فقه الغربة
فقه الغربة
قال الله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)} [هود: 116].
وقال النبي (: «إِنَّ الإِسْلامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِي جُحْرِهَا» أخرجه مسلم (1).
الغربة ثلاثة أنواع:
الأولى: غربة أهل الله، وأهل سنة رسول الله (بين هذا الخلق، وهي الغربة التي مدح رسول الله (أهلها، وهي الغربة التي تكون في مكان دون مكان، وزمان دون زمان، وبين قوم دون قوم.
وأهل هذه الغربة هم أهل الله حقاً، فإنهم لم يأووا إلى غير الله، ولم ينتسبوا إلى غير رسول الله (، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به.
فهذه الغربة لا وحشة على أهلها لا في الدنيا ولا في الآخره، فوليهم الله ورسوله والذين آمنوا، وإن عاداهم أكثر الناس وجفوهم.
ومن هؤلاء الغرباء مَنْ ذكرهم النبي (بقوله:
«رُبَّ أشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأبْوَابِ، لَوْ أقْسَمَ عَلَى اللهِ لأبَرَّهُ» أخرجه مسلم (2).
والمؤمن حقاً في الدنيا كالغريب، لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، للناس حال، وله حال.
ومن صفات هؤلاء التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله تعالى ورسوله (.
وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقاً، وأكثر الناس بل كلهم لائم لهم،فلغربتهم بين هذا الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة، ومفارقة للسواد الأعظم، وهم النُّزَّاعُ من القبائل.
تغربوا عن قبائلهم وعن بلادهم فراراً بدينهم، وإعلاء لكلمة ربهم.
فطوبى لهؤلاء الغرباء الذين يَصْلحون إذا فسد الناس، ويُصْلحون ما أفسد الناس: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)}... [الأحزاب: 39].
والإسلام الحق اليوم هو أشد غربة منه في أول الإسلام، وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة.
فالإسلام الحقيقي غريب جداً، وأهله غرباء أشد الغربة بين الناس، فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون.
فأهل الإسلام في الناس غرباء.. والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء.. وأهل العلم في المؤمنين غرباء.. وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع غرباء.. والداعون إليها، الصابرون على أذى المخالفين أشد هؤلاء غربة.
ولكن هؤلاء هم أهل الله حقاً، فمن أراد أن يسلك هذا الصراط المستقيم فليوطِّن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه، وطعنهم في سيرته، وإزرائهم به، وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه، كما كان سلفهم من الكفار يفعلون مع نبيه وإمامه - صلى الله عليه وسلم -.
فما أشد حال أهل هذه الغربة؟
وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جدا غريبة بين اثنين وسبعين فرقة، ذات أتباع ورئاسات وولايات ومناصب، ولا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول (، فالواحد من هؤلاء الغرباء غريب في أمور دنياه وآخرته، لا يجد من الناس مساعداً ولا معيناً فهو عالم بين جهال، صاحب سنة بين أهل بدعة، داع إلى الله ورسوله بين دعاة أهل الأهواء والبدع، وآمر بالمعروف وناه عن المنكر بين قوم المعروف لديهم منكر، والمنكر لديهم معروف، والهدى ضلالة، والضلالة هدى.
الثانية: غربة مذمومة، وهي غربة أهل الباطل وأهل الفجور بين أهل الحق، فهي غربة بين حزب الله المفلحين.
فهؤلاء وإن كثروا فهم غرباء على كثرة أصحابهم، أهل وحشة على كثرة مؤنسيهم.
الثالثة: غربة مشتركة، فإن الناس كلهم في هذه الدار غرباء، فإنها ليست لهم بدار مقام، ولا هي الدار التي خلقوا لها، كما بين ذلك النبي (: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» أخرجه البخاري (1).
والاغتراب أمر يشار به إلى الانفراد عن الأكفاء، فكل من انفرد بوصف شريف دون أبناء جنسه فإنه غريب بينهم؛ لعدم مشاركته أو لقلته.
ولما كانت الغربة هي الانفراد، والانفراد إما بالجسم وإما بالقصد والحال، وإما بهما، كان الغريب غريب جسم، وغريب قلب وإرادة، أو غريباً بالاعتبارين.
فالغربة على ثلاث درجات:
غربة عن الأوطان.. وغربة الحال.. وغربة الهمة.
فالغربة الأولى غربة بالأبدان.
والثانية: غربة بالأفعال والأحوال، والمراد به العالم بالحق العامل به الداعي إليه، وهذا من الغرباء الذين طوبى لهم، فهو صاحب صدق واخلاص بين أهل الكذب والنفاق.
والثالثة: غربة بالهمة، وهي غربة طلب الحق سبحانه.
فإن همة العارف حائمة حول من يعرف، فهو غريب بين أبناء الآخرة، فضلاً عن أبناء الدنيا، لا يشغله عن مطلوبه ومحبوبه شاغل إلا ما ارتضاه محبوبه.
مختارات