فقه الموت - الجزء الاول
فقه الموت
قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)} [الجمعة: 8].
وقال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} [آل عمران: 185].
الموت: تغير حال الإنسان، وانتقال من دار إلى دار.
والروح باقية بعد مفارقة الجسد، إما معذبة أو منعمة، ومفارقتها للجسد معناه: خروج الجسد عن طاعتها، وسكونه عن الحركة بفقدها، فإن الأعضاء والجوارح آلات للروح تستعملها.
والروح بنفسها تَعْلم الأشياء من غير إعلام، ولذلك قد يتألم بنفسه بأنواع الغم والحزن والكمد، ويتنعم بأنواع الفرح والسرور، وكل ذلك لا يتعلق بالأعضاء.
فكل ما هو وصف للروح بنفسها فيبقى معها بعد مفارقة الجسد، وما هو لها بواسطة الأعضاء يتعطل بموت الجسد إلى أن تعاد الروح إلى الجسد عند البعث.
وكل أعضاء الإنسان آلات والروح مستعملة لها، والموت عبارة عن استعصاء الأعضاء كلها على الروح.
والإنسان في الحقيقة هو الروح المدرك للعلوم والآلام واللذات، وذلك لا يموت ولا ينعدم، ومعنى الموت انقطاع تصرفه عن البدن، وخروج البدن على أن يكون آلة له، فحقيقة الإنسان نفسه وروحه وهي باقية.
والموت أشد ما يحاول الإنسان أن يروغ منه، أو يبعد شبحه عن خاطره، ولكن أنى له ذلك، والموت طالب لا يمل الطلب، ولا يبطئ الخطى، ولا يخلف الميعاد: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)} [الجمعة: 8].
والنفس البشرية ترى الحق كاملاً وهي في سكرات الموت، تراه بلا حجاب، وتدرك منه ما كانت تجهل، وما كانت تجحد، ولكن بعد فوات الأوان، حين لا تقبل توبة، ولا ينفع إيمان، قال الله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)}... [ق: 19].
والمؤمن يكشف له بعد الموت من سعة جلال الله، ما تكون الدنيا بالإضافة إليه كالسجن الضيق، كالمحبوس في بيت مظلم فتح له باب إلى بستان واسع الأكناف، لا يبلغ طرفه أقصاه.
ونسبة سعة الآخرة إلى الدنيا كنسبة سعة الدنيا إلى الرحم وأعظم.
والناس في هذه الدنيا ثلاثة:
إما منهمك في الدنيا وإما تائب مبتدي، وإما عارف منته.
فالغافل المنهمك في الدنيا، لا يذكر الموت، وإن ذكره فيذكره للتأسف على دنياه، ويشتغل بمذمته، وإن ذُكِّر به كرهه، ونفر منه، فهذا يزيده ذكر الموت من الله بعداً؛ لجهله وسوء عمله.
وأما التائب: فإنه يكثر من ذكّر الموت، لينبعث من قلبه الخوف والخشية، فيفي بتمام التوبة، وربما يكره الموت خوفاً من الموت قبل التوبة، وإصلاح الزاد.
فهذا معذور في كراهة الموت؛ لأنه ليس يكره الموت ولقاء الله، وإنما يخاف فوت لقاء الله لقصوره وتقصيره، كالذي يتأخر على لقاء الحبيب مشتغلاً بالاستعداد للقائه على وجه يرضاه، فلا يعد كارهاً للقائه.
وعلامة هذا أن يكون دائم الاستعداد له، لا شغل له سواه.
وأما العارف: فإنه يذكر الموت دائماً؛ لأنه موعد لقائه لحبيبه والحبيب لا ينسى قط موعد لقاء حبيبه، فهو مستعد كل وقت في كمال زينته بإيمانه وطاعته للقاء محبوبه.
وهذا غالباً إما أن يكره الموت ليكمل استعداداته وزينته للقاء ربه، وإما أن يستبطيء مجيء الموت، ويحب مجيئه، ويتخلص من دار العاصين، وينتقل إلى جوار رب العالمين.
والموت هادم اللذات، وخطره عظيم، وما بعده أفظع منه، وغفلت الناس عنه بسبب قلة ذكرهم له، وقلة فكرهم فيه.
ومن يذكره من الناس لا يذكره بقلب فارغ، بل بقلب مشغول بشهوة الدنيا، فلا ينجع ذكر الموت في قلبه.
فالطريق النافع أن يفرِّغ العبد قلبه عن كل شيء إلا عن ذكر الموت، الذي هو بين يديه، وأقرب من شراك نعله إليه، فإذا باشر ذكر الموت قلبه فيوشك أن يؤثر فيه.
وعند ذلك يقل فرحه وسروره في الدنيا، وينكسر قلبه.
وأنجع طريق فيه أن يكثر من ذكر أقرانه، الذين ماتوا قبله، فيتذكر صورهم في مناصبهم، وقصورهم وأحوالهم، ثم يتذكر موتهم ومصارعهم تحت التراب، وكيف محا التراب الآن حُسْن صورهم؟.
وكيف تقطعت أوصالهم في قبورهم؟.
وكيف خرست ألسنتهم، وصمت أذانهم، وعميت أبصارهم؟
وكيف أرملوا نساءهم، وأيتموا أطفالهم، وقسمت أموالهم؟.
وكيف خلت منهم دورهم ومساجدهم ومجالسهم؟
وماذا قالوا؟ وماذا قيل لهم؟ وماذا عملوا؟ وماذا وجدوا؟.
قال الله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25، 26].
فما أعظم الخطب، وما أشد الكرب هناك حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ لدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} [آل عمران: 185].
وطول الأمل في الدنيا داء وبلاء وشقاء، وسببه أمران:
الجهل.. وحب الدنيا.
فأما الجهل: فهو أن الإنسان قد يعول على شبابه فيستبعد قرب الموت مع الشباب، وليس يعلم أن الموت في الشباب أكثر.
وقد يستبعد الموت لصحته ويستبعد الموت فجأة، ولا يدري أن ذلك غير بعيد، وإن كان بعيداً فالمرض فجأة غير بعيد، والموت يطلب الإنسان كما يطلبه رزقه.
قال النبي (: «أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ» أخرجه ابن ماجه (1).
وأما حب الدنيا: فهو أنه إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها، وعلائقها وضيعاتها، وأرباحها ومكاسبها، ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع قلبه من الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، ومكدر أنسها ونعيمها، وكل من كره شيئاً دفعه عن نفسه.
والإنسان مشغوف بحب الدنيا والأماني الباطلة، فلا يزال يلهو ويلعب، ويبني ويهدم، ويجمع ويفرق، ويسعى لتكميل الشهوات واللذات، ويسوِّف ويؤخر التوبة، ويظل عاكفاً على عمارة ما أمر بتخريبه والإعراض عنه، وعلى تخريب ما أمر بتعميره والاستكثار منه، وما يلزم لها من الإيمان والطاعات ولا يزال كذلك حتى تخطفه المنية في وقت لا يحتسبه، فتطول عند ذلك حسراته وتتحقق خسارته.
فما أعظم خسارة هؤلاء، قال الله تعالى: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)}... [الأعراف: 51].
وقال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59].
وإذا عرفنا سبب كراهية الموت، وأنه الجهل، وحب الدنيا، فلا بدَّ للسلامة والنجاة مما بعد الموت، من معرفة العلاج، والشروع في التداوي قبل حلول الأجل.
أما الجهل: فيُدفع بالفكر والتأمل، وبسماع الحكمة من القلوب الزاكية الطاهرة، وبذلك يعلم العبد أن عمله الصالح في الدنيا لا بدَّ له من جزاء وثواب في الآخرة، ولا يتم ذلك إلا بعد الموت، فالموت باب النعيم للمتقين، وباب الشقاء للمجرمين.
وأما حب الدنيا فهو الداء العضال الذي أعيى الأولين والآخرين علاجه، فإخراجه من القلب شديد، ولا علاج له إلا بالإيمان بالله واليوم الآخر، وما فيه من عظيم العقاب لمن عصى الله، وجزيل الثواب لمن أطاعه.
ومهما حصل له اليقين بذلك ارتحل عن قلبه حب الدنيا.
وإذا رأى العبد حقارة الدنيا ونفاسة الآخرة استنكف أن يلتفت إلى الدنيا كلها، ولو أعطي ملك الارض من المشرق إلى المغرب، فإن حب العظيم هو الذي يمحو من القلب حب الحقير.
فما أعظم الموت، وما أعظم الغفلة عنه، فكم من الخلق جاءهم الموت في وقت لم يحتسبوا
أما من كان مستعداً فقد فاز فوزاً عظيماً، وأما من كان مغروراً بطول الأمل فقد خسر خسراناً مبيناً.
مختارات