فقه الموت - الجزء الثانى
فما أعظم الموت، وما أشد سكراته.. وما أعظم هول ما بعده.
ولو لم يكن بين يدي العبد كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها، لكان جديراً بأن ينغص عليه عيشه، ويتكدر عليه سروره.
والعجب أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات، وأكبر مجالس اللهو، فانتظر أن يدخل عليه جندي فيضربه بخمس خشبات لتكدرت عليه لذته، وفسد عليه عيشه، وهو في كل نَفَس يدخل عليه ملك الموت وهو عنه غافل.
فما لهذا سبب إلا الجهل والغرور.
والمشروع عند الموت من صورة المحتضر هو الهدوء والسكينة، ومن لسانه أن يكون ناطقاً بالشهادة، ومن قلبه أن يكون حَسَن الظن بالله تعالى.
ويستحب أن يذكر للمحتضر محاسن أعماله عند موته، لكي يحسن ظنه بربه.
ثم يُغسَّل الميت ويصلَّى عليه، ثم يُدفن، ويبقى في قبره منتظراً يوم البعث، ويظل في قبره منعماً أو معذباً حسب عمله، ثم يبعث وينتقل إلى دار القرار في الجنة أو النار.
كما قال سبحانه: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)} [الروم: 14].
وليس معنى الموت انتهاء الحياة وانتهاء المشاكل، بل معناه انتقال الإنسان من حياة صغيرة قصيرة حقيرة فانية إلى حياة أبدية طويلة، إما في سعادة، أو في شقاء. فمعناه نهاية الحياة والأحوال الفانية، وبداية الحياة والأحوال الأبدية.
فالله كتب على جميع الكائنات الموت والفناء، ولكن الإنسان خُلق للبقاء، لكنه ينتقل من مرحلة إلى مرحلة، ومن دار إلى دار، حتى يستقر في دار المقام في الجنة أو النار.
والإنسان إذا مات وفارق الحياة لايستطيع أن يأخذ معه من الأموال شيئاً، ولو أخذ كل ذهب الدنيا معه لكان كالتراب بالنسبة لنعيم الجنة.
فكل ما في الدنيا لايساوي ثواب حسنة واحدة يوم القيامة، والإنسان إذا مات يذهب بالأعمال إلى الآخرة، وبعد الموت إما أن تنتهي المشكلة ويدخل الجنة، أو تبدأ المشكلة ويدخل النار.
فالناس لا بدَّ لهم من السجن:
فمن دخل السجن في الدنيا، وامتثل أوامر الله إلى أن تنتهي مدة سجنه بالموت أدخله الله الجنة، وأطلق شهواته فيها، فالدنيا بصغرها وضيقها كالسجن للمؤمن الذي ينتظر الخروج منها إلى الجنة، وهي كالجنة بالنسبة للكافر الذي سينتقل منها إلى السجن المؤبد في نار جهنم كما قال النبي (: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» أخرجه مسلم (1).
ومن أطلق شهواته في الدنيا، ولم يمتثل أوامر الله، عاقبه الله في السجن يوم القيامه، وقيد شهواته وجوارحه، وعذبه في نار جهنم.
فالناس رجلان: إما خارج من السجن.. وإما ذاهب إلى السجن.
وحياة الإنسان في الدنيا قصيرة، ولها بداية ولها نهاية، وحياة الإنسان في الآخرة مؤبدة لها بداية ولا نهاية لها.
وقد فرغ الله إلى كل عبد من خمس:
من عمله.. وأجله.. ورزقه.. وأثره.. ومضجعه.
ومهما عاش الإنسان فإنه سيموت، ومهما أحب من الأشياء فإنه سيفارقها، ومهما عمل من الأعمال فإنه سيلاقيها ويحاسب عليها.
وقد خلق الله الإنسان، وجعله محدود العمر، محدود المعرفة، محدود الرؤية، محدود القدرة.
وكل يوم، وكل ليلة، وكل لحظة تمر بالإنسان فهو يزداد من الدنيا بعداً ومن الآخرة قرباً، فوا عجباً لهذا الإنسان.. إن على أَثَره طالباً لا يفوته، وقد نُصب له علم لا يجوزه، فما أسرع ما يبلغ العلم، وما أوشك أن يلحقه الطالب.
وقد أخفى الله عزَّ وجلَّ علم الساعة، ومعرفة الآجال؛ رحمة بالعباد.
فلو عرف الإنسان مقدار عمره، فإن كان قصير العمر لم يهنأ بالعيش، وإن كان طويل العمر فهو واثق بالبقاء، فلا يبالي بالانهماك في الشهوات والمعاصي، ويقول إذا قرب الوقت أحدثت التوبة.
وهذا مذهب لا يرتضيه المخلوق فكيف يرتضيه الخالق؟.
فلو أن عبداً من عبيدك عمل على أن يسخطك أعواماً، ثم يرضيك ساعة واحدة إذا تيقن أنه صائر إليك لم تقبل منه، ولم يفز لديك بما يفوز به مَنْ همه رضاك في كل أوقاته.
وكذا سنة الله عزَّ وجلَّ أن العبد إذا عاين الانتقال إلى الله تعالى لم تنفعه التوبة كما قال سبحانه: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)}... [النساء: 17].
وأوحش ما يكون الناس في ثلاثة مواطن:
يوم يولد الإنسان فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه فيصرخ.
ويوم يموت، فيرى قوماً لم يكن عاينهم من قبل.
ويوم يبعث، فيرى نفسه في محشر عظيم.
والأجل أجلان:
أجل مطلق لا يعلمه إلا الله، فهذا لا يتبدل ولا يتغير.
وأجل مقيد، وهو ما في صحف الملائكة، فإن الله أمر الملك أن يكتب للعبد أجلاً، وقال إن وصل رحمه زدته كذا وكذا، والملك لا يعلم أيزداد أم لا، لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر.
فإذا جاء الأجل لا يتقدم ولا يتأخر كما قال سبحانه: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)}... [المنافقون: 11].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأنْ يُنْسَأ لَهُ فِي أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» متفق عليه (1).
والأجل قسمان:
أحدهما: أجل كل عبد الذي ينقص به عمره.
الثاني: أجل القيامة العامة.
فأجل الموت قد يعلمه الله لمن شاء من عباده كالملائكة الذين يكتبون رزق العبد وأجله وعمله كما قال (: «إِنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ إِلَيْهِ مَلَكًا بِأرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُكْتَبُ عَمَلُهُ، وَأجَلُهُ، وَرِزْقُهُ وَشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ» متفق عليه (1).
أما أجل القيامة المسمى عنده فلا يعلمه إلا الله عز وجل كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)} [الأنعام: 2].
فوقت الساعة لا يعلمه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا غيرهما من المخلوقات.
والله يكتب للعبد أجلاً في صحف الملائكة، فإذا وصل العبد رحمه زاد في ذلك المكتوب، وإن عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك المكتوب.
والله عزَّ وجلَّ قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم قدر مقادير الخلق حين خلقهم وأوجدهم، ثم يقدر في ليلة القدر ما يكون في ذلك العام.
وكذلك يقدر الله خلق كل إنسان في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة كذلك، ثم يكون مضغة كذلك، ثم ينفخ فيه الروح، ويبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات:
بكتب رزقه.. وأجله.. وعمله.. وشقي أو سعيد.
وإذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظمها.
ثم إذا ولد قُدِّر مع ولادته كل سنة ما يلقاه في تلك السنة، وهو ما يقدر ليلة القدر.
ونظير هذا: عرض أعمال العباد على الله، فيعرض عمل الأسبوع يوم الإثنين والخميس كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «تُعْرَضُ أعْمَالُ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ، يَوْمَ الإثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ، إِلا عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: اتْرُكُوا، أوِ ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا» أخرجه مسلم (1).
ويعرض عمل النهار في آخره، وعمل الليل في آخره، ويرفع عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار.
فهذا الرفع والعرض اليومي أخص من العرض الأسبوعي في الإثنين والخميس، والعرض فيه أخص من العرض السنوي في شعبان، ثم إذا انقضى الأجل رفع العمل كله، وعرض على الله، وطويت الصحف، وهذا عرض آخر، ثم تعرض الخلائق كلها على الله يوم القيامة كما قال سبحانه: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)}... [الكهف: 48].
وتعرض جهنم على الكفار كما قال سبحانه: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)} [الكهف: 100].
ومن الناس من أحب الموت.. ومنهم من كرهه، إما لضعف محبته لله.. وإما لكونها مشوبة بحب شيء من الدنيا.. أو لأنه يرى ذنوبه فيحب أن يبقى ليتوب.. ومنهم من يرى نفسه في ابتداء مقام المحبة فيكره عجلة الموت قبل أن يستعد للقاء الله تعالى.. فالكراهة بهذا السبب لا تنافي كمال المحبة.
والإحياء والإماتة أمران مكروران في كل لحظة، معروضتان لحس الإنسان وعقله، وسر الحياة والموت لا يعلمه إلا الله الذي خلق الموت والحياة، ولذلك وصف إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ربه بالصفة التي لا يشاركه فيها أحد، ولا يستطيعها أحد كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)} [البقرة: 258].
فلما قال الكافر (أنا أحيي وأميت) عَدَل إبراهيم عن هذه السنة الكونية الخفية إلى سنة أخرى ظاهرة مرئية، وعدل عن طريقة العرض المجرد إلى طريقة التحدي، وطلب تغيير سنة الله لمن ينكر ويجادل في الله، ليريه أن الرب وحده هو مصرف هذا الكون كله، وهو رب الناس المشرع لهم فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} وتلك حقيقة مكرورة مرئية يومية، معلومة لكل أحد.
فماذا حصل؟.
{فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} فالتحدي قائم، والأمر ظاهر، ولا سبيل إلى سوء الفهم أو الجدال أو المراء.
وكان التسليم أولى، والإيمان أجدر، ولكن الكبر عن الرجوع إلى الحق أمسك بالذي كفر، ولم يهده الله إلى الحق؛ لأنه لم يلتمس الهداية، ولم يرغب في الحق، وظل ظالماً: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)} [البقرة: 258].
وهذا مثل للضلال والعناد يتزود به الدعاة إلى الله في مواجهة المنكرين.
والإحياء والإماتة، وطلوع الشمس من المشرق آيتان عظيمتان معروضتان للبصائر والأبصار بلا تكلف، يسهل الاهتداء بهما في مسألة الإيمان على أي مخلوق، وإذا كان عمر الإنسان محدوداً، والأجل مكتوباً، فلتنظر نفس ما قدمت لغد؟، ولتنظر نفس ماذا تريد؟.
أتريد أن تقعد عن تكاليف الإيمان، وأن تحصر همها كله في هذه الأرض؟
أم تريد أن تتطلع إلى أفق أعلى، وإلى حياة أكبر من هذه الدنيا؟.
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)} [آل عمران: 145].
وشتان بين حياة وحياة، وشتان بين اهتمام وإهمال.
مختارات