وقفات تربوية مع آية السَّكَن والمودة والرحمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّ نِعَم الله على عباده كثيرة لا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، وقد ذَكَّرَنَا الله بِهَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، ولَفَتَ أنظارنا وعقولنا إليها، وفي هذا التذكير فوائد، منها أنه يدفع للشكر، ويقي من الجحود والسخط، ويحث على الاستغفار بعد الطاعات، ويورِث حُب الله في القلب، وفيه علاج للعُجْب والكِبْر والطغيان، ويُعَرِّفُنا بحق ربنا علينا.
من هذه النِّعَمِ ؛ نعمة الزواج، وهي مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ التي يَغْفُلُ عنها كثير من النَّاس لِدَوَامِهَا معهم، وإِلْفِهِمْ لها؛ ذَكَّرَنَا الله بِهذه النعمة فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، منها قوله تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الروم: 21). وستكون هذه الآية محور حديثنا في السطور التالية.
الوقفة الأولى: سياق الآية والدعوة إلى التفكر فيما دلت عليه من آيات:
هذه الآية هي الآية الحادية والعشرين من سورة الروم وهي سورةٌ مكية، سُمِّيَتْ بهذا الاسم لذكر الروم في أولها.
وتتضمن السورة العديد من المقاصد أهمها: توضيح العقيدة الإسلامية في إطارها العام، والإشارة إلى أنَّ للكون نواميسه الكبرى وقوانينه الثابتة، وأنَّ للنفس البشرية فطرتها وأطوارها.
وفي السورة دعوة للتفكر والنظر وإعمال العقل في آيات الله الكونية والشرعية، وفيها أيضا تأكيد على أنَّ آيات الله في الأنفس والآفاق لا يستفيد منها إلا من يُعمِل وسائل إدراكه الحسية والمعنوية التي أنعم الله بها عليه.
وقد وردت هذه الآية ضمن ست آيات تتحدث عن آيات كونية عظيمة ومعجزات ربانية تدل على قدرة الله، ووحدانيته، وعظمته، وعلمه، وكمال حكمته، ورحمته وإحسانه وبِرِّه ولُطْفِه بعباده.
ابتدئت كل آية من الآيات السِّتْ بكلمة (ومن آياته) تنبيها على اتحاد غرضها، والآية التي معنا هي الآية الثانية، لاحظ – أخي الكريم- أنَّ الآية التي تسبقها تتحدث عن معجزة خلق الإنسان من تراب، والآيات التي بعدها تتحدث عن معجزة خلق السماوات والأرض، واختلاف الألسنة والألوان، وإرسال البرق خوفا وطمعا، وإحياء الأرض بعد موتها، وقيام السماء والأرض بأمر الله.
" ولأجل ما تنطوي عليه الآية التي معنا من النعم والدلائل، جُعِلت فيها آيات كثيرة، فيها من مواضع التفكر والاعتبار ما يدل على قدرة الله وعلمه ورحمته وإتقان خلقه، وكلها مقتضية لتوحيد الله ومحبته وطاعته.
وجُعِلت الآيات لقوم يتفكرون لأن التفكر والنظر في تلك الدلائل هو الذي يُجَلِّي كنهها، ويزيد الناظر بصيرة بمنافع أخرى في ضمنها " ([1]).
الوقفة الثانية: صلاح الخَلْق وبقاؤه لا يتم إلا بإقرار نظام الزواج كما شرعه الله:
إذا استحضرنا أنَّ ترتيب الآيات في السور القرآنية توقيفي، وأنَّ المناسبة في الأصل قائمة بين هذه الآيات، وأنَّ الإعتناء في السُّوَرِ المكَيَّةِ إنَّما هو بأصول الدِّين، وجدال المشركين بالبراهين العقليّة والآيات الكونيّة، ووضع القواعد العامّة للتّشريع في الحلال والحرام، إذا استحضرنا كل ذلك نجد أنفسنا أمام سؤال مهم، وهو: ما علاقة الزواج بذلك السياق؟
- لعل من وجوه الحكمة في ذلك:
لَفْت الانتباه لحقيقة يغفل عنها كثير من الناس وهي أنَّ الله شرع الزواج أساسًا لنظام الكون وعِمارته، وأنَّ أمْرَ الزواج من الأمور المهمة في الإسلام ولا يقل أهمية عن تلك المعجزات الواردة معه في ذات السياق.
وأنَّ الحفاظ على المجتمع سليمًا من الآفات والأمراض النفسية والبدنية لا يقل أهمية عن البناء الكوني.
وأن اللَّبِنة الأُولى في بناء المجتمع هي: الأسرة، التي تتكون من الزوجين؛ لذا قال الطاهر ابن عاشور (ت: 1393هـ): في هذه الآية عِظة وتذكير بنظام الناس العام، وهو نظام الإزدواج وكينونة العائلة وأساس التناسل، وهو نظام عجيب جعله الله مرتكزا في الجبلة لا يشذ عنه إلا الشذاذ([2]).
ويؤكد شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728هـ) على أن النكاح من أوكد الصلات وأهمها، فإن صلاح الخلق وبقاءه لا يتم إلا به،... " ([3]).
ولأهمية عقد النكاح والحفاظ عليه والوفاء به، وَصَفَه القرآن بالميثاق الغليظ، في قول الله تعالى: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (سورة النساء: 21)، " أي عهدا وثيقا مؤكدا مَزِيد تأكيد، يعسر معه نقضه.
قال الزمخشريّ: الميثاق الغليظ حق الصحبة والمضاجعة. ووصفه بالغلظ لقوته وعِظَمِه. فقد قالوا: صحبة عشرين يوما قرابة. فكيف بما يجرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟ " ([4]).
كما اشتد النكير على من حاول إفساد نظام الزواج، من ذلك: أن الله لعن المحَلِّلَ والمُحَلَّلَ له، ونهت الشريعة عن العبث بأحكام الطلاق.
- ولأن محبة الزوجين لا تقاس بمحبة غيرهما، كان التفريق بين الزوجين أعظم مقاصد الشيطان وأحب شيء إليه، كما ورد في السنة الصحيحة، وهو أيضا أعظم مفاسد السحرة، يشير إلى ذلك قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}، لما في التفريق بينهما من انقطاع النسل ووقوع الزنا وفساد بني آدم، كما أن " فيه التفرقة بين طرفي آصِرَة متينة، إذ هي آصِرَة مودة ورحمة، فإنَّ المودة وحدها آصِرَة عظيمة، وهي آصِرَة الصداقة والأخوة وتفاريعهما، والرحمة وحدها آصِرَة منها الأبوة والبنوة، فما ظنكم بآصِرَة جَمَعَتْ الأمرين، وكانت بجعل الله تعالى، وما هو بجعل الله فهو في أقصى درجات الإتقان([5]).
الوقفة الثالثة: مِن نِعَم الله العظيمة على بني ادم أنْ جَعَل لهم أزواجاً من جِنْسِهم وشَكْلِهم:
امتن الله سبحانه وتعالى علينا أن خلقنا من نفس واحدة، فالرجال والنساء جنس واحد، أصلهم واحد وهو آدم، وزوجته قطعة منه، فهي من جسده أو من جِنْسِه.
ولما كان خَلْقنا على هذا النحو من أعظم آيات الله، ذَكَّرَنا الله به في الآية التي معنا، أعني قوله تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا...(الروم: 21).
وقد تكررت الإشارة إلى هذا المعنى في آيات أخرى، منها قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً (سورة النساء: 1).
وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا (سورة الاعراف،الاية: 189)، وقوله: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا (سورة الزمر، الاية: 6).
والغرض من تكرار هذا المعنى التأكيد على جملة دلالات، منها:
التكامل: فالله عز وجل – بقدرته وحكمته- خَصَّصَ لكل واحد من الزوجين رسالة ودور في الحياة لا يقوم به الآخر، وجعل تكوينه البدني والنفسي مهيئا لذلك، بحيث يتحقق التناسق والانسجام في مختلف أوجه الحياة، قال السعدي (ت: 1376هـ) تعليقًا على دلالات الآيات السابقة: فيه تنبيه على مراعاة حق الأزواج والزوجات والقيام به، لكون الزوجات مخلوقات من الأزواج، فبينهم وبينهن أقرب نسب وأشد اتصال، وأوثق علاقة([6]).
الترابط والتعاطف: قال الحافظ ابن كثير (ت: 774هـ): ذَكَرَ تعالى أَنَّ أَصْلَ الْخَلْقِ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ واحدة؛ ليعطف بعضهم على بعض، ويُحَنِّنَهُمْ على ضعفائهم([7]).
التكريم: صُوَرُ تكريم الإسلام للمرأة كثيرة جدا، منها أنْ جُعل الرجل أصلها، وجُعلت هي فرعه، لذا أُمِر الزوج بالإنفاق عليها، وإحسان معاشرتها، والحذر من ظلمها والإساءة إليها. في الوقت الذي ترى فيه بعض الفلسفات والأفكار الغربية والغريبة أنَّ المرأة شيطان، وأنَّها منبع الرِّجس، وأصل الشَّر والبلاء!!
التآلف: لأنَّ الجِنْس إلى الجِنْس أَمْيَل وبه آنَس، وإذا كانت بعضا منه كان السكون والمحبة أبلغ، ولو أنَّه جَعَل بني آدم كلهم ذكورا وجعل إناثهم من جنس آخر من غيرهم إما من جان أو حيوان، لما حصل هذا الائتلاف بينهم وبين الأزواج، بل كانت تَحْصُلُ نَفْرَة ([8]).
تجدر الاشارة إلى أنَّ " أهل العلم احتجوا بهذه الآيات وغيرها على من زعم إمكان وقوع التزاوج بين الإنس والجن كما كان يدعيه بعض العرب، ويذكرونه في مختلقاتهم، وقصص الخرافية، والخيالية " ([9]).
الوقفة الرابعة: المودة والرحمة ليست خاصة بالزوجين بل هما من أسباب سعادة الأمة:
سُمِّيت الزوجة (سَكَنًا)، لأنَّ الرجل يسكن إليها بقلبه وبدنه جميعًا، يقال (سَكَن إليه) للسكون القلبي، ويقال (سَكَن عنده) للسكون الجسماني، لأن كلمة (عند) جاءت لظرف المكان وذلك للأجسام، و(إلى) للغاية وهي للقلوب ([10]).
والمودة هي المَحَبَّةُ، أما الرحمة فهي الرأفة والشفقة وحسن المعاملة، خاصة في حالِ الكِبرِ والضَّعفِ والحاجة، " فَإِنَّ الرَّجُلَ يُمْسِكُ المرأة إِمَّا لِمَحَبَّتِهِ لها، أو لِرَحْمَةٍ بها، بأن يكون لها مِنْهُ وَلَدٌ، أو محتاجة إليه في الإنفاق، أو لِلْأُلْفَةِ بينهما، وغير ذلك " ([11]).
- ومن مظاهر قدرة الله ورحمته وحكمته أنْ جَعَل بين الزوجين من التراحم ما لا يجده الإنسان بين ذوي الأرحام، " وليس ذلك بمجرد الشهوة، فإنها قد تنتفي- لغضب أو مرض أو عارض- وتبقى الرحمة، ولو كان بينهما مجرد الشهوة لكان كل ساعة بينهما فراق وطلاق، فالرحمة التي بها يدفع الإنسان المكاره عن حَرِيم حَرَمِه هي من عند الله، ولا يُعلم ذلك إلا بفِكْر " ([12]).
ويرى جَمْعٌ من المفسرين منهم الشيخ رشيد رضا (ت: 1354هـ) أنَّ الخطاب في قوله تعالى {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً ورحمة} (الروم: 21) " إنَّما هو للناس عامة، لا للأزواج خاصة ؛ ولذلك لم يقل (لتسكنوا إليها وتودوها)؛ أي أنه جعل من مقتضى الفطرة البشرية التوادَّ بينكم بسبب الزوجية بين الزوجين، ومن يتصل بهما بلُحْمة القرابة والنَسَب، وما زال البشر يَعُدُّون المصاهرة من أسباب العصبية بين البيوت والعشائر والقبائل؛ فهذه سنة من سنن الفطرة عرفها البدو والحضر([13]).
فسكون الزوج إلى الزوجة سبب من أسباب سعادة الزوجين، وهناء معيشتهما خاص بهما لا يشاركهما فيه أحد من الأقربين والمحبين، وأما المودة بينهما فهي من أسباب سعادة عشيرتهما أيضًا؛ لأنها متعدية؛ فهي مبعث التناصر والتعاضد والتساند، وبهذا تكون سببًا من أسباب سعادة الأمة المؤلفة من العشائر، المؤلفة من الأزواج ([14]).
الوقفة الخامسة: الزواج الشرعي هو الطريق الوحيد للسكن النفسي وإشباع الغرائز وابتغاء النسل:
الزواج في الإسلام عقد ينشأ في حماية الشرع لتحقيق مقاصد معتبرة وغايات نبيلة، فهو ليس إبقاء للنسل فقط، ولكن فيه ما هو روحي، وفيه ما هو مادي، وفيه ما هو تعبدي، وكل هذه المقاصد تساعد على الاستقرار النفسيِّ والاجتماعي([15]).
ولا يمكن أنْ تتحقق هذه المقاصد في ظل عَلاقات جنسية محرَّمة؛ لأن الغرض ليس هو بناءَ أسرة، وتربية أجيال، بل هو لقضاءِ الشهوة واستفراغها فيما حرَّم الله!! لذا لم يعترف الإسلام بأية علاقة جنسية خارج إطاره، كما حرم الزنا وسد الذرائع الموصلة إليه، وقد توسع الإمام ابن قيم الجوزية (ت: 751هـ) - في مواضع كثيرة من كُتُبه- في بيان مفاسد الزنا وأنه مناقِض لصلاح العالم، وله أثره الكبيرة في خراب الدنيا والدين، ولهذا شُرِع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها([16]).
تجدر الإشارة إلى أنَّه إذا كان الزواج طريقا لتحصيل السكن والسعادة، فإنه ممّا لا شكّ فيه أنّ تحصيل ذلك وتحقيقه يحتاج إلى مقوّماتٍ، أهمها:
- أن يكون اختيار كل منهما للآخر مبني على الدين والخُلُق، " فاللائق بذي الدين والمروءة أن يكون الدين مَطْمَح نَظَرِه في كل شيء، لا سيما فيما تَطُول صُحْبَته " ([17]).
- أنْ يعرف كل منهما ما عليه من الحقوق ويجتهد في آدائها.
أنْ تُدْرِك المرأة أنَّ الله جعل الرجل قوَّاماً عليها، بما أودع الله في جنس الرجال من صفاتٍ، ككمالِ العقل، وحُسْنِ التَّدبير، والقوَّة البدنيَّة والنَّفسية، وعلى الزوج أن يُدرك أنّ قوامته لا تعني البطش والتّسلط والإذلال، وإنما تعني المسؤلية و الرعاية وحسن العشرة.
فهذه جملة من المعاني والهدايات التي دلت عليها هذه الآية الكريمة، أسألُ الله تعالى بمنِّه وكرمه الهداية لِدِينِهِ، والاستقامة على أَمْرِهِ، والاعتبار بِآيَاتِهِ، اللهم آمين.
مختارات