شرح الأسماء الحُسنى (21) الوهّـاب عزّ وجلّ.
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فقد وقفنا مليّا مع اسمين عظيمين من أسماء الله عزّ وجلّ، وهما (الرزّاق، والرّازق)، ورأينا الثّمرات الّتي يجنيها المسلم من معرفتها، والإيمان بها.
ومن أسماء الله عزّ وجلّ القريبة من معناهما اسم:
27- الوهّــاب عزّ وجلّ.
المبحث الأوّل: أدلّة ثبوت هذا الاسم والصّفة.
هذا الاسم ورد ذكره ثلاث مرّات في القرآن الكريم، منها قوله تعالى:{إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: من الآية8].
ولم يأت في السنّة إلاّ حديث واحد فيه مقال، وهو ما رواه أبو داود عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ إِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ، اللَّهُمَّ أَسْتَغْفِرُكَ لِذَنْبِي، وَأَسْأَلُكَ رَحْمَتَكَ، اللَّهُمَّ زِدْنِي عِلْمًا، وَلَا تُزِغْ قَلْبِي بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنِي، وَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).
ولمجيئه في القرآن الكريم لم يختلف العلماء في أنّه اسم من أسمائه عزّ وجلّ، فكلّ من تكلّم في أسمائه عزّ وجلّ ذكره.
المبحث الثّاني: المعنى اللّغوي لهذا الاسم.
ملخّص ما جاء في " النّهاية " (5/231)، و " اللّسان " (6/4929): أنّ الوهّاب بمعنى كثير العطاء، فهو صيغة مبالغة من " وهب الشّيء إذا أعطاه، ومصدره: الوهْب والوهَب والهبة.
وفي أصل اشتقاق الهبة قولان:
الأوّل: أنّه من هبّ الشّيء إذا مرّ، ومنه هبوب الرّيح، فالعطيّة تمرّ من يد إلى أخرى.
الثّاني: من هبّ بمعنى تيقّظ، لأنّ فاعلها تيقّظ لفعل الخير.
ويقال في المبالغة: وَهُوب ووهّابة أيضا، وهو متصرّف له ماضٍ ومضارع وأمر فيقال: وهب يهبُ وهبْ.
أمّا (هَبْ) الدالّة على الاعتقاد والظنّ، فإنّه فعل جامد لا مصدر له ولا مضارع ولا ماضٍ.
والهـبـة: في اللّغة هي العطيّة الخالية عن العوض، فتدخل فيها الصّدقة والهديّة والوصيّة[1].
فإن قيل: كيف يمكننا التّفريق بين الهديّة والهبة؟
فالجواب: أنّ كلّ هديّة هبة، وليس كلّ هبة هديّة، فقد تطلق الهبة على الصّدقة، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يوهب أشياء على سبيل الهديّة لا الصّدقة.
المبحث الثالث: معنى الاسم في حقّ الله سبحانه وتعالى:
قال الطّبري رحمه الله: " الوهاب لمن يشاء من خلقه، ما يشاء من ملك وسلطان ونبوّة ".
وقال الخطّابي رحمه الله في " شأن الدّعاء " (ص 53)، ونقله البيهقيّ في " الاعتقاد " (ص 57): " هو الّذي يجود بالعطاء من غير استثابة " أي: من غير طلب للثّواب من أحد.
وقال الحليمي رحمه الله في " المنهاج " (1/206): " هو المتفضّل بالعطايا المنعم بها لا عن استحقاق عليه ".
قال ابن القيّم رحمه الله تعالى في " النّونيّة " (2/234):
وكذلك الوهّـاب من أسمـائـه *** فانظـر مواهـبـه مدى الأزمـان
أهل السّموات العلى والأرض عن *** تلك المـواهـبِ ليـس ينـفكّـان
وبهذا يظهر الفرق الدّقيق بين الرزّاق والوهّاب، وهو:
أنّ الرزّاق من الرّزق وهو أعمّ من الهبة، لأنّ من يرزق قد يرقب ثوابا وعوضا كما قال تعالى:{وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النّساء: من الآية5]، وقال:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: من الآية233]، بخلاف الهبة.
المبحث الرّابع: آثار الإيمان بهذا الاسم
1- لا شكّ أنّه لمّا كان الوهّاب بمعنى الرزّاق فآثار الإيمان به هي نفسها، وكما سبق ذكره أنّ هذا الاسم ورد ذكره ثلاث مرّات في القرآن الكريم:
مرّة بمعنى الرزّق العامّ الّذي يعمّ جميع الخلق، قال تعالى:{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} [ص:9].
ومرّة بمعنى الرّزق الخاصّ بالأبدان والأعيان، كقوله تعالى:{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35].
ومرّة بمعنى الرّزق الخاصّ بالقلوب وهو الهداية:{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].
لذلك قال الطّبري رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: " يعني إنّك أنت المعطي عبادك التّوفيق والسّداد للثّبات على دينك وتصديق كتابك ورسلك ".
2- أعظم هبة وهبها الله العبد هي الاستقامة على دينه، لذلك وصف الدّاعين بهذا الدّعاء بأنّهم أولو الألباب، فقال:{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عران].
ولذلك كانت النبوّة أعظم هبة، قال تعالى عن موسى عليه السّلام:{فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: من الآية21]، وكذا العلم الّذي هو ميراث النبوّة.
3-الفرق بين هبة الخالق والمخلوق: وذلك من أوجه:
- الوجه الأوّل: من حيث الدّوام والاتّصال، ذكره الخطّابي رحمه الله تعالى في " شأن الدّعاء " (ص53) فقال:
" فكلّ من وهب شيئا من عرض الدّنيا لصاحبه فهو واهب، ولا يستحقّ أن يسمّى وهّابا إلاّ من تصرّفت مواهبه في أنواع العطايا، فكثرت نوافله ودامت.
والمخلوقون إنّما يملكون أن يهبوا مالا أو نوالا في حال دون حال، ولا يملكون أن يهبوا شفاءً لسقيم، ولا ولدا لعقيم، ولا هُدىً لضالّ، وعافية لذي بلاء، والله الوهّاب سبحانه يملك جميع ذلك، وسع الخلقَ جودُه، فدامت مواهبه، واتّصلت مننُه وعوائده " اهـ.
- الوجه الثّاني: من حيث العوض، ذكره الرّازي في " شرح الأسماء "، وهو يُفهم مّما مضى بيانه، فأكثر الخلق إنّما يهبون من أجل عوض ينالونه، كمقابل لذلك، أو ثناء بين النّاس، وأحسنهم من يهب طمعا في الأجر من الله تعالى.
- الوجه الثّالث: أنّ هبة الله تعالى لا حصر لها، ولا عجز فيها، فهو كما مضى في شرح اسم " الرزّاق " أنّه المعطي بلا كلفة الرّازق بلا مؤنة.
- الوجه الرّابع: أنّ هبة الله تعالى ليست عن ضعف أو ذلّ، ولكنّها عن مشيئة وقدرة وعزّة، لذلك قال تعالى:{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشّورى:49]، بخلاف عطيّة العبد، فتكون أحيانا ناتجة عن ضعف.
- الوجه الخامس: أنّ هبة الله تعالى عن حكمة بالغة، لذلك ختم آية الهبة بقوله:{أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى:50].
فهبته إمّا شكر لعمل العبد، أو استدراج له، فكلّ عطاء منه أصاب موضعه، بخلاف عطيّة العبد فإنّها ربّما لم تُصِب موضعها.
من ذلك حديث البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:
(قَالَ رَجُلٌ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ ! فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ.
فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ زَانِيَةٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ ! فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ.
فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ ! فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ وَعَلَى زَانِيَةٍ وَعَلَى غَنِيٍّ.
فَأُتِيَ، فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ، وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا، وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ).
ومن ثمرات الإيمان بهذا السم الكريم:
4- إذا علم العبد أنّ الهبة من الله تابعة لحكمته ومشيئته، فينبغي له الرّضا بما قسم الله له:
- فالذرّية هبة من الله تعالى، وقد ذكر الله أنبياء بذرّية ذكور كنوح، ويعقوب عليهم السّلام، وذكر أنبياء لهم ذرّية إناث كنبيّ الله لوط عليه السّلام، وذكر أنبياء وليس لهم ذرّية كعيسى ويحيى ويوسف عليه السّلام، وذكر أنبياء وهبهم الله ذرّية بعد كبر في السنّ ووهن في العظم كنبي الله إبراهيم وخليله القائل:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم:39]، ونبيّ الله زكريّا عليه السّلام القائل:{رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: من الآية38].
بل ذكر أنّ نبيّا آتاه الله ملكا لا ينبغي لأحد بعده، ووهب له الرّياح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، أي حيث شاء، وسخّر له الشّياطين تعمل له ما يشاء من تماثيل ومحاريب وقصور وقدور وجفان، ويغوصون في البحر يستخرجون منه اللّآلئ، وقال الله له:{هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:39].
ومع ذلك لم يهب له إلاّ شقّ ولد، روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:
(قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليهما السلام: " لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ كُلُّهُنَّ يَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ).
- وليعلم أنّ الله سمّى الولد هبة، فينبغي له أن يرضى بهبة الله تعالى له، سواء أكان ذكرا أو أنثى، سواء أكان صحيحا أم سقيما، وما أقبح أن لا يرضى العبد بعطيّة الله له.
5- وممّا ينبغي لنا معرفته: أنّ هناك اسمين يُذكران عادة بهذا المعنى، وهما: (المعطي والمانع).
نراهما إن شاء الله لاحقا.
مختارات