شرح الأسماء الحسنى (24) الرّحمن الرّحيم عزّ وجلّ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فإنّ من أجلّ أسماء الله سبحانه وتعالى، وأعظمها وأشهرها:
31- الرّحمن 32- الرّحيم
المبحث الأوّل: في ثبوت هذين الاسمين ومنزلتهما.
اتّفق علماء الأمّة على أنّهما من أسماء الله تبارك وتعالى، وذلك لأمور:
الأوّل: لثبوتهما في القرآن في أكثر من آية، أمّا الرّحمن فقد ذكر في القرآن في سبع وخمسين موضعا دون البسملة بين السّور، وأمّا الرّحيم فذكر في 114 موضع.
الثّاني: بل إنّ الله عرّف نفسه إلى خلقه بأنّه الله الرّحمن الرّحيم، فقال في فاتحة كتابه: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، وقال تعالى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)} [الحشر].
قال ابن القيّم رحمه الله - كما في " مختصر الصّواعق المرسلة " (2/112)- عنهما بأنّهما:
" أظهر الأسماء الّتي افتتح الله بها كتابه في أمّ القرآن، وهي من أظهر شعائر التّوحيد، والكلمة الجارية على ألسنة أهل الإسلام، وهي بسم الله الرّحمن الرّحيم الّتي هي مفتاح الطّهور، والصّلاة، وجميع الأفعال... " اهـ
الثّالث: حتّى إنّه تعالى تعرّف إلى الأمم قبلنا بهذا الاسم، فانظر قول بلقيس ملكة سبأ:{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)} [النّمل]، وقصّة القرية الّذين جاءهم المرسلون في سورة (يس) قصّ الله علينا قولهم:{قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)}.
الرّابع: بل إنّه الاسم الّذي سيأتي على لسان العالمين يوم الفزع، قال تعالى:{قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)} [يس].
الخامس: أنّهما من اسم الله الأعظم، بدليل ما رواه التّرمذي وابن ما جه والدّارميّ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:
(اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وَفَاتِحَةِ آلِ عِمْرَانَ:{اَلَم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}.
أمّا إنكار كفاّر قريش لاسم الرّحمن فهو تعنّت وجحود وعناد، قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)} [الفرقان]، وجاء في صحيح البخاري في قصّة صلح الحديبية قوله: فَدَعَا النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم الْكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ؟ وَلَكِنْ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ.
إنّما ذكرنا أنّه تعنّت لأنّهم كانوا يعرفون هذا الاسم الكريم، ويدلّ على ذلك أمران:
الأوّل: آيات كثيرة ذكرت أنّهم كانوا يعرفونه، مثل قوله تعالى:{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزّخرف: 20].
الثّاني: أنّه جاء ذكر اسم الرّحمن في أشعار الجاهليّة، كقول سلامة بن جندب الطّهوي:
عجلتم علينا إذ عجلنا عليكم *** وما يشأ الرّحمـن يُعقَد ويُطلق
وقد ردّ الطّبريّ بشدّة قول من قال إنّ العرب كانت لا تعرف (الرّحمن)، فقال: " وقد زعم أهل الغباء أنّ العرب كانت لا تعرف الرّحمن " اهـ، ثمّ بيّن رحمه الله أنّ ذلك كان تعنّتا وجحودا.
فالشّاهد أنّ الله تعرّف على عباده باسم الرّحمن، حتّى إنّه لم يتسمّ به أحدٌ من الخلق، أمّا إطلاق أهل اليمامة لقب (الرّحمن) على مسيلمة الكذّاب فهو تعنّت أيضا كتعنّت فرعون من قبل يوم قال: أنا ربّكم الأعلى.
المبحث الثّاني: المعنى اللّغويّ.
الاسمان مشتقّان من الرّحمة، والرّحمة في اللّغة - كما في " لسان العرب " -: " هي الرّقّة والتعطّف، والمرحمة مثله.. قال الله عزّ وجلّ:{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالمَرْحَمَةِ} أي: أوصى بعضهم بعضا برحمة الضّعيف، والتعطّف عليه، وترحّمت عليه أي: قلت: رحمة الله عليه " اهـ.
وتطلق الرّحمة في القرآن الكريم والسنّة ويراد بها عدّة معان، كلّها من آثار رحمة الله تعالى، منها:
- النبوّة، كقوله تعالى على لسان نوح عليه السّلام:{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ}، وعلى لسان صالح عليه السّلام:{يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً}، ومنه قوله عن الخضر عليه السّلام:{فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} أي: آتيناه النبوّة.
- الرّزق، ومنه قوله عزّ وجلّ:{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)} [الإسراء]، وقوله:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}.
- المطر:{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}.
- الجنّة: كقوله تعالى:{سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} [التّوبة: 100]، وقوله:{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)} [الإنسان]، ومنه ما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم:
(تَحَاجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتْ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتْ الْجَنَّةُ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِلْؤُهَا).
ومنه دعاء بعض السّلف: اللَّهُمَّ اجْعلنِي في مُستَقَرّ رحْمتِك.
المبحث الثّالث: معنى الاسمين في حقّ الله تعالى:
الاسمان مشتقّان من الرّحمة - كما سبق ذكره -، فيجتمعان في أمر، ويفترقان في أمور:
* فيجتمعان في الدّلالة على المبالغة، فمعنى كلّ منهما الشّديد الرّحمة، فينبغي اتّباع ما اختاره الله لنفسه، واختاره له رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فيوصف ويُدعى بهذين الاسمين الدالّين على المبالغة، فلا يليق أن يخبر العبد عن ربّه بما يدلّ على قلّة رحمته كأن يسمّيه (راحم) كما نسمعه على ألسنة المتصوّفة: اللهمّ ارحمنا فإنّك بنا راحم، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر !
فإذا كان كلاهما يدلّ على المبالغة في الرّحمة، فما الفرق بينهما؟
* الفروق بينهما من وجوه:
- أنّ الرّحمن أبلغ من الرّحيم، لأنّ (فعلان) يدلّ دائما على المبالغة، نحو غضبان وجوعان ونحو ذلك.
بخلاف وزن (فعيل) فهو قد يأتي لغير المبالغة نحو: جميل، ونظيف، وعظيم، فهو بمعنى فاعل ليس غير، بل إنّ (فعيل) قد يأتي بمعنى المفعول كقتيل، وجريح، وحسير، ونحو ذلك. ولا شكّ أنّ ما لزم معنى المبالغة دائما يكون أبلغ من غيره.
- قال كثير من أهل العلم: إنّ (الرّحمن) هو ذو الرّحمة الشّاملة لجميع الخلائق في الدّنيا، وللمؤمنين في الآخرة، و(الرّحيم) هو ذو الرّحمة للمؤمنين فحسب، واستدلّوا على ذلك بأمرين:
الأوّل: قوله تعالى في أكثر من موضع من كتابه:{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى}، وقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ الرَّحْمَنُ} قالوا: فذكر الله اسمه الرّحمن دون غيره في مقام ذكر الاستواء على العرش ليعُمّ جميع خلقه برحمته، وقال:{وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب:43] فخصّ المؤمنين باسمه (الرّحيم).
الثّاني: ما رواه الطّبراني في " الأوسط " بسند جيّد، وصحّحه الألباني في " صحيح التّرغيب والتّرهيب " عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم لِمُعَاذٍ رضي الله عنه:
(أَلاَ أُعَلِّمُكَ دُعَاءً تَدْعُو بِهِ لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ دَيْنًا لَأَدَّاهُ اللهُ عَنْكَ؟ قُلْ يَا مُعَاذُ: اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ، وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ، بِيَدِكَ الخَيْرُ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، رَحْمَانَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَرَحِيمَهُمَا، تُعْطِيهُمَا مَنْ تَشَاءُ وَتَمْنَعُ مِنْهُمَا مَنْ تَشَاءُ، اِرْحَمْنِي رَحْمَةً تُغْنِينِي بِهَا عَنْ رَحْمَةِ مَنْ سِوَاكَ).
وهذا القول: وهو شمول (الرّحمن) للكافرين والمؤمنين، وتخصيص (الرّحيم) بالمؤمنين قويّ، لولا أنّه يرد عليه قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ بالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمُ} أي: هو رحيم بكلّ النّاس مؤمنهم وكافرهم.
- وأحسن الفروق أن يقال إنّ (الرّحمن) صفة ذات، والرّحيم صفة فعل: فالرّحمن يدلّ على أنّه سبحانه متّصف بالرّحمة الواسعة ولو قبل أن يخلق العباد، والرّحيم يدلّ على الصّفة المتعلّقة بالعباد فيوصلها لمن يشاء، قال ابن القيّم رحمه الله في " بدائع الفوائد " (1/24):
" إنّ (الرّحمن) دالّ على الصّفة القائمة به سبحانه، و(الرّحيم) دالّ على تعلّقها بالمرحوم، فكان الأوّل للوصف، والثّاني للفعل، فالأوّل دالّ على أنّ الرّحمة صفته، والثّاني دالّ على أنّه يرحم خلقه برحمته.
وإذا أردت فهم هذا فتأمّل قوله:{وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب:43]، {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التّوبة: 107]، ولم يجِئ قط (رحمن بهم)، فعُلم أنّ (رحمن) هو الموصوف بالرّحمة، و(رحيم) هو الرّاحم برحمته، وهذه نكتة لا تكاد تجدها في كتاب " اهـ.
-أنّ (الرّحمن) لا يتسمّى ولا يوصف به أحد - كما سبق ذكره -، لذلك قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الفرقان:110] فعادل (الله) بـ(الرّحمن)، لأنّه الاسم الّذي لا يُشركه فيه غيره.
وروى ابن أبي حاتم في " تفسيره " عن الحسن قال: (الرّحمن) اسم لا يستطيع النّاس أن ينتحلوه تسمّى به تبارك وتعالى.
وجائز أن يوصف الإنسان بالرّحيم، كما وصف الله نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بقوله:{بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.
قال ابن كثير رحمه الله:
" والحاصل: أنّ من أسمائه تعالى ما يسمّى به غيره، ومنها ما لا يسمّى به غيره، كاسم (الله) و(الرّحمن) و(الخالق) و(الرّزاق)، ونحو ذلك؛ فلهذا بدأ باسم الله، ووصفه بالرّحمن؛ لأنّه أخصّ وأعرف من الرّحيم؛ لأنّ التّسمية أوّلا إنّما تكون بأشرف الأسماء، فلهذا ابتدأ بالأخصّ فالأخصّ " اهـ.
[يُتبع إن شاء الله].
مختارات