الموعظة الثامنة
الموعظة الثامنة
قال ابن القيم الجوزي رحمه الله مخاطبًا كل عاق لوالديه: «الويل كل الويل لعاقٍ والديه، والخزي كل الخزي لمن ماتا غضابًا عليه، أفٍّ له هل جزاء المحسن إلا الإحسان إليه؟! أتبع الآن تفريطك في حقهما أنينًا وزفيرًا، وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا، كما آثراك بالشهوات على النفس!! ولو غبت عنهما ساعةً صارا في حبس!! حياتهما عندك بقايا شمس، ولقد راعياك طويلاً فارعهما قصيرًا، وقل ربِّ أرحمهما كما ربياني صغيرًا، كم ليلة سهرا معك إلى الفجر، يداريانك مداراة العاشق في الهجر، فإن مرضت أجريا دمعًا لم يجر!! تالله لم يرضيا لتربيتك غير الكف والحجر سريرًا، وقل ربِّ أرحمهما كما ربياني صغيرًا. يعالجان أنجاسك ويحبان بقاءك، ولو لقيت منهما أذى شكوت شقاءك، ما تشتاق لهما إذا غابا ويشتاقان لقاءك، كم جرعاك حلواً وجرعتهما مريرًا، وقل ربِّ أرحمهما كما ربياني صغيرًا، أتحسنُ الإساءة في مقابلة الإحسان؟! أو ما تأنف الإنسانية للإنسان؟ كيف تعارض حسن فضلهما بقبح العصيان؟ ثم ترفع عليهما صوتًا جهيرًا، وقل رب أرحمهما كما ربياني صغيرًا. تحبُّ أولادك طبعًا، فأحبب والديك شرعًا، وارع أصلاً أثمر لك فرعًا، واذكر لطفهما بك وطيب المرعى أولاً وأخيرًا وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا. تصدق عنهما إن كانا ميتين وصل لهما واقض عنهما الدين واستغفر لهما واستدم هاتين الكلمتين وما تكلف إلا أمرًا يسيرًا وقل رب أرحمهما صغيرًا»(كتاب التبصرة – لابن الجوزي -).
قال بعض الصالحين: بينما أنا أطوف حول الكعبة في ليلة ظلماء، وقد رقدت العيون وهدأت الأصوات، إذ بصوت حزين شجي يردد:
يا من يُجيب دعاء المضطر يا كاشف الضر والبلوى مع
قد نام وفدك حول البيت أدعو وعينك يا قيوم لم تنمِ
هب لي بجودك فضل العفو يا من إليه أشار الخلق في
إن كان عفوك لا يدركه ذو فمن يجود على العاصين
فتتبعت الصوت، فإذا هو شاب في مقتبل عمره، فطلبته أن يقص علي خبره، فقال: وما خبر من أسلمته ذنوبه وأوبقته عيوبه؟ فهو مرتطم في بحر الخطايا، ثم قال: أنا شاب من إحدى قبائل العرب، اسمي «منازل بن لاحق» وإني كنت على اللهو والطرب لا أفيق عنه!! وكان لي والد فاضل يعظني كثيرًا، ويقول لي: يا بني: احذر هفوات الشباب وسكراته فإن لله سطوات ونقمات ما هي من الظالمين ببعيد!! وكنت أقابل نصحه ووعظه بالسخرية والاستهزاء ويسيئ القول، فلما كان ذات يوم من الأيام ألح علي بالموعظة فمددت يدي عليه، فحلف مجتهدًا ليأتين بيت الله الحرام، فيتعلق بأستار الكعبة، ويدعو علي، فخرج حتى انتهى إلى البيت الحرام، فتعلق بأستار الكعبة وأنشأ يقول:
يا من إليه أتى الحجاج قد عرض المهامة من قرب ومن
إني أتيتك يا من لا يخيب من يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمدِ
هذا منازل لا يرتد عن عققي فخذ بحقي يا رحمن من
وشلَّ منه بحولٍ منكَ جانبه يا من تقدس لم يولد ولم يلدِ
قال منازل: فوالله ما استتم كلامه حتى نزل بي ما ترى، فإذا هو يابس (مشلول) )كتاب الرقة والبكاء – لابن قدامة المقدسي -).
مختارات