الموعظة السابعة
الموعظة السابعة
قال ابن القيم رحمه الله مبينًا لذة حلاوة تلاوة كتاب الله عز وجل: « فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر؛ فإنه جامع لجميع منازل السائرين، وأحوال العاملين، ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء، والإنابة والتوكل والرضا والتفويض، والشكر والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة، التي بها فساد القلب وهلاكه. فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر، لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه بتفكر حتى مرَّ بآية هو محتاج إليها في شفاء قلبه، كررها ولو مائة مرة! ولو ليلةً !! فقراءة آية بتفكر وتفهم خيرٌ من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم !! وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن، وهذه كانت عادة السلف يردد أحدهم الآية إلى الصباح !! عن أبي ذر رضى الله عنه قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم ليلة حتى أصبح بآية!! وهي قوله تعالى: }إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{ [المائدة: 118]، قال الحسن البصري: «أنزل القرآن ليُعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً؛ فقراءة القرآن بالتفكر هي أصلح صلاح القلب» (كتاب مفتاح دار السعادة – لابن القيم -).
ولننظر إلى العبد الصالح محمد بن المنذر رحمه الله؛ إذ جزأ الليل عليه وعلى أمه وعلى أخته أثلاثًا !! فكان كل واحد منهم يقوم ثلث الليل، فلا تكاد ساعة بالليل إلا ومصل قائم في بيتهم!! ثم ماتت أخته، فقسم الليل كله نصفين بينه وين أمه!! ثم ماتت أمه فكان يقوم الليل كله وحده، رحمة الله عليه ورضوانه ( كتاب المستطرف – للأبهيشي -).
وعن شعيب بن حرب رحمه الله قال: دخلت على العبد الصالح مالك بن مغول رحمه الله وهو في داره بالكوفة جالسًا وحده، فقلت له: أما تستوحش لوحدك في هذه الدار؟!! فقال: ما كنت أظن أن أحدًا يستوحش مع الله عز وجل.
قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله تعقيبًا على تلك القصة: « ما أشرف هذه المنزلة !! وأعلى هذه الدرجة !! وأعظم هذه الموهبة !! وإنما لا يستوحش مع الله تعالى من عمر قلبه بحبه سبحانه، وأنس بذكره وألف مناجاته بسره، وشغل به عن غيره فهو مستأنس بالوحدة مغتبط بالخلوة»(كتاب العزلة لأبي سليمان الخطابي).
وكان العبد الصالح حبيب بن محمد رحمه الله يخلو في بيته، ثم يقول مناجيًا ربه: «من لم تقر عينه بك فلا قرت !! ومن لم يأنس بك فلا أنس !! ».
وقال بعض العباد: « سرور المؤمن ولذته في الخلوة بمناجاة ربِّه وسيده عز وجل !! ».
وقال إبراهيم بن أدهم: « اتخذ الله صاحبًا، ودع الناس جانبًا ».
وقال مسلم بن يسار: « ما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة بمناجاة الله تعالى ».
وقال مسلم العابد: « ما يجد المطيعون لله لذة في الدنيا أحلى من الخلوة بمناجاة الله» (كتاب استنشاق نسيم الأنس – لابن رجب -).
فيا أخي الحبيب: «سبحان من وفق أقوامًا لخدمته، وأفاض عليهم من كرامته فهجروا لذيذ المنام، وأداموا لربهم الصيام، وصلوا بالليل والناس نيام، فلو رأيتهم وقد سارت قوافلهم في حندس الظلام، فواحد يسأل العفو عن زلته، وآخر يسأله التوفيق لطاعته، وآخر يستعيذ من عقوبته، وآخر يرجو منه جميل مثوبته، وآخر يشكو إليه ما يجده من لوعته، وآخر شغله ذكره عن مسألته، فسبحان من أيقظهم والناس نيام(عقود اللؤلؤ والمرجان – إبراهيم بن عبيد -) !.
مختارات