فقه الإيمان بالله (٤)
والإيمان له ركنان لا يقوم إلا بهما:
أحدهما: السمع المتضمن للقبول، لا مجرد سمع الإدراك المشترك بين المؤمنين والكفار.
والثاني: الطاعة المتضمنة لكمال الانقياد بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي.
وفي ذلك كمال الإيمان.
وكمال القبول.
وكمال الانقياد كما قال سبحانه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: ٥١].
ولما جاء الإيمان في حياة الصحابة جاء أمران:
الأول: الاستعداد لفعل الأوامر والتلذذ بها، والتنافس فيها، والمسارعة إليها.
الثاني: النصرة من الله، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل، والتمكين في الأرض.
وكل من أقر بلا إله إلا الله في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - تغير فكره.
وتغير يقينه.
وتغير شكله.
وتغير شغله.
وتغير عمله.
وتغير مقصد حياته: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (١٣٨)} [البقرة: ١٣٨].
وقد كان إيمان الصحابة قوياً في أعماق قلوبهم، فكلما اصطدمت أحوالهم الخاصة بأوامر الله آثروا دين الله على أحوالهم، ولم يبالوا بها.
فتحملوا الجوع والعطش، ومفارقة الأهل والأوطان، وصبروا على كيد الأعداء وأذاهم، وقدموا أموالهم وأنفسهم وأوقاتهم كلها للدين.
وبذلك نزلت عليهم السكينة.
وفازوا بنصرة الله حينما ضحوا من أجل لا إله إلا الله بأموالهم وأنفسهم.
وأوقاتهم وشهواتهم.
وجاههم وديارهم.
وهاجروا ونصروا.
وقاتلوا وقتلوا.
ولذلك كلهم رضي الله عنهم ورضوا عنه كما قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠)} [التوبة: ١٠٠].
وقد كانت الأخلاق العالية منثورة في الأنبياء والرسل، ثم جمعها الله في خاتم رسله سيد الأنبياء محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، ثم فرقها في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأصاب منها القرن الأول أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسنها وأعظمها، وأشرفها وأكملها.
فقد كانت في الصحابة رضي الله عنهم صفات عجيبة من الإيمان والعلم.
والحياء والحلم.
والإحسان والإيثار.
والطاعة لله ورسوله.
وأحسن الأخلاق والآداب.
والحب في الله.
وحسن العبادة.
والدعوة إلى الله.
والجهاد في سبيله.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أقْوَامٌ: تَسْبِقُ شَهَادَةُ أحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ» متفق عليه (١).
وكانت تلك الصفات منثورة فيهم.
وهم متفاوتون فيها.
فمستقل ومستكثر، لكنهم مشتركون في الإيمان، والعلم، والعبادة، والدعوة، والجهاد في سبيل الله.
وقد جمع الله فيهم صفات الأنبياء، وهم خير القرون:
فكلهم كانوا مؤمنين حقاً بالله ورسوله، وبما جاء عن الله ورسوله.
وكانت فيهم الطاعة لله ورسوله في شئون الحياة كلها خاصة أركان الإسلام.
وكانت طاعتهم لربهم ونبيهم على علم في ضوء علم النبوة لا على هواهم.
ثم مع علمهم كان عندهم الاستحضار لله عزَّ وجلَّ ولزوم ذكره، وكانوا يعبدون الله كأنهم يرونه قريباً مجيباً سميعاً بصيراً.
وكانت عندهم الأخلاق العالية، بإكرام بعضهم بعضاً، فهم أشداء على الكفار، رحماء بينهم: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: ٢٩].
ثم كلهم كانوا مخلصين في أعمالهم لله تعالى، عرضت عليهم المناصب والأموال فتركوها لله مخلصين له الدين: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥)} [البينة: ٥].
ثم الشيء المشترك بينهم جميعاً هو الدعوة إلى الله، فكما أن كلهم يعبدون الله فكذلك كلهم كانوا يدعون إلى الله كما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ الشاهد منهم الغائب، فرضي الله عنهم وأرضاهم ورضوا عنه.
فالإيمان هو الدافع والمحرك لامتثال أوامر الله كلها.
فهو قوة دافعة لفعل الطاعات وكسب الحسنات.
وهو قوة ممسكة عن المعاصي والذنوب والسيئات.
ولكي يزيد الإيمان واليقين، وتقوى الأعمال، لا بد أن نعرف وعد الخالق لمن أطاعه حتى يصغر ما يعطيه المخلوق لمن أطاعه.
وأن نعرف وعيد الخالق لمن عصاه حتى يصغر وعيد المخلوق لمن عصاه.
وأن نعرف قدرة الخالق ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة حتى تصغر أمامنا قدرة المخلوق.
وأن نعرف نعم الخالق وإحسانه وآلاءه حتى تصغر نعمة المخلوق وأفضاله.
وبذلك يزيد الإيمان واليقين، ثم تزيد الأعمال، ثم يظهر حسن الأخلاق، ثم تصلح الأحوال، ثم يأتي رضا الله، ثم دخول الجنة.
والإيمان الضعيف يمكن أن تؤدى به الصلاة، والذكر، والتسبيح، وتلاوة القرآن ونحوها من الأعمال الانفرادية.
(١) متقق عليه، أخرجه البخاري برقم (٢٦٥٢) واللفظ له، ومسلم برقم (٢٥٣٣).
مختارات

