوس على كرهه وعدم قبوله.
2- الناس يكرهون أن تلقى عليهم الأوامر مباشرة مجردة لأن كل إنسان عزيزٌ في نفسه يأبى الضيم ولو كان مغلفًا كما أن إلقاء الأوامر المباشرة فيه جهل لحقيقة الأمر فـ«ليس الأمر قهرًا لإرادات الآخرين أو تحطيمًا لها ولكنه التأثير عليها وتوجيهها لتتوافق مع الأفعال اللازمة لتنفيذ المهمة الجماعية» (لمحات في فن القيادة).
وقد كان صلى الله عليه وسلم لا يستخدم في خطابه الأوامر المباشرة إلا في الأشياء الواجبة شرعًا وكذلك النهي المباشر، وأما ما كان دون ذلك فإنه يُعرَّض به فقد روى أنس رضي الله عنه أنه خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات ما قال له ألا فعلت أو لم فعلت، وقال صلى الله عليه وسلم في قصة المضريين الفقراء: «تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع تمرة».
3- يكره الناس من يركز على السلبيات دون ذكر الحسنات والواجب على طلاب السمو مراعاة ذلك جيدًا؛ فإن الناس صنوف شتى ولكل منهم شربه وطبيعته وبيئته ومهما يذهب أحدنا صاعدًا في مدارج السمو فإن له زلات وخطايا ومهما يذهب أحدنا هابطًا في دركات اللهو والفساد فإن له حسنات ومزايا، وإذا تقرر هذا وجب على رجل الفضل أن يتعامل مع الجزء الأفضل من الناس ولا يكون قوي الذاكرة تجاه إساءاتهم وسيئاتهم وليكن قويها تلقاء مزاياهم وخيرهم، يجب أن يخالف الحقيقة المرة المؤلمة التي يقول عنها شكسبير: «إننا ننقش أخطاء الآخرين مجسمة على النحاس ثم نكتب حسناتهم على سطح الماء» (لمحات في الإدارة).
إنك أيها الأخ المبارك لن تجد أبدًا الإنسان الذي ما ساء قط الذي تصفو مشاربه، ولكنك ستجد دائمًا الإنسان الذي ينطوي على خير ولو ضئيل، فإذا وجدته فتعرف إلى هذا الخير الذي فيه، وحاول أن تنميه بتسامحك وتساميك وحدبك، لقد صدق من قال: «هناك طريقان للحياة: طريقة سلبية مبدؤها رؤية مساوئ الرجال والأعمال ليس لإصلاحها بل لاستغلالها بشكل هدام والعودة إليها بمناسبة وبدون مناسبة، وطريقة إيجابية تنظر إلى الأمور بعين الرضا وتبحث عن محاسن الرجال لتنميتها وتحسينها وتعطف على ضعفهم وأخطائهم وتعمل على إصلاحها بكل دماثة» (لمحات في الإدارة).
4- لا يحب الناس من يعاملهم باستعلاء حتى وإن كان من أهل الفضل والخير ومن أجل ذلك أنكر الإمام أحمد العارف بأخلاق الناس ونفسياتهم على أحد أصحابه تحديثه الناس وهم في الشمس وهو في الظل: قال أبو عبد الله الجمال: جاءني الإمام أحمد ليلاً فدق علي الباب فقلت: من هذا؟ فقال: أنا أحمد، فخرجت إليه فمساني ومسيته وقلت حاجة أبي عبد الله؟ قال: شغلت قلبي؛ جزتُ عليك اليوم وأنت قاعد تحدث الناس في الظل والناس في الشمس بأيديهم الأقلام والدفاتر لا تفعل مرة أخرى فإذا قعدت فاقعد مع الناس.
5- يحب الناس من يعلمهم ويحتملهم ويكرهون من يعتزلهم ويضيق بهم ذرعًا.
أيها العاكف المسبح سبحْ في عراك الحياة بالآفاق
مثل ما كبَّر الأوائل منا ووميض السيوف في الأعناق
6- إن فضيلة الصدق محبوبة من الخلق أجمعين حتى من أولئك الكذابين، ومن ثم وجب على طالب السمو أن يكون صادقًا في حياته كلها وإن كلفه الصدق آلامًا، ما أسرع أن تنقلب إلى لذائذ يتفيؤ ظلالها، ويجب عليه أن يعلم أن الكذب عار في الدنيا وفضيحة يوم القيامة: الكذب أس الشرور وقاعدتها ولو قلبت جميع الشرور في الأرض لوجدت أساسها كذب الأقوال أو الأفعال؛ إن العربي الأول ليستنكف أن يكذب على ناقته وقد هاجها الظمأ الشديد فيقول:
أريد أمنيك الشراب لتهدئي ولكنَّ عار الكاذبين يحول
فلا يكن أهل الجاهلية أصدق لسانًا وأعز نفسًا وأنت ابن الإسلام الطاهر، وإنها لمعاناة شديدة تقتضي صبرًا على المجاهدة وصبرًا على مرائر الصدق، والنتيجة من بعد أكيدة ومضمونة، يقول ابن الجوزي: «لولا ما عانى يوسف عليه السلام ما قيل له: {أَيُّهَا الصِّدِّيقُ}» (صيد الخاطر).
7- يحب الناس جميعًا الحقَّ ويحبون أهله ومن يفصحون عنه بلسان مبين وقلب ثابت وعقل رصين؛ فإن قول الحق في موضعه فضيلة لا يحمل ثقلها إلا المخلصون «وما ارتفعت المآذن إلا ليعتاد المسلمون رفع الصوت بالحق».
امضِ في الحق جاهدًا لا تبالِ مستقيمًا على الصراط السوي
لا تزلزلك صيحة من جهول أو سقيم أو دعوة من غوي
8- يحب الناس الإنسان البسام ويشتاقون لرؤيته كما تشتاق الأرض القاحلة للمطر المغدق، ولا شك أن الابتسامة على يسير حركتها إلا أنها تفعل في النفوس ما لا تفعله كنوز قارون ومع ذلك فهي لا تكلف شيئًا ولكنها تعود بالخير الكثير، إنها تغني أولئك الذين يأخذون ولا تُفْقِر أولئك الذين يمنحون، إنها لا تستغرق أكثر من لمح البصر لكن ذكراها تبقى إلى آخر العمر، لن تجد أحدًا من الغنى بحيث لا يستغنى عنها ولا من الفقر في شيء وهو يملك ناصيتها، إنها راحة للتعب وشعاع الأمل للبائس وأجمل العزاء للمحزونين، إنها مفتاح الشخصية ودليل السهولة والبساطة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بسامًا في وجوه المؤمنين وكان يعدها إحدى الصدقات، وكان حريصًا على إدخال الابتسامة على الوجوه العابسة، فقد سأله أعرابي أن يحمله فقال: «إنا حاملوك على ولد الناقة» وقال لما سألته عجوز مرافقته في الجنة: «لا تدخل الجنة عجوز» فولت باكية فقال: «ردوها» ثم تلى قوله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا}» [الواقعة: 35-37].
قال عباس العقاد: «من سعة النفس أن ينهض الرجل بعظائم الأمور بل أعظمها جدًا ووقارًا وهو إقامة الأديان وإصلاح الأمم وتحويل مجرى التاريخ ثم يطيب نفسًا للفكاهة ويطيب عطفًا على المتفكهين» (عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم).
9- يحب الناس فيما يحبون: خلق اللين واليسر فهم بحاجة ملحة إلى الليِّنِين الهيِّنِين الذين يسهلون عليهم ما يجدون من ثقل الهموم وقساوة الظروف.
لا تفرح النفس الكريمة إن رأت أختًا حزينة
فابكي مع الباكي ومدي للضعيف يد المعونة
إنهم بحاجة إلى الموطئين أكنافًا الذين يألفون ويؤلفون، فإذا توفرت هذه الصفة الكريمة في نفس طالب السمو توفر له تبعًا لذلك من حصاد القلوب الشيء الكثير.
مختارات