33. سعد بن أبي وقاص
سعد بن أبي وقاص
"ارم سعد … فداك أبي وأمي"
[محمد رسول الله يحرض سعدا يوم أحد]
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
﷽
﴿ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا (١) على وهن وفصاله (٢) في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير (١٤) وإن جاهداك (٣) على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب (٤) إلي، ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون﴾ (٥).
لهذه الآيات الكريمات قصة فذة (٦) رائعة، اصطرعت فيها طائفة من العواطف المتناقضة، في نفس فتى طري العود؛ فكان النصر للخير على الشر، وللإيمان على الكفر.
أما بطل القصة ففتى من أكرم فتيان مكة نسبا، وأعزهم أما وأبا.
ذلك الفتى هو سعد بن أبي وقاص ﵁ وأرضاه.
* * *
كان سعد حين أشرق نور النبوة في مكة شابا ريان الشباب (٧) غض الإهاب (٨) رقيق العاطفة كثير البر بوالديه شديد الحب لأمه خاصة.
وعلى الرغم من أن سعدا كان يومئذ يستقبل ربيعه السابع عشر؛ فقد كان يضم بين برديه (٩) كثيرا من رجاحة الكهول (١٠)، وحكمة الشيوخ.
فلم يكن - مثلا - يرتاح إلى ما يتعلق به لداته (١١) من ألوان اللهو، وإنما كان يصرف همه إلى بري (١٢) السهام، وإصلاح القسي (١٣)، والتمرس بالرماية حتى لكأنه كان يعد نفسه لأمر كبير.
ولم يكن - أيضا - يطمئن إلى ما وجد عليه قومه من فساد العقيدة وسوء الحال، حتى لكأنه كان ينتظر أن تمتد إليهم يد قوية حازمة حانية؛ لتنتشلهم مما يتخبطون فيه من ظلمات.
* * *
وفيما هو كذلك شاء الله جل وعز أن يكرم الإنسانية كلها بهذه اليد الحانية البانية.
فإذا هي يد سيد الخلق محمد بن عبد الله ﷺ …
وفي قبضتها الكوكب الإلهي الذي لا يخبو:
كتاب الله الكريم …
فما أسرع أن استجاب سعد بن أبي وقاص لدعوة الهدى والحق؛ حتى كان ثالث ثلاثة أسلموا من الرجال أو رابع أربعة.
ولذا كثيرا ما كان يقول مفتخرا:
لقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام.
* * *
كانت فرحة الرسول صلوات الله عليه بإسلام سعد كبيرة؛ ففي سعد من مخايل (١٤) النجابة، وبواكير الرجولة (١٥) ما يبشر بأن هذا الهلال سيكون بدرا كاملا في يوم قريب.
ولسعد من كرم النسب، وعزة الحسب ما قد يغري (١٦) فتيان مكة بأن يسلكوا سبيله، وينسجوا على منواله (١٧).
ثم إن سعدا فوق ذلك كله من أحوال النبي ؛ فهو من بني "زهرة"، وبنو "زهرة" أهل "آمنة بنت وهب"، أم النبي ﷺ.
وقد كان الرسول صلوات الله عليه يعتز بهذه الخؤولة.
فقد روي أن النبي الكريم ﷺ كان جالسا مع نفر من أصحابه فرأى سعد بن أبي وقاص مقبلا فقال لمن معه:
(هذا خالي … فليرني امرؤ خاله).
* * *
لكن إسلام سعد بن أبي وقاص لم يمر سهلا هينا، وإنما عرض الفتى المؤمن لتجربة من أقسى التجارب قسوة وأعنفها عنفا؛ حتى إنه بلغ من قسوتها وعنفها أن أنزل الله سبحانه في شأنها قرآنا.
.
فلتترك لسعد الكلام ليقص علينا خبر هذه التجربة الفذة.
قال سعد: رأيت في المنام قبل أن أسلم بثلاث ليال كأني غارق في ظلمات بعضها فوق بعض، وبينما كنت أتخبط في لججها (١٨) إذ أضاء لي قمر
فاتبعته فرأيت نفرا أمامي قد سبقوني إلى ذلك القمر …
رأيت: زيد بن حارثة (١٩)، وعلي بن أبي طالب، وأبا بكر الصديق …
فقلت لهم: منذ متى أنتم ها هنا؟! فقالوا: الساعة.
ثم إني لما طلع علي النهار بلغني أن رسول الله ﷺ يدعو إلى الإسلام مستخفيا، فعلمت أن الله أراد بي خيرا، وشاء أن يخرجني بسببه من الظلمات إلى النور.
فمضيت إليه مسرعا، حتى لقيته في شعب "جياد" (٢٠)، وقد صلى العصر، فأسلمت، فما تقدمني أحد سوى هؤلاء النفر الذين رأيتهم في الحلم.
ثم تابع سعد رواية قصة إسلامه فقال:
وما إن سمعت أمي بخبر إسلامي حتى ثارت ثائرتها (٢١) وكنت فتى برا بها محبا لها، فأقبلت علي تقول:
يا سعد ما هذا الدين الذي اعتنقته فصرفك عن دين أمك وأبيك … والله لتدعن دينك الجديد أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت … فيتفطر (٢٢) فؤادك حزنا علي، ويأكلك الندم على فعلتك التي فعلت، وتعيرك الناس بها أبد الدهر.
فقلت: لا تفعلي يا أماه، فأنا لا أدع ديني لأي شيء.
لكنها مضت في وعيدها، فاجتنبت الطعام والشراب، ومكثت أياما على ذلك لا تأكل ولا تشرب، فهزل جسمها ووهن عظمها وخارت قواها.
فجعلت آتيها ساعة بعد ساعة أسألها أن تتبلغ (٢٣) بشيء من طعام أو قليل
من شراب؛ فتأبى ذلك أشد الإباء، وتقسم ألا تأكل أو تشرب حتى تموت أو أدع ديني.
عند ذلك قلت لها: يا أماه إني على شديد حبي لك لأشد حبا لله ورسوله … ووالله لو كان لك ألف نفس فخرجت منك نفسا بعد نفس ما تركت ديني هذا لشيء.
فلما رأت الجد مني أذعنت للأمر، وأكلت وشربت على كره منها، فأنزل الله فينا قوله ﷿:
﴿وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا﴾ (٢٤).
* * *
لقد كان يوم إسلام سعد بن أبي وقاص ﵁ من أكثر الأيام برا بالمسلمين، وأجزلها خيرا على الإسلام:
ففي يوم "بدر" كان لسعد وأخيه "عمير" موقف مشهود؛ فقد كان "عمير" يومئذ فتى حدثا لم يجاوز الحلم إلا قليلا، فلما أخذ الرسول يعرض جند المسلمين قبل المعركة توارى "عمير" أخو سعد خوفا من أن يراه الرسول ﷺ فيرده لصغر سنه، لكن الرسول أبصره ورده؛ فجعل عمير يبكي حتى رق له قلب النبي الله وأجازه.
عند ذلك أقبل عليه سعد فرحا، وعقد عليه حمالة سيفه (٢٥) عقدا لصغره، وانطلق الأخوان يجاهدان في سبيل الله حق الجهاد.
فلما انتهت المعركة عاد سعد إلى المدينة وحده، أما "عمير" فقد خلفه شهيدا على أرض "بدر" واحتسبه عند الله (٢٦).
* * *
وفي "أحد" حين زلزلت الأقدام (٢٧)، وتفرق المسلمون عن النبي حتى لم يبق إلا في نفر قليل لا يتمون العشرة؛ وقف سعد بن أبي وقاص يناضل عن رسول الله صلوات الله عليه بقوسه، فكان لا يرمي رمية إلا أصابت من مشرك مقتلا.
ولما رآه الرسول ﵇ يرمي هذا الرمي، جعل يحضه (٢٨) ويقول له: (ارم سعد … ارم فداك أبي وأمي) …
فظل سعد يفتخر بها طوال حياته ويقول: ما جمع الرسول ﷺ لأحد أبويه إلا لي … وذلك حين فداه بأبيه وأمه معا.
* * *
ولكن سعدا بلغ ذروة مجده حين عزم الفاروق على أن يخوض مع "الفرس" حربا تديل دولتهم (٢٩) وتثل عرشهم (٣٠)، وتجتث جذور (٣١) الوثنية من على ظهر الأرض، فأرسل كتبه إلى عماله في الآفاق … أن أرسلوا إلي كل من كان له سلاح أو فرس، أو نجدة أو رأي، أو مزية من شعر، أو خطابة أو غيرها مما يجدي على المعركة.
فجعلت وفود المجاهدين تتدفق على المدينة من كل صوب (٣٢)، فلما
تكاملت، أخذ الفاروق يستشير أصحاب الحل والعقد (٣٣) في من يوليه على الجيش الكبير ويسلم إليه قياده، فقالوا بلسان واحد: الأسد عاديا … سعد بن أبي وقاص، فاستدعاه عمر رضوان الله عليهما، وعقد له لواء الجيش (٣٤).
* * *
ولما هم الجيش الكبير بأن يفصل (٣٥) عن المدينة وقف عمر بن الخطاب يودعه ويوصي قائده فقال:
يا سعد، لا يغرنك من الله أن قيل: خال رسول الله، وصاحب رسول الله، فإن الله ﷿ لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكنه يمحو السيئة بالحسنة.
يا سعد: إن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا الطاعة، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله (٣٦) سواء؛ الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالتقوى ويدركون ما عند الله بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت النبي عليه فالتزمه فإنه الأمر (٣٧).
ومضى الجيش المبارك وفيه تسعة وتسعون بدريا (٣٨)، وثلاثمائة وبضعة عشر ممن كانت لهم صحبة فيما بين بيعة الرضوان فما فوق ذلك، وثلاثمائة ممن شهدوا فتح مكة مع رسول الله، وسبعمائة من أبناء الصحابة.
* * *
مضى سعد وعسكر بجيشه في "القادسية" (٣٩)، ولما كان يوم
"الهرير" (٤٠) عزم المسلمون على أن يجعلوها القاضية (٤١)؛ فأحاطوا بعدوهم إحاطة القيد بالمعصم، ونفذوا إلى صفوفه من كل صوب مهللين (٤٢) مكبرين …
فإذا رأس "رستم" قائد جيش الفرس مرفوع على رماح المسلمين، وإذا بالرعب والهلع يدبان في قلوب أعداء الله حتى كان المسلم يشير إلى الفارسي فيأتيه فيقتله، وربما قتله بسلاحه.
أما الغنائم فحدث عنها ولا حرج، وأما القتلى فيكفيك أن تعلم أن الذين قضوا غرقا فحسب قد بلغوا ثلاثين ألفا.
* * *
عمر سعد طويلا وأفاء الله عليه من المال الشيء الكثير، لكنه حين أدركته الوفاة دعا بجبة من صوف بالية وقال:
كفنوني بها فإني لقيت بها المشركين يوم "بدر" …
وإني أريد أن ألقى بها ﷿ وجل أيضا (*).
_________
(١) وهنا: ضعفا ومشقة.
(٢) فصاله: فطامه عن الرضاع.
(٣) جاهداك: دفعاك بالقوة.
(٤) أناب إلي: رجع إلي بالإخلاص والطاعة.
(٥) سورة لقمان: من الآية ١٤ - ١٥.
(٦) فذة: فريدة نادرة.
(٧) ريان الشباب: طري الشباب مونقه.
(٨) غض الإهاب: غض الجلد، كناية عن أنه في مقتبل العمر ورونقه.
(٩) برديه: ثوبيه.
(١٠) رجاحة الكهول: عقل الكهول ورصانتهم.
(١١) لداته: المماثلون له في السن.
(١٢) بري السهام: إعدادها وإصلاحها.
(١٣) القسي: الأقواس التي يرمى بها.
(١٤) مخايل: علامات.
(١٥) بواكير الرجولة: تباشيرها وأوائلها.
(١٦) يغري: يرغب ويحض.
(١٧) ينسجون على منواله: يسلكون طريقته فيسلمون كما أسلم.
(١٨) اللجج: جمع لجة وهي معظم الماء وأعمقه.
(١٩) زيد بن حارثة: انظره ص ٢١١.
(٢٠) شعب جياد: أحد شعاب مكة المكرمة.
(٢١) ثارت ثائرتها: اشتعلت نار غضبها.
(٢٢) يتفطر: يتشقق.
(٢٣) تتبلغ: تتناول القليل الذي يحفظ حياتها.
(٢٤) سورة لقمان: آية ١٥.
(٢٥) حمالة السيف: ما يعلق به على عاتق صاحبه.
(٢٦) احتسبه عند الله: طلب من الله أجره على فقده.
(٢٧) زلزلت الأقدام: دب الضعف والخوف في النفوس.
(٢٨) يحضه: يحثه.
(٢٩) تديل دولتهم: تطيح بدولتهم وتذهب بها.
(٣٠) تثل عرشهم: تهدم ملكهم.
(٣١) تجتث جذور الوثنية: تقتلعها من أصولها.
(٣٢) من كل صوب: من كل جهة.
(٣٣) أصحاب الحل والعقد: أهل الشورى وذوو الرأي والمكانة.
(٣٤) عقد له لواء الجيش: ولاه عليه.
(٣٥) يفصل: يخرج.
(٣٦) في ذات الله: عند الله.
(٣٧) فإنه الأمر: أي فإنه الأمر الذي يجب إنفاذه.
(٣٨) البدري: من شهد معركة بدر.
(٣٩) القادسية: موضع يبعد عن الكوفة خمسة عشر فرسخا، وقعت فيها المعركة الفاصلة بين المسلمين والفرس سنة ست عشرة للهجرة وانتصر فيها المسلمون نصرا كبيرا لم تقم بعدها للفرس قائمة.
(٤٠) يوم الهرير: اليوم الأخير من أيام القادسية، وسمي كذلك لأنه لم يكن يسمع للجند أصوات إلا الهرير من شدة القتال.
(٤١) القاضية: المهلكة المدمرة.
(٤٢) مهللين: صائحين لا إله إلا الله.
مختارات