" يوسف عليه السلام وامرأة العزيز "
" يوسف عليه السلام وامرأة العزيز "
بعدما قذفه إخوته في قعر بئر مظلم، وتركوه وانقلبوا إلى أبيهم يعقوب عليه السلام يتباكون فقده، ويندبون ضياعه!! لبث يوسف في البئر حزينا صامتا محتسبا، حتى مرت بالبئر قافلة من ركب كثير، فتوقفت عنده لتستزيد من الماء وتستريح من عناء الطريق.
قذف أحدهم دلوه في البئر فاستمسك به يوسف، فصار الدلو أثقل على الساقي من المعتاد، فجرَّه إليه بصعوبة بالغة، ولما اقترب منه لاحظ فيه غلاما جميلا قد كان في قعر البئر ثاويا، فصرخ ! " يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ " [يوسف: 19].
حمل يوسف إلى مصر، وباعه الركب إلى رجل جعله ملك مصر على خزائنها، وكان اسمه (أطفير بن روحيب) ويعرف بعزيز مصر.
كان العزيز رجلا شريفا محبوبا عند أهل مصر، وكان لا يولد له، فكان فرحه بيوسف عظيما، فأدخله قصره وأمر زوجته (زليخا) بإكرامه قائلا: " أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا " [يوسف: 21].
ترعرع يوسف في قصر العزيز، وكان بخلقه الرفيع واستقامته الخيرة يملأ على العزيز قصره، ويبهج صدره، ويقر عينه.
1- بداية الفتنة وبراءة يوسف:
لكن امرأة العزيز أُشْرِبَتْ في قلبها حبه، فسكن هواه في سويدائه، وهيامه في غلافه، فأصبحت تتحين الفرصة بين الفينة والأخرى، لتمكن نفسها من ذاته، فقد كانت مصروعة بجماله وصفاء سريرته وفعاله! بعدما نفذت حيلها في الإيقاع به في أحضان الرذيلة، ولم ينفعها معه أسلوب الإغراء والإغواء، دبرت له مكيدة ماكرة ظنتها تبلغها المارد، فماذا فعلت؟ لقد غلقت الأبواب وانفردت به ودعته إلى الفاحشة النكراء بصريح العبارة: " وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ " [يوسف: 23].
وهنا يرسم يوسف عليه السلام معالم العفة الحياء، ويعلن موقفه الرفض للوقوع في الفحشاء فلم يبالِ بزينة امرأة العزيز وسفورها، ولم يلتفت إلى منصبها وجمالها، إنما استحضر مراقبة الله واطلاعه، فرد عليها " مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ " [يوسف: 23].
وبعد أن رآها مصرة على غيها وشهوتها، تتقدم إليه، وتثيره انقلب يوسف اتجاه الباب هاربا من فتنتها بجسده، بعدما أعلن براءته وعفته، ولشدة حرص امرأة العزيز على الفاحشة، تبعت يوسف وأمسكت بقميصه بقوة فتمزق، وفي اللحظة نفسها دخل العزيز عليهما في تلك الصورة الغامضة، فانتابته الدهشة، تملكته الحيرة، وتحركت في باطنه الغيرة، فلم يدر.. ما حقيقة الذي يجري ! هل زوجته وشريكة حياته تخونه؟! أم ذاك الشاب الحيي الشهم الكريم؟!
وقبل أن يسأل أو يستفسر، سبقته امرأته بمكر ودهاء.. فادعت أن يوسف راودها عن نفسها وطلب منها الفاحشة، وظهرت لزوجها بمظهر العفيفة المظلومة المخلصة لزوجها في غيابه! وطالبت العزيز بسجن يوسف، " وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " [يوسف: 25] لم يكن ليوسف وَقْتَئِذٍ إلا أن يكشف حقيقة الأمر دفعا للظلم عن نفسه فقال: " قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي " [يوسف: 26].
ومن عظيم قدر الله أن كان أحد أقارب امرأة العزيز برفقة العزيز، فما عاين ذلك المشهد المريب خطر بباله أمر قد يظهر به الحق من الباطل، فطرحه على العزيز لعله يهتدي إلى حقيقة الحدث ! قال: " وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ " [يوسف: 26-27].
وحينما تفقد العزيز قميص يوسف وجده ممزقا من خلفه، فأيقن ببراءة يوسف وعفته، وعلم ما دبرته زوجته (زليخا) من المكر والخديعة والقذف.. فصوب إصبع الاتهام إليها وقال: " إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ " [يوسف: 28].
وحتى لا يفتضح الأمر، ويهتك بيت العزيز، أمر يوسف بالإعراض عن هذه القضية وكتمانها، ثم أمر زوجته بالتوبة والرجوع عن الخطأ.. " يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ " [يوسف: 29].
2- فتنة جديدة:
لم تنتهِ رحلة عفة يوسف عليه السلام بِطَيِّ هذا الحدث العجيب، بل كانت بداية لابتلاء جديد يتعرض له يوسف من قبل نسوة أخريات ! فقد انتشر في أوساط الناس ما وقع ليوسف من فتنة، وأصبح الحديث عن عشق امرأة العزيز له على ألسنة كثير من النسوة، فواحدة تذمها، وأخرى توبخها، وثالثة تضللها.. ورابعة تعيب عليها حبها لفتى من فتيان القصر وخدمه ! " وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ " [يوسف: 30].
لم يكن أمام (زليخا) إلا أن تبحث عن مخرج يخفف من وطأة فضيحتها، ويسد منافذ ملامة النسوة لها، فدبرت مكيدة جديدة تضع بها حدا لانتقادها، لقد كانت تدرك أكثر من غيرها جمال يوسف وتأثيره على أولئك النسوة.. ولذلك: " أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ " [يوسف: 31].
فوقع أن نجحت خطتها، فلقد وقفن علي حقيقة جمال يوسف وانبهرن به فأصابهن ما أصاب (زليخا) من العشق والغرام ! فأعذرنها.
لكن الذي لم يقف على حقيقته النسوة، هو جمال آخر زاد من تعلق امرأة العزيز بيوسف، فالنسوة لم يرين من يوسف إلا جمال ظاهره..أما هي فقد رأت جمال باطنه، وصفاء سريرته، وعظيم عفته، ولذلك سارعت إلى إخبارهن بذلك فقالت: " فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ " [يوسف: 32].
فلامتهن عن لومهن لها، وأخبرتهن أنه مع جماله الظاهر جميل الباطن، فقد استعصم وأبى الخيانة والفاحشة، وأن كمال جماله هذا، هو الذي يزيدها شغفا وحبا وتعلقا به، فلا تقوى على تركه ! ثم قالت: " وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ " [يوسف: 32].
وهنا يقف يوسف عليه السلام شاهدا بعفته على إيمانه، وثابتا على حيائه ويقينه، يرسم للتاريخ معالم العفة وآفاقها.. وطرقها وأسبابها.
فقد عايش بتحريش النسوة وكيدهن، وتهديد امرأة العزيز ووعيدها، فلجأ بقلبه خاشعا متضرعا: " قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ " [يوسف: 33].
فاعترف لبارئه بضعف الحيلة، والخوف من سوء المنقلب، وتضرع يسأله الثبات والفرج، ولو أدى ذلك إلى سجنه وحبسه، فحبس الذات عن الذوات.. أهون عليه من حبس الفؤاد بالفاحشة عن رب الأرض والسماوات.
3- عفة يوسف تدخله السجن:
وكثر كلام الناس من جديد على ما يدور في خاطر امرأة العزيز نحو يوسف، فما كان من العزيز إلا أن أدخل يوسف السجن ظلما وعدوانا، ليعلم الناس عفاف زوجته، وخيانة يوسف كما زعم! فكان السجن آية عفته وطهارته ! وعاش يوسف سعيا في سجنه.. فقد كان ضيق الأركان.. لكنه فسيح برعاية الرحمن، عاش فيه عابدا ساجدا، شاكرا حامدا، يدعو إلى الله على نور وبصيرة ! " وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ " [يوسف: 36].
انتهز يوسف عليه السلام اعتراف رفيقيه في السجن بإحسانه وصحة دعوته وجميل استقامته وحاجتهما إلى تأويل ما رأياه في المنام، فبادر إلى دعوتهما إلى التوحيد ومعاني الإسلام، وسعة علمه الذي علمه الله إياه " قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ " [يوسف: 37-38].
وبعد أن قدر لهما دعوة التوحيد، أَوَّلَ رؤياهما فقال: " أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ " [يوسف: 41].
وفعلا، أفرج عن السجين الأول فصار ساقيا للملك، وأما الآخر فصلب وأكلت الطير من رأسه.
ومرت السنين ويوسف في سجنه لم يبارحه ولم ينظر في أمره.. وكان عليه السلام قد طلب من السقاء الذي كان معه في السجن، أن يذكره عند الملك، ولكن السقاء نسي الطلب وتشاغل عنه.
4- انتصار العفة:
ويشاء الله جل وعلا أن ينصر يوسف العفيف، وأن يعزه ويرفع شأنه، ويذل من اتبع شهوته هواه..فلقد رأى الملك فيما يرى النائم رؤيا قضت منامه وبعثت فيه من القلق والفزع ما دفعه إلى إحضار العلماء والكهنة والعرافين يستفتيهم في شأنها ! فعرض عليهم حُلمه كما رآه.. ولكنهم أخفقوا في تأويله.. وقالوا: " أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ " [يوسف: 44].
وفي تلك اللحظة تذكر السقاء شأن يوسف وسعة علمه في التأويل وما عايشه من صدق تأويله، وتذكر طلب ذكره عن الملك.. فذكره بما يعلمه عنه من الخير والإحسان والصدق والعلم.
فأرسل الملك ساقيه إلى السجن ليستفتي في شأن الرؤيا من يوسف.. فذهب السقاء على الفور.
كان الملك قد رأى في منامه سبع بقرات ضخمة عظيمة، ثم رأى بعدها سبع بقرات هزيلة تأكل تلك البقرات السمينة، حتى استقرت كل بقرة سمينة في بطن بقرة هزيلة، وكان مشهد الافتراس مفزعا.
ثم رأى أيضا سبع سنبلات ناضجات ممتلئات بالحب، زاهيات بالخضرة، وما كاد يراها حتى اختفت وظهرت مكانها سبع سنبلات يابسات، فزاد فزعه، فما أقبل السقاء على يوسف أخبره بأمره، فشرع يوسف في تأويلها على الفور " قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ " [يوسف: 47-49].
رجع السقاء إلى ديوان الملك وأخبره بما تلقاه من يوسف من التأويل، فلما سمع الملك كلامه عجب لذلك عجبا عظيما، وانتابه ذهول من علم يوسف الخرق، فقد كان تأويله هو ضالة الملك التي تقض مضجعه، وتهز فزعه ! ومما زاد من دهشته، أن سمع إضافة ليست من تأويل الرؤيا في شيء، وهو إضافة مبشرة للملك ومصر كلها.
فقد أخبر يوسف أن بعد السبع الشداد يأتي عام خصيب كثير خيره وماله ورخاؤه. بعث الملك إلى يوسف بالمجيء إلى قصره، لكن وزيره رجع يخبره خبرا غريبا.
فقد أبى يوسف الخروج من السجن إلا إذا نظر الملك في مسألة النسوة اللاتي قطعن أيديهن، وما حدث مع امرأة العزيز، ولماذا أدخله إلى السجن العزيز؟ فقال للوزير: " ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ " [يوسف: 50].
وهنا سوف تتجلى آثار العفة والطهارة، ويفتضح أمر اتباع الشهوة والهوى، فقد استدعى الملك امرأة العزيز ومعها النسوة، وحقق في الأمر معهن، ويوسف لا يزال في سجنه.
فاعترفت امرأة العزيز على نفسها أمام الملأ، وشهدت ليوسف بالصدق والطهارة والاستقامة قال: " الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ " [يوسف: 51]، فقال الملك: " ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ " [يوسف: 54] إنه انتصار العفة، واستعلاء الإيمان.
فمهما تكبد العفيف من البلاء والمحن في طريقه، فلا بد أن يحالفه النصر، فها هو يوسف السجين، يرفعه الله من السجن والحصر، إلى رحاب القصر، بل ويهبه فيه القوة والتمكين " وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ " [يوسف: 22].
5- حقيقة هم يوسف عليه السلام:
قال تعالى: " وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ " [يوسف: 24].
ولقد اختلق بعضهم من الروايات والأخبار الكاذبة ما يفسر بزعمهم حقيقة هذا الهم، فقالوا: إن يوسف عليه السلام قد لبى رغبة امرأة العزيز وجلس منها مجلس الرجل من المرأة، وأنه رأى صورة يعقوب عاضا على يده، ونحو ذلك من الأقاويل وهذه النقول لا يصح منها شيء، ولم يثبت منها حرف واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قرره شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى حيث قال رحمه الله: وأما يوسف الصديق فلم يذكر الله عنه ذنبا، فلهذا لم يذكر الله عنه ما يناسب الذنب من الاستغفار، بل قال: " كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ " [يوسف: 24]، فأخبر أنه صرف عنه السوء والفحشاء، وهذا يدل على أنه لم يصدر منه سوء ولا فحشاء.
وأما قوله تعالى: " وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ " [يوسف: 24] فالهم: اسم جنس تحته نوعان كما قال الإمام أحمد: الهم همان: - هم خطرات (وهو المعنى في قوله تعالى: " وَهَمَّ بِهَا " أي يوسف).
- وهم إصرار (وهو المعنى في قوله تعالى: " وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ " أي: امرأة العزيز).
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا هم بسيئة لم تكتب عليه، وإذا تركها لله كتبت حسنة وإن عملها كتبت له سيئة واحدة» [رواه البخاري ومسلم].
ويوسف عليه السلام همَّ همًّا تركه لله، ولذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء لإخلاصه، وذلك إنما يكون إذا قام المقتضي للذنب وهو الهم، وعارضه الإخلاص، الموجب لانصراف القلب عن الذنب لله.
فيوسف عليه السلام لم يصدر منه إلا حسنة يثاب عليها، وقال تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ " [الأعراف: 201](مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية).
قد كان يوسف في العفاف إماما ونبي وحي ينشر الإسلاما
فلقد دعته وراودته عليلة في قصرها فأبى لها استسلاما
واختار ضيق السجن يذكر ربه عفا يريد بضيقه استعصاما
فعليه من باري الوجود سلامة فعفافه يستوجب الإعظاما
قال ابن القيم رحمه الله: فتأمل كيف جزاه الله سبحانه وتعالى على ضيف السجن أن مكنه في الأرض ينزل منها حيث يشاء وأذل له العزيز وامرأته وأقرت النسوة ببراءته وهذه سنة الله في عباده قديما وحديثا إلى يوم القيامة (روضة المحبين).
مختارات