شرح الأسماء الحسنى (23) القابض والباسط عزّ وجلّ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فبعد الحديث عن أسماء الله عزّ وجلّ (الرزّاق، والرّازق، والوهّاب، والمعطِي)، كان من المناسب جدّا أن نتحدّث عن الأسماء المشابهة لها في المعنى، وهما:
29- القابـض عزّ وجلّ 30- الباسـط عزّ وجلّ.
والحديث عن هذين الاسمين الكريمين في مباحث:
المبحث الأوّل: الأدلّة على إثباتهما.
يذكر العلماء نصوصا كثيرة من كتاب الله عزّ وجلّ على إثبات هذين الاسمين للمولى تبارك وتعالى، منها:
قوله تعالى:{وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: من الآية245]، وقوله سبحانه:{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرّعد: من الآية26]، وورد هذا في تسع آيات، وقال تبارك وتعالى:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان} [المائدة: من الآية64].
والصّواب أنّ هذه النّصوص تثبت صفة القبض والبسط، والأسماء لا تثبت بمجرّد الصّفات كما سبق تقريره مرارا.
أمّا الدّليل على أنّهما اسمان من الأسماء الحُسنى فهو ما رواه الإمام أحمد والتّرمذي وأبو داود وابن ماجه وغيرهم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قال:
قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، غَلَا السِّعْرُ، فَسَعِّرْ لَنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ).
وأكثر أهل العلم على إثباتهما، كابن خزيمة، والبيهقيّ، وابن منده حيث قال في " كتاب التّوحيد " (2/93):
" ومن أسماء الله عزّ وجلّ: الباسط، وهو صفة له ".
ومنهم أبو نعيم، والخطّابيّ، والحليميّ، والبيهقيّ، والزجّاج، والفخر الرّازي، وابن حزم، والأصبهانيّ، وابن العربيّ، والقرطبيّ، وابن القيّم، والسّعديّ، والشّيخ ابن عثيمين، والقحطانيّ، ونور الحسن خان.
وبعضهم ذكر الباسط دون القابض، كابن الوزير رحمه الله.
وبعض أهل العلم لم يذكرهما وهو يجمع الآثار الواردة في سرد أسماء الله الحسنى، كجمع الطّبرانيّ، والحافظ ابن حجر رحمهما الله.
والصّواب إثباتهما للحديث الصّحيح في ذلك.
المبحث الثّاني: المعنى اللّغوي.
- أمّا القبض: فملخّص ما جاء في معاجم اللّغة أنّ القبض هو: الأخذ، تقول: قبضت الشّيء إذا أخذته وأمسكت به. وقبضت روح فلان، أي: أُخذت منه وسُلبت.
وبعضهم يفرّق بين القبض – بالضّاد – والقبص – بالصّاد –، فالقبض هو الأخذ والإمساك بجميع الكفّ، والقبص هو الأخذ بأطراف الأصابع.
ومنه قيل لمن يمسك عن النّفقة والبذل: قَبَض، قال تعالى:{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُم} [التوبة: من الآية67]، أي: يمتنعون عن الإنفاق.
- وأمّا البسط: فهو نقيض القبض، وبسطُ الشّيء - بالسّين والصّاد - هو: نشره ومدّه، والبَسْطة هي السّعة في الشّيء، كما في قوله تعالى:{وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: من الآية247]، ومنه بسط الأرض أي: مدّها، فتسمّى البسيطة والبَساط، وما يُمدّ على الأرض يسمّى البِساط، ورجل بسيط اليدين وبِسْط اليدين أي: واسع البذل والمعروف.
ومنه تُدرك خطأ من يعبّر عن الكتاب الصّغير الحجم بـ(البسيط) ! فهو عكس معناه.
المبحث الثّالث: معنى هذا الاسم والصّفة في حقّ الله تعالى:
معنى البسط في حقّ الله عزّ وجلّ: الزّيادة والسّعة، فيوسّع الأرزاق بجوده وكرمه، ويبسط الرّوح في الجسد.
والقبض بمعنى التّضييق والتّقتير، فيضيّق ويقتّر على من يشاء.
قال الزجّاجي رحمه الله في " اشتقاق الأسماء " (ص 97): " فهو باسط رزق من أراد من عباده أن يوسّع عليه، ومقتر على من أراد، كما يرى في ذلك من المصلحة ".
وقال الحليميّ في " المنهاج " (1/203): " ومعناه النّاشر فضله على عباده، يرزق ويوسّع ويجود ويفضِّل، ويمكّن ويخوّل، ويعطي أكثر ممّا يُحتاج إليه ".
وقال البيهقيّ رحمه الله في " الاعتقاد " (ص57): " هو الّذي يوسّع الرّزق ويقتره، يبسطه بجوده ورحمته، ويقبضه بحكمته، وقيل: الّذي يقبض الأرواح بالموت الّذي كتبه على العباد، والباسط: الّذي بسط الأرواح في الأجساد ".
وقال قوّام السنّة الأصبهانيّ رحمه الله في " الحجّة في بيان المحجّة " (1/140): " ومن أسماء الله تعالى (القابض الباسط).. ومعناه: يوسّع الرّزق ويُقتّره، يبسطه بجوده، ويقبضه بعدله " اهـ، وبمثل ذلك قال ابن الأثير في " النّهاية " (4/6).
وقال الشّيخ السّعدي رحمه الله في " تيسير الكريم المنّان " (5/303): " يقبض الأرزاق والأرواح، ويبسط الأرزاق والقلوب، وذلك تبع لحكمته ورحمته " اهـ.
فالصّواب هو العموم، وأنّهما متعلّقان بالأرزاق والأرواح.
المبحث الرّابع: هذان الاسمان من الأسماء المزدوجة.
قال الزجّاج رحمه الله في " تفسير أسماء الله الحسنى " (ص40): " الأدب في هذين الاسمين أن يُذكرا معا، لأنّ تمام القدرة بذكرهما معا، ألا ترى أنّك إذا قلت: إلى فلان قبْض أمري وبسْطه، دلاّ بمجموعهما أنّك تريد أنّ جميع أمرك إليه؟
وتقول: ليس إليك من أمري بسط ولا قبض، ولا حلّ ولا عقد..[أي]ليس لك منه شيء ".
وقال الخطّابي رحمه الله في " شأن الدّعاء " (ص58): " قد يحسُنُ في هذين الاسمين أن يُقرن أحدهما في الذّكر بالآخر، وأن يُوصل به ليكون أنبأَ عن القدرة، وأدلّ على الحكمة، كقوله تعالى:{وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: من الآية245]، وإذا ذكرت القابض مفردا عن الباسط، كنت قد قصرت بالصّفة على المنع والحرمان. وإذا أوصلت أحدهما بالآخر فقد جمعت بين الصّفتين، منبِئا عن وجه الحكمة فيهما... حتّى قال:
فإذا زاده لم يَزده سرفا وخرقا، وإذا نقصه لم ينقصه عدما ولا بخلا ".
وقال الشّيخ خليل هرّاس عند قول ابن القيّم رحمه الله في " النّونية " (2/236):
(هو قابـض هو باسـط هو خافـض *** هـو رافـع بالـعـدل والـمـيـزان)
" هذه الأسماء الكريمة من الأسماء المتقابلات الّتي لا يجوز أن يُفرد أحدهما عن قرينه، ولا أن يُثنى على الله عزّ وجلّ بواحد منها إلاّ مقرونا بمقابله، فلا يجوز أن يُفرد القابض عن الباسط، ولا الخافض عن الرّافع... لأنّ الكمال المطلق إنّما يحصل بمجموع الوصفين " اهـ.
ونلحظ أنّ حكمهم بالمنع، إنّما يخصّونه بما إذا ذُكر القابض دون الباسط، وهذا ممّا لا شكّ في صحّته، كما أنّه لا يقال في حقّ الله: إنّه يمنع دون أن يقرن بالعطاء، وأنّه يخفض دون أن يُقرن بالرّفع، وأنّه يذلّ دون أن يقرن بالإعزاز، وأنّه يضرّ دون أن يقرن بالنّفع.
ولكن هذا لا يمنع أن تذكر الصّفات الدالّة على الفضل مفردةً، كما رأينا في قوله صلّى الله عليه وسلّم: (فإنّما أنا قاسم والله المعطي).
المبحث الخامس: في آثار الإيمان بهذين الاسمين.
1- إدراك سعة جود الله: فما ترك شيئا يدلّ على سعة العطاء والجود والإكرام إلاّ تسمّى به، حتّى إنّه يذكّر بذلك العباد كلّ ليلة:
فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (يَنْزِلُ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا لِثُلُثِ اللَّيْلِ الْآخِرِ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ أَوْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ ثُمَّ يَبْسُطُ يَدَيْهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: مَنْ يُقْرِضُ غَيْرَ عَدُومٍ وَلَا ظَلُومٍ).
2- ما يمسكه عزّ وجلّ عن بعض العباد إنّما هو لحكمة بالغة:
قال الله تعالى:{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27]، فالقبض والبسط تابعان لحكمته عزّ وجلّ لا عن شيء آخر - كما بيّناه في صفة الفتح والرّزق -.
وقد ذكر ابن عبد البرّ رحمه الله في " بهجة المجالس " (1/524) عن بعضهم أنّ الله أوحى إلى موسى عليه السّلام: أتدري لم رزقت الأحمق؟ قال: لا. قال: ليعلم العاقل أنّ الرّزق ليس بالاحتيال.
حتّى قال أحد الحمقى:
طلبت الرّزق بالعقل *** من الغرب إلى الشّرق
فلم يُكسبني العقـل *** سوى البعد من الرّزق
فأدبرت عن العقـل *** وأقبلت على الحمـق
فلم أتعب ولم أنصب *** ولم أضرع إلى الخلـق
3- أنّ بسط الخالق ليس كبسط المخلوق، من حيث الحقيقة، ومن حيث المعنى:
فمن حيث الحقيقة؛ فلقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: من الآية11]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " التّدمريّة " (29): " ووصف نفسه ببسط اليدين، فقال:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان} [المائدة: من الآية64]، ووصف بعض خلقه ببسط اليد في قوله:{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: من الآية29]، وليس اليد كاليد، ولا البسط كالبسط " اهـ.
ومن حيث المعنى: فبسط الكفّ يُستعمل في المخلوق للبذل والعطاء تارة، وتارة للطّلب والأخذ نحو:{كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاه} [الرعد: من الآية14]، {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُم} [الأنعام: من الآية93].
أمّا بسط الله عزّ وجلّ إنّما هو للعطاء فقط.
4- إدراك سعة رحمة الله تعالى:
روى مسلم عن أبي موسى رضي الله عنه عن النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (إِنَّ اللَّهَ عزّ وجلّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا).
ومن هنا كان أعظم البسط: بسط الرّحمة على القلوب، حتّى تستضيء وتخرج من وضر الذّنوب، فإنّ هذا هو الشّرح المذكور في قوله تعالى:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزّمر:22]، وقوله تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ}، ويقابله القبض في قوله عزّ وجلّ:{وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:125].
لذلك قال أبو حامد الغزالي رحمه الله في " المقصد الأسنى " (ص 52): " القابض الباسط هو الّذي يقبض الأرواح عن الأشباح عند الممات، ويبسط الأرواح في الأجساد عند الحياة، ويقبض الصّدقات من الأغنياء، ويبسط الأرزاق للضّعفاء، ويبسط الرّزق على الأغنياء حتّى لا يُبْقِي فاقة، ويقبضه عن الفقراء حتّى لا تبقى طاقة، ويقبض القلوب فيُضيّقها.. ويبسطها بما يتقرّب إليه من برّه ولطفه " اهـ.
5- على العبد أن يتحرّى مفاتيح القلوب التي تطلّ عليه، كما يتحرّى مفاتيح الرّزق الّذي يسعى إليه، ومن أعظمها:
أ) وأعظمها الدّعاء: فالله بيده مفاتيح القلوب، فعلى العبد أن يسأل ربّه طريقها، فهذا موسى عليه السّلام قال:{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)}.
ب) الإكثار من الذّكر: فبه يبسط الله النّور إلى القلب بما لا يبسطه بغيره، وما انقبض صدرٌ كما انقبض بترك الذّكر، قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، وقال:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طـه:124].
ج) الصّدقة: فينبغي لمن منّ الله تعالى ببسطة في المال أن يتفضّل على خلق الله من فضل الله عزّ وجلّ، فالجود بالمال فيه إظهارٌ لصفة البسط الّتي اتّصف الله بها.
وما أعظم الحديث الّذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم:
(مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ: كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا[1]، فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلَا يُنْفِقُ إِلَّا سَبَغَتْ، أَوْ وَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ، حَتَّى تُخْفِيَ بَنَانَهُ، وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَلَا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إِلَّا لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُوَ يُوَسِّعُهَا وَلَا تَتَّسِعُ).
قال الخطّابي رحمه الله: " فالنبيّ صلى الله عليه وسلم شبّه مثل المنفق مثل من لبس درعا سابغة، فاسترسلت عليه حتى سترت جميع بدنه وحصّنته، وجعل البخيل كرجل يداه مغلولتان، ما بين عنقه إلى صدره، فإذا أراد لبس الدّرع حالت يداه بينها وبين أن تمرّ سفلا على البدن، واجتمعت في عنقه، فلزمت ترقوته، فكانت ثقلا ووبالا عليه من غير وقاية له، وتحصين لبدنه، والله أعلم " اهـ.
فهذا يدلّ على أنّ الصّدقة وقاية لصاحبها، وأنّها من أسباب انشراح الصّدر، قال ابن القيّم رحمة الله عليه في " زاد المعاد " (2/25) وهو يذكر أسباب انشراح الصّدر:
".. ومنها الإحسان إلى الخلق ونفعهم بما يمكنه من المال، والجاه، والنّفع بالبدن، وأنواع الإحسان، فإنّ الكريم المحسن أشرح النّاس صدرا، وأطيبهم نفسا، وأنعمهم قلبا، والبخيل الّذي ليس فيه إحسان أضيق النّاس صدرا، وأنكدهم عيشا، وأعظمهم همّا وغمّا " اهـ.
وهذا الضّيق عبّر عنه القرآن أحسن تعبير كذلك، فقال الله تعالى:{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء:29].
د) الصّلاة: فهي نور من الله يودعه صدرَ العبد، وقد سمّاها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نورا، ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآَنِ أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا).
ومن المعلوم أنّ النّور سببٌ للسّعة وشعارٌ لها.
والله الموفّق لا ربّ سواه.
مختارات