" عطاء بن يسار على درب يوسف عليه السلام "
" عطاء بن يسار على درب يوسف عليه السلام "
ومن المتعففين من أثر صدق عفافه فيمن راودته من النساء، وعرضت عليه جسمها، فعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: خرج عطاء بن يسار وسليمان بن يسار حاجين من المدينة ومعهم أصحاب لهم حتى إذا كانوا بالأبواء، نزلوا منزلا، فانطلق سليمان وأصحابه لبعض حاجتهم، وبقي عطاء بن يسار قائما في المنزل يصلي، فدخلت عليه امرأة من الأعراب جميلة، فلما رآها ظن أن لها حاجة، فأوجز في صلاته ثم قال: ألك حاجة؟ قالت: نعم، قال: ما هي؟ قالت: قم فأصب مني فإني قد ودقت ولا بعل لي ! فقال: إليك عني، لا تحرقيني ونفسك بالنار ! فجعلت تراوده عن نفسه، وتأبى إلا ما تريد ! فجعل عطاء يبكي ويقول: ويحك إليك عني، إليك عني..قال: واشتد بكاؤه، فلما نظرت إليه وما دخله من البكاء والجزع، بكت المرأة لبكائه، فجعل يبكي، والمرأة بين يديه تبكي، فبينما هو كذلك، إذ جاء سليمان من حاجته، فلما نظر إلى عطاء يبكي، والمرأة بين يديه تبكي، جلس في ناحية البيت لبكائهما، لا يدري ما أبكاهما !! وجعل أصحابهما يأتون رجلا رجلا كلما أتى رجل فرآهم يبكون جلس يبكي لبكائهم، لا يسألون عن أمرهم حتى كثر البكاء وعلا الصوت فلما رأت الأعرابية ذلك قامت فخرجت.
قال: وقام القوم فدخلوا فلبث سليمان بعد ذلك وهو لا يسأل أخاه عن قصة المرأة إجلالا له وهيبة قال: وكان أسن منه قال: ثم إنهما قدما مصرا لبعض حاجتهما فلبثا بها ما شاء الله فبينا عطاء ذات ليلة نائم إذ استيقظ وهو يبكي ! فقال له سليمان: ما يبكيك أي أخي؟! قال: فاشتد بكاؤه، قال: ما يبكيك أي أخي؟! قال: رؤيا رأيتها الليلة، قال: وما هي؟ قال: لا تخبر بها أحدا ما دمت حيا، قال: وذلك، قال: رأيت يوسف النبي عليه السلام، فجئت أنظر إليه فيمن ينظر، فلما رأيت حسنه بكيت، فنظر إلي في الناس، فقال: ما يبكيك أيها الرجل؟ قلت: بأبي أنت وأمي.. ذكرتك وامرأة العزيز وما ابتليت به من أمرها وما لقيت من السجن وفرقة الشيخ يعقوب عليه السلام، فبكيت من ذلك، وجعلت أتعب منه، فقال عليه السلام: فهلا تعجبت من صاحب المرأة بالأبواء؟ فعرفت الذي أراد، فبكيت، واستيقظت باكيا، قال سليمان: أي أخي ! وما كان حال تلك المرأة؟ قال: فقص عليه عطاء القصة.
فما أخبر سليمان بها أجدا حتى مات عطاء، وحدث بها بعده امرأة من أهله.
قال: وما شاع هذا الحديث بالمدينة إلا بعد موت سليمان بن يسار ! (الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا).
ففي هذه القصة بيان عاجل بشرى المؤمن العفيف.. وتسليته بالرؤيا الصالحة، تثبيتا لإيمانه ويقينه، وإكراما له على عظيم إنجازه وعمله.
وهذه الطائفة لعفتهم أسباب، أقواها: إجلال الجبار ثم: الرغبة في الحور الحسان في دار القرار.
ومنهم من يحمله على العفة الإبقاء على محبة الله خشية ذهابها بالوصال، ومنهم من يحمله عليها عفة محبوبه ونزاهته، ومنهم من بحمله عليها الحياء منه والاحتشام له وعظمته في صدره، ومنهم من يحمله عليها الرغبة في ميل الذكر وحسن الأحدوثة ومنهم من يحمله عليها الإبقاء على جاهه ومروءته وقدره عند محبوبه بين الناس، ومنهم من بحمله عليها كرم طبعه وشرف نفسه وعلو همته، ومنهم من يحمله عليها لذة الظفر بالعفة، فإن للعفة لذة أعظم من لذة قضاء الوطر، لكنها لذة يتقدمها ألم حبس النفس ثم تعقبها اللذة، وأما قضاء الوطر، فبالضد من ذلك، ومنهم من يحمله عليها علمه بما تعقبه اللذة المحرمة من المضار والمفاسد (روض المحبين لابن قيم الجوزية).
مختارات