صوت العقل في تنظيم الهيئة الجديد
الحمد لله وبعد،،
نعم، لا أنازع أن هناك شريحة ممن صاغت زغاريد الأفراح على شبكات التواصل ابتهاجاً بهذا القرار كان باعثها المضمر أن " هيئة الأمر بالمعروف " كانت تقلق إشباعه لبعض نزواته الوضيعة فاغتبط بإزاحة بعض الحواجز، وتبادَلَ التهاني مع من يشاركه الدافع نفسه، تماماً كما ينشرح صدر المُهرِّب بكل نظام يكبّل سلطة موظّف الجمارك، بل كما يرقص الطفل حين لا يجد في الغرفة يداً تهذّب تهالكه على صحن الحلوى..
وإن كان بعض هؤلاء يمعن في التصعيد بقذف كلمات الاستبشار على سبيل المغايظة والمناكدة التيّاريّة، وهذا الصنف غالباً لا يستطيع أن يبني في الأحداث رؤية موضوعية، ويصعب النقاش العلمي معه..
ولا أجادل أيضاً أن ثمة من أشاد بالقرار ولكن لديه مشكلة مسبقة مع أصل مبدأ " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " وأن الإلزام الشرعي يعارض الحرية، وهذا الصنف من القصور المنهجي مناقشته في مدى صلاحيات مؤسسة الحسبة، لأنه سيغدو نقاشاً في التطبيق قبل الاتفاق على القاعدة نفسها، بل المناقشة مع هذا الصنف في أصل التسليم لله ورسوله، والقاعدة الشرعية في الإلزام، ونصوص التغيير باليد وما دونه ونحوها، والتمييز بين الحرية الشرعية المقيدة بالعدل والحرية الليبرالية المتجاوزة للعدل.
ولكن، ومع التسليم بوجود هاتين الشريحتين، إلا أنه ليس هذا كل المشهد، ومن القصور تلخيص الساحة في مثل هذه الشرائح، بل هناك اتجاهات أخرى تقبّلت القرار وباركته، وهي قادمة من خلفيات أخرى، تحمل مبادئ ولديها شعور بالمسؤولية، وتستحق المناقشة العلمية والموضوعية الهادئة.
فهناك من لم يستوعب أصلاً مغزى ومرامي هذا التنظيم ومازال مستغرباً الصدى حوله، ولذلك ترى بعضهم يقول ببراءة هذا " تنظيم " وما المشكلة في التنظيم؟
وهناك من لا يعرف بالضبط حقيقة الدور الذي تقوم به الهيئة رغم كثرة ما يسمع في الإعلام والمجالس عنها.
وهناك من يعرف حقيقة دور الهيئة، ويعرف حقيقة التنظيم التجميدي الجديد؛ ولكنه يقول في نفسه: لعل هذا هو أخف الشرور وأسلم الطرق للجمع بين حفظ مكتسبات الهيئة ودرء تجاوزاتها في ذات الوقت، فإن بعض أعضاء الهيئة فيهم عنجهية وصلف.
هيئة الأمر بالمعروف هي مؤسسة الضبط الأخلاقي في مجتمعنا، وتُصدِر الرئاسة العامة للجهاز سنوياً تقريراً رسمياً يقدم للجهات العليا والمسؤولين كمجلس الوزراء ومجلس الشورى وغيرها، يسمى (التقرير الإحصائي السنوي لأداء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) يتوافق مع السنة المالية، يتضمن عرضاً للتنظيم الإداري وعدد القوى العاملة والمقرات والمباني والميزانية والمصروفات والاستراتيجية العامة وعدد الوقوعات (أي الوقائع الجنائية المضبوطة) وتصنيفها بحسب الجرائم وبحسب المناطق وعدد البرامج والندوات التوجيهية المنفّذة والمطبوعات الموزّعة وبرامج تدريب الأعضاء والإيفاد والابتعاث والدراسات وكراسي البحث العلمية ونحو ذلك، مدعّم بجداول وأشكال بيانية لعرض الإحصاءات.
وكمثال ونموذج فقط، بين يدي الآن التقرير السنوي للعام المالي (1434هـ/1435هـ) سأنقل منه بعض المعلومات والإحصاءات:
بلغ إجمالي عدد الوقوعات (=الوقائع الجنائية المضبوطة) لهذا العام: (330،235) ثلاثمائة وثلاثون ألف ومائتان وخمس وثلاثون واقعة جنائية مضبوطة، ويقسّم الجهاز الوقوعات إلى قسمين: ما يسميه " القضايا " وهي التي تحال لجهة الاختصاص وتمثل عادة 10% تقريباً، وما يسميه " المخالفات " وهي التي يتم إنهاؤها بالتعهد والمناصحة وإخلاء سبيل صاحبها وتمثل عادةً 90% كما ذكر التقرير.
وهذه الوقوعات تشمل –بحسب تصنيف الهيئة- العقائد (مثل السحر والشعوذة والشركيات والقبوريات وسب الدين) والعبادات (مثل المجاهرة بالإفطار نهار رمضان) والأخلاقيات (مثل التحرش والابتزاز والدعارة والاغتصاب والشذوذ الجنسي والحفلات الماجنة) والمسكرات والمخدرات والقمار، والآداب العامة.
وبلغ عدد وقوعات " السحر " المضبوطة لهذا العام (107) واقعة، أعلاها في منطقة مكة المكرمة إذ بلغت لوحدها (42) حالة.
وبلغ عدد وقوعات " الابتزاز " لهذا العام (587) واقعة، أعلاها بمنطقة الرياض حيث بلغت لوحدها (159) واقعة.
وبلغ عدد وقوعات " هروب الفتيات " لهذا العام (61) واقعة، أعلاها بمنطقة مكة المكرمة حيث بلغت لوحدها (25) واقعة.
وبلغ عدد وقوعات " شبكات الدعارة " لهذا العام (260) واقعة، وبلغ عدد وقوعات " الجنس الثالث " لهذا العام (762) واقعة، وبلغ عدد وقوعات " الخمور " لهذا العام (2748) واقعة.
فإذا تأمل المصلح شنائع ما يفعله السحر والابتزاز والمسكرات والمخدرات والدعارة بالأسر والأطفال وهدم البيوت وانتشار الطلاق والأمراض العضوية والنفسية أدرك خطورة هذه الأرقام..
وهناك تفاصيل وإحصاءات أخرى لجرائم أخرى كثيرة، مصنفة بحسب الجريمة، ومصنفة بحسب المناطق، يمكن مراجعة التقرير للمزيد حولها.
ويجدر بالذكر أن في جهاز الهيئة وحدة متخصصة باسم (وحدة مكافحة السحر) ومن أعمالها متابعة الرقاة الشرعيين ومعالجي الطب الشعبي، وذكر التقرير إنشاء (وحدة التعامل مع قضايا الابتزاز) في بعض الفروع وجاري استكمال البقية، وأوضح أن من المبادئ المستقرة معاملة حالات الابتزاز بسرية تامة لحفظ كرامة الفتاة ولتعيش حياة طبيعية بعد تخليصها، كما نفّذ فريق علمي بإشرف الهيئة دراسة خاصة لظاهرة " هروب الفتيات " لاستقصاء المشكلة، وخطر استغلالهن في الجريمة وسبل معالجة ذلك، وثمة أبواب خاصة في التقرير لذكر الأعمال المنجزة في موسم الحج والمشاعر والمناسك والمسجد النبوي.
كما تضمن عرضاً لبرامج تدريب وتأهيل أعضاء ومنسوبي الجهاز التي بدأ الجهاز بها، مثل: مهارات التعامل مع الجمهور والتحدث الإعلامي وإدارة المشاريع ونحوها، وعدد المستفيدين من كل برنامج تدريبي، بالإضافة لتفاصيل وإحصاءات كثيرة علمية وإدارية وميدانية يمكن مراجعة هذا التقرير أو ما يماثله من التقارير السنوية التي تصدر عن الرئاسة.
حسناً، بعد أن تبيّن ضخامة الدور الذي تقوم به مؤسسة الحسبة الرسمية، وهول الجرائم والجنايات التي تحاصرها، سنأتي للتساؤل البريء الذي يقول: ولكن التنظيم الجديد اسمه " تنظيم " وما المشكلة في التنظيم؟!
والحقيقة أن جواب هذا السؤال كله يدور حول تصور مفهوم " الضبط الجنائي " في النظام السعودي، فأي مؤسسة تتعامل مع جرائم يعتبر الضبط الجنائي، وخصوصاً في حالة التلبّس؛ هو القلب النابض فيها، وتوقف سلطة الضبط الجنائي عن الخفقان يعني شلل المؤسسة، والضبط الجنائي يبدأ من تلقي البلاغات والتحري والمعاينة وجمع الأدلة وسماع الأقوال، إلى أن يصل في حالة التلبس إلى سلطة الاستيقاف والقبض والتفتيش ونحوها (نظام الإجراءات الجزائية:م33، 34، 42).
كما حددت المادة (26) من نظام الإجراءات الجزائية الجهات المختصة بالضبط الجنائي وهم: هيئة التحقيق والادعاء العام، والشرطة، وضباط الأمن العام والمباحث والاستخبارات والدفاع المدني الخ، ومحافظو المحافظات ورؤساء المراكز، ورؤساء المراكب البحرية والجوية، وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل جهة صدر لها نظام خاص يخولها ذلك.
وثمة تفاصيل حول علاقة مفهوم الضبطية الجنائية في السعودية بما يماثله ويقاربه ويقاسمه من المفاهيم في النظم المعاصرة كالضبطية الإدارية والضبطية القضائية والشرطة القضائية الخ، وهو خارج محل المقالة، ويمكن مراجعة تفاصيل المفهوم في الشروحات والدراسات الأكاديمية والمقارنة حول نظام الإجراءات الجزائية السعودي (مثل: إبراهيم الموجان 1423هـ، محمد العبدالله 2003، مدني تاج 1425هـ، سعد بن ظفير 1426هـ، عبد العزيز بن مصلح الشمري 1429هـ، وغيرهم).
تاريخياً، وفي بداية إنشاء ولاية الحسبة في عهد الملك عبد العزيز في العشرينيات الهجرية من القرن الماضي كانت هذه الولاية تزيد بسلطة بعض العقوبات التأديبية المحدودة.
ثم صدر أول نظام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام (1400هـ) في عهد الملك خالد، وأبقى سلطة التأديب المحدودة المضافة لسلطة التحقيق، ولكنه قيدها بموافقة الإمارة (م:4).
ثم صدرت أوامر خاصة تحد من بعض صلاحياتها، ثم صدر نظام الإجراءات الجزائية 1422هـ الذي جعلها فقط سلطة ضبط جنائي ضمن بقية سلطات الضبط الجنائي.
ثم صدر تنظيم الهيئة عام 1434هـ في عهد الملك عبد الله، ولم يغيّر هذا التنظيم سلطات الهيئة الفعلية المعمول بها في الواقع، لكنه صاغ الواقع الفعلي للصلاحيات في نظام (م:8، 9، 10)، وأضاف بعض العبارات حول الرفق واللين والاقتداء بالسيرة النبوية والخلفاء الراشدين (م:5)، باعتبار أن نظام 1400هـ لم يعد معمولاً به فعلياً.
ثم صدر هذا التنظيم الجديد 1437هـ في العهد الحالي، والذي يقضي ظاهر نصّه بإلغاء كامل صلاحيات الهيئة كلياً في الضبط الجنائي للجرائم والجنايات محل اختصاصها، وجعلها فقط مؤسسة إرشاد وتوعية، وتشارك المواطنين في التبليغ عن الجرائم كرجل الشارع غير المسؤول من المواطن والمقيم.
حيث نصّت المادة (7) من هذا التنظيم الجديد على نقل صلاحيات الهيئة في الضبط الجنائي إلى الشرطة وإدارة مكافحة المخدرات، ومنع مؤسسة الهيئة من كل درجات ومراتب سلطة الضبط الجنائي، وأن تكتفي -كغيرها من المواطنين والمقيمين- بإبلاغ جهات الاختصاص فقط.
وأما عامة مواده المتبقية فهي منقولة بالنص من التنظيم السابق (1434هـ).
وأول إشكال أمام هذا التنظيم الجديد أن من تأمله أدرك فوراً أنه قرار غير مدروس البتة.
فمؤسسة الهيئة التي ضبطت في عام واحد فقط: (330،235) ثلاثمائة وثلاثون ألف ومائتان وخمس وثلاثون واقعة جنائية، بما فيها من وقوعات السحر والشعوذة والابتزاز وشبكات الدعارة والمسكرات والمخدرات والمجاهرة بالإفطار نهار رمضان والتحرش والشذوذ الجنسي والحفلات الماجنة والقمار والآداب العامة الخ، ولاحظ أن كل هذه في سنة واحدة، يراد من الشرطة أن تستوعب كل عمل مؤسسة أخرى في لحظة واحدة!
هل هناك عمل تنظيمي وتقنيني في العالم يسير بمثل هذه الطريقة؟ فهذا يؤكد بلا شك أن الأمر غير مدروس، وفيه أنفاس الاستعجال ثائرة.
يدرك المواطن أن مؤسسة الشرطة تعاني من أعباء هائلة وخصوصاً بعد أحداث الغلو واستحلال الدماء وتدمير المنشآت، ويتحدث كثير من الناس في المجتمع أن هذا أثّر سلبياً على كفاءة قيام الشرطة بالمهام التقليدية كمواجهة سرقة السيارات والسطو ونحوها، وأنها تبعاً لذلك تقلّص اهتمامها ببعض الملفات الأمنية لزيادة كفاءة مواجهة الإرهاب، فكيف يتم إغراقها في لحظة واحدة بما هو دون نصف مليون واقعة جنائية في سنة واحدة كانت تواجهها مؤسسة ضبطية أخرى؟!
فهذا سؤال يجب أن يؤخذ بالاعتبار: هل يستطيع جهاز الشرطة أن يستوعب مطالب جهاز ضبط جنائي آخر، ذي اختصاصات مختلفة لا خبرة له بها، دفعة واحدة؟
نعم، لن يكون هناك إن شاء الله انفلات، ولكن سيكون حتماً اضطراب لا يسر من يحب الخير للمسلمين ولمجتمعه.
وقد ذكر بعض أهل الخبرة أن هناك قرائن أخرى أيضاً على الاستعجال في إصدار التنظيم كشفته أخطاء الصياغة، ومما ذكره أهل الخبرة: أن هذا التنظيم منح الشرطة سلطة التحقيق مطلقاً! وهذا الإطلاق مخالف لنظام الإجراءات الجزائية أصلاً، فالشرطة ليست جهة تحقيق في الأصل.
كما أن التنظيم –وهو يحدث لأول مرة- جعل الجرائم التي يبلّغ عنها عضو الهيئة في أشد ما يكون من الصياغة العائمة حيث يقول (تقديم البلاغات في شأن ما يظهر لها من مخالفات ( فجعل معيار المخالفة بحسب نظر عضو الهيئة وما يظهر له، فيتصل على الشرطة ويقول أرى أن هذه مخالفة! فكيف يتعامل منسوبو الشرطة مع منسوبو الهيئة أمام هذا الغموض؟!
ومن الاندفاع في صياغة هذا التنظيم أن المادة (7) منعت الهيئة من " متابعة " الجريمة، وهذا يعني أن الجريمة التي يعلم بها عضو الهيئة يجب أن يكون علم بها عفو الخاطر، ثم يجب عليه بعد ذلك أن يمر مرور الكرام، ولا يتابع أي خيط من خيوط الجريمة، حتى لو كان لمزيد المعلومات التي تفيد جهاز الشرطة! فإذا وقع من عضو الهيئة " متابعة " أي شبهة جنائية للتأكد من ملاحظته فهذه المتابعة انتهاك لتنظيم الهيئة الجديد!
وهذا يعني أن رجل الهيئة الأفضل له أن يبلغ الشرطة عن الجريمة كمواطن خارج الدوام الرسمي، فهذا أكثر جدوى في تحقق إنكاره واحتسابه! فهو كمواطن يستطيع أن يتحقق من خيوط الجريمة أفضل منه كعضو هيئة! لأن القيود على الثاني صارت أكثر من الأول! برغم أن الثاني كان يفترض أنه هو المختص!
ثم إن وضع نظام يجعل من صلاحية الهيئة " تبليغ جهات الاختصاص عن الجرائم " أو كما يقول التنظيم في المادة السابعة (تتولى الهيئة تقديم البلاغات) هو أمر لا يعزز روح الثقة بين المواطن والمسؤول، إذ قد يشعر بعض المتابعين أن هذا فيه تذاكياً، لأن " تبليغ جهات الاختصاص " هو أمر مشاع لكل مواطن ومقيم كما نص على ذلك المادة (15) من نظام الإجراءات الجزائية، فهل التبليغ أصلاً يحتاج إلى " صلاحيات " ؟
بمعنى أن عضو الهيئة لا يحتاج أن يعمل في الهيئة حتى يبلغ جهات الاختصاص، فيمكنه أن يبلغ الشرطة عن أي منكر وهو يعمل في أي مهنة أخرى.
ثم إن " الاختصاص " هو ما تنفرد به مؤسسة كلياً أو جزئياً عن غيرها، فأما إن كان عمل الهيئة هو أنه يحق لها تقديم البلاغ للشرطة، فهذا ليس اختصاص أصلاً، إذ هي لا تنفرد به، بل هو حق لكل مواطن ومقيم.
ثم إن اللغة المستخدمة في هذا التنظيم يلمس فيها المواطن روح الاستهانة بعضو الهيئة وإرادة قمعه وما ينتج عن ذلك من تجرئة الجمهور عليه، وكأنه عبء لا موظف يعمل في مهمة ضبطية جنائية ضمن مؤسسات الدولة: (م7:وليس لرؤساء المراكز أو أعضاء الهيئة إيقاف الأشخاص أو التحفظ عليهم أو مطاردتهم أو طلب وثائقهم أو التثبت من هوياتهم أو متابعتهم).
حتى أنني وأنا أقرأ هذا النص المكرر مرتين، مرة يجعل هذه الاختصاصات للشرطة ومكافحة المخدرات، ومرة بتأكيد نفيها عن الهيئة، في نظام لا يتعدى بضعة مواد؛ شعرت أن من صاغ التنظيم لم يكن محايداً من أهل الاختصاص والخبرة بالأنظمة والتشريعات، بل كأنه أحد المنخرطين في الصراع الليبرالي الإسلامي والتراشق الإعلامي ذي الصلة، والمسؤولون -إن شاء الله- لا يرضون بهذا.
يقول البعض أن هناك في الهيئة تجاوزات كثيرة وهي بحاجة إلى " إصلاح "، والحقيقة أن مطلب الإصلاح مطلب عظيم، وجميع مؤسسات الدولة بل نحن كأفراد أيضاً بحاجة إلى إصلاح مستمر، ولكن الواقع أن هذا التنظيم ليس بإصلاح، بل هذا " إلغاء ":
فحين تقول مثلاً لرجل " الجمارك " إذا رأيت متلبساً بجريمة تهريب فلا يحق لك استيقافه وتفتيشه، بل تتصل بالشرطة أو مكافحة المخدرات، فهل هذا إصلاح وتنظيم للجمارك أم هو في جوهره إلغاء له؟!
وحين تقول لموظف المرور إذا رأيت مخالفاً يتجاوز الإشارات ويسير بسرعة جنونية على وشك أن يهلك الناس فلا يحق لك استيقافه بل تبلغ عليه الشرطة فقط، فهل هذا إصلاح وتنظيم للمرور أم إلغاء له؟!
بل إن الحارس المدني (السكيوريتي) الذي يكون على الأسواق وبوابات المنشآت ونحو ذلك، له سلطة الضبط للمتلبس بالجريمة، كما ينص النظام(للحارس المدني سلطة ضبط الشخص أو الأشخاص المتلبسين بالجريمة).[اللائحة التنفيذية لنظام الحراسات المدنية، م:5].
أليس من المحزن أن تكون مؤسسة الضبط الأخلاقي الكبرى التي تقبض سنوياً على ما يقارب نصف مليون جريمة تُجرّد دفعة واحدة من مهامها، ويتاح للحارس المدني الذي على باب السوق نفسه أن يكون له صلاحيات الضبط الجنائي؟!
والمراد أن من يقول أن هذا التنظيم الجديد هو ضبط للفوضى، فهذا التصوير عكس الواقع تماماً، فإن تنظيم الفوضى هو إعطاء المؤسسة الصلاحيات ومحاسبة المقصر، أما إلغاء الصلاحيات من أي مؤسسة حكومية، فهذا ليس ضبطاً للفوضى، بل هذا فتح الباب للفوضى.
ثم إن هذه المقولة (أن مؤسسة الهيئة فيها تجاوزات من جهة عنجهية وصلف أفرادها وتحتاج لإصلاح) بحاجة إلى وضعها تحت المجهر العلمي والابتعاد عن أجواء المشاحنات.
فمن يُكابر ويقول أنه ليس هناك أخطاء في جهاز الهيئة فهو فلا شك شخص يفكر بطريقة غير موضوعية كلياً، ولكني –وبكل أمانة- لا أعلم أحداً من المتصدين للإصلاح في مجتمعنا يقترب من هذا القول، وما سمعت أحداً تلفظ بمثل ذلك.
ولكن المطلوب هو التدبر والتأمل في نسبية هذا الخطأ بالإضافة إلى معطيين:
الأول بالنسبة إلى كمية الوقوعات والضبطيات المعلنة رسمياً للهيئة، فنحن سمعنا مثلاً في العام الماضي عدة وقائع وأخطاء سلّط عليها الإعلام الليبرالي ألسنة التشنيع، لنفرض أنها كانت (20) واقعة، ولنضف إليها ضِعفها أيضاً افتراضياً، وليكون المجموع أربعون خطأ في السنة، ثم لنحسب مقدارها بالنسبة إلى معدل الوقوعات السنوية (330،235)، فستكون النتيجة أن نسبة الخطأ في الجهاز هي:
1،2%.
بالله عليك لو عرضت هذه النتيجة على أي خبير إدراي ألن يقول أن هذا الجهاز متميز في ندرة الخطأ وليس العكس!
بل لو قارنت هذه النسبة بالأخطاء الطبية في المستشفيات، والأخطاء الهندسية في مؤسسات الإنشاءات ونحوها؛ لكانت النتيجة مدهشة، وهل يمكن أن يقول قائل إن الحل للطب والهندسة هو إغلاقها؟!
بل نحن نعلم أن تجاوزات بعض المعلمين بحق الطلاب متعددة وينقل للإعلام باستمرار بعضها، فهل يقول قائل أن هذا يعني أنه يجب إلغاء التعليم؟
أم هل يقول قائل أنه ثبت أن المرأة ألطف من الرجل في التعليم، وعليه فيجب تعطيل تواصل المعلمين الرجال مع جميع فئات الطلاب، وإذا كان لديهم شيء فيبلغون المعلمة المرأة وهي بدورها تنقله للتلاميذ؟!
هل هذا تفكير موضوعي في مشكلات المجتمع؟!
المعطى الآخر: أن أي قارئ موضوعي يدرك جيداً أن الإعلام الليبرالي يتعامل مع أخطاء وتجاوزات أعضاء الهيئة بأسلوب يوظف فيه كل ما تعرفه البشرية من آليات الانحياز والتحزب والعصبية التيارية لبواعث صراعية معروفة وغير نزيهة.
فإذا قارنت ذلك بشدة محاسبة أفراد الهيئة على أخطائهم، بل والتعسف أحياناً في بعض ذلك، أدركت حجم الظلم الذي وقع عليهم.
وحين الحديث عن الأخطاء والهفوات فيجب التأكيد على أن من أسباب وقوع بعض أفراد هذا الجهاز في الخطأ أحياناً هو " رسالية " أفراده، فكثير من أجهزة الضبط الجنائي تعاني من تقاعس أعضائها عن تنفيذ التزاماتها النظامية في الضبط والتحقيق، بينما هذا الجهاز يعاني من شدة رسالية أفراده في القيام بمهامهم.
ولذلك فبرغم أن هذا الجهاز ليس فيه إغراءات مالية بالنسبة للقطاعات الأخرى التي يحصل منسوبوها على رواتب مجزية، إلا أنك تجد أعضاءه صابرون محتسبون على شظف الراتب من أجل رسالة النهي عن المنكر التي يعيشها ويستعذب السهر والعناء لأجلها.
ومن الأمور الغريبة في هذا التنظيم أنه لم يمر بالإجراءات المعتادة، ولم يسمع المواطن بمشروع التنظيم قبل صدوره، كما هي العادة المتبعة في إجراءات سنّ الأنظمة، بل لم يسم حتى " نظام " وإنما تنظيم وصدر بقرار.
ومن العناصر التي تؤكد أن هذا التنظيم لم يُدرس جيداً ما نبه عليه غير واحد من أهل الخبرة أن التنظيم منع رجل الهيئة من أخذ أي معلومات عن المتهم، ثم أمر بالإبلاغ عنه، فكيف يبلغ عن من لا يعلمه؟ وهذا يعني أن البلاغ يكون بالصفات الجسدية فقط، فالمعلومات التي يقدمها رجل الهيئة للشرطة هي من جنس طول وقصر المتهم ولون ثوبه وشماغه ونحو ذلك فقط، كما يفعل ذلك رجل الشارع العادي.
هناك من يقول " لماذا يتم تصوير مجتمعنا وكأنه كينفلت بسبب تجميد الهيئة " وهذا اعتراض مبني على أن المشكلة فقط في الانفلات التام، أما زيادة الفساد فليست مشكلة، فهذا الاعتراض يكشف خللاً مسبقاً في التفكير الإصلاحي.
وآخر يقول " من يرى أن عرضه لن يحميه إلا الهيئة فهي ليس برجل " وهذا منطق أهوج لا يختلف عن من يقول: لا مانع من تحويل الشرطة لجهاز توعوي ومن يرى أن أمنه لن يحميه إلا الشرطة فليس برجل.
أو من يقول: يجب تحويل القضاء إلى مؤسسة تثقيف حقوقية فقط ومن يرى أن حقوقه لن يفصل فيها إلا القضاء فليس برجل.
أو من يقول: يجب إرجاع جنودنا من الحد الجنوبي ومن يرى أنه لن يقاوم الحوثيين إلا هم فهو ليس برجل.
ونحو ذلك، فهل هذا عقل ومنطق وموضوعية؟
المصلح الصادق يفرح بتقوية مؤسسة الضبط الأخلاقي لأنه يفكر في نساء المجتمع المسلم كله وكأنهم أخواته وشقيقاته فهو حريص على حفظهم وصيانتهم.
وهناك من يتحدث عن التحرش والاعتداء فقط، لأن عقله مقصور في فهم الجريمة على " المنظور الليبرالي "، فمثل هذا يرى أن الفواحش الرضائية مثلاً ليست جريمة! وأن الشركيات ليست جناية طالما ليس فيها اعتداء على الغير، وهذا الصنف مشكلته ليست في تنظيم الهيئة، بل في أصل مفهوم المنكر والجريمة في الإسلام، فهو لا يعد منكراً إلا ما فيه اعتداء على حرية الغير، وأما انتهاك الشريعة فليس عنده منكر أصلاً.
لقد كانت " هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " ذات الصلاحيات الفعلية؛ تعدّها الدولة السعودية مفخرة دينية لها حين تتحدث عن أنها الدولة الوحيدة التي تحكم بالشريعة، وكان المدافعون عن المملكة وعلاقتها بالشريعة بالقياس لغيرها يذكرون ثاني عنصر بعد الحرمين هو أن هذه الدولة فيها جهاز يقوم على " الأمر بالمعروف والنهي المنكر "، ومن المحزن أن يكون قد تم التخلي عن هذه المفخرة الدينية إن كان هذا التنظيم على ظاهره فعلاً.
ولا يشك أي قارئ للأحداث أن أخطر تهديد خارجي اليوم قلب حسابات الدولة السعودية هو " التهديد الإيراني "، والغول الإيراني يحشد أتباعه وميليشياته باسم الدين، ولا يشك المتابع أيضاً أن من أخطر ما يواجه المملكة داخلياً هو " الغلو واستحلال الدماء " والغلو يجند ضحاياه ويعبئهم باسم مواجهة الدولة التي لا تحكم بالشريعة.
فإذا تأمل المراقب هذين الخطرين اللذين يركبان عربة الدين المنحرف أدرك أن أقوى وسيلة في مواجهتهم تمتين الدين الصحيح، وأن التخلي التدريجي عن الأوراق الدينية في الشرعية السياسية يعني تزويد الخصم بالمزيد من المستندات وأدوات الصراع.
من الخاسر من هذا القرار؟ الخاسر ليس العلماء والدعاة والمصلحون، حتى أن بعضهم من شدة استحواذ هذا الشعور عليه صار يعد نفسه في هذه المسألة خارج الخريطة أصلاً..
ولكن الخاسر حقاً هو نحن جميعاً، نحن الذين تخلينا في ليلة واحدة عن مؤسسة كانت تسهر على توفير مناخ أخلاقي صحي لنا ولأسرنا، يواصلون الليل بالنهار..
والبعض يتصور أن الإعلام الليبرالي هو الذي صنع القرار عبر تشويهه وتأليبه المستمر، وهذا تحليل غير دقيق في نظري، فالقرارات الكبرى تفرضها ظروف سياسية هي أعتى من كل اللاعبين الكبار في الإعلام الليبرالي، نعم، الإعلام الليبرالي قد يكون له دور في التهيئة التغريبية المجتمعية لقرار مطبوخ مسبقاً، أو وضع مستندات إضافية في يد الأعداء يتسلطون بها علينا، كتعزيز شرعية الغلو بتسليمه التراث السني، لكنه أعجز بكثير من أن يصنع الأحداث الكبرى والقرارات المفصلية.
إذن ما تفسير الحدث؟ وكيف نتج القرار؟ هناك اتجاهات كثيرة في تفسير الواقعة، فثمة من يرى أن القرار مجرد رد فعل بسيط للتجاوزات الفردية السابقة ورغبة في الحل الجذري لهذه التجاوزات، وآخرون يرون أن القرار هو رضوخ للضغط الغربي المباشر للتغيير الثقافي في المنطقة المنتِجة للإرهاب بحسب المنظور الغربي ومن ضمن العناصر عندهم ما يسمى البوليس الديني، وهناك من يميل للتفسير بأن القرار جزء من مشروع " برنامج التحول الوطني " المنهمك في المحور الاقتصادي وتوفير البيئة الجاذبة للاستثمارات ومن ضمن عناصر البرنامج عنصر " الترفيه " وأن ورش العمل في المشروع خرجت بتوصيات كان من ضمنها أن مؤسسة الحسبة معيق لطموحات المشروع، وهناك من يرى أن الإعلام الليبرالي أعجز من أن يصنع القرار وأنه لا يوجد إجبار غربي مباشر وأن برنامج التحول الوطني لا يمكن أن ينتج قرارات صادمة اجتماعياً بهذا الشكل المفاجئ وإنما يرى أصحاب هذا التفسير أن القرار هو محصلة نهائية ومخرجات مألوفة لشروط التنافس السياسي على العرش التي يفرضها الغرب على المنطقة، وثمة تفسيرات أخرى.
وعلى أية حال لا يعنينا هنا الترجيح بين التفسيرات، وإنما يعنينا بالضبط: صيغة التعامل مع الحدث؟
فالذي أراه أن من أخطر صيغ التعامل " الاندفاع والتهور "، فبعض الناس قد يرى أن التهديد بالفوضى هو سبيل استرجاع صلاحيات مؤسسة الضبط الأخلاقي، وهذا تفكير فيه طيش ينتج عكس المقصود، بل لا أحصي كم رأيت الاندفاع ينقلب إلى الانكفاء إلى الداخل وسيطرة اليأس والإحباط، والانسحاب عن استحقاقات الإصلاح.
وآخرون في مثل هذه الأحوال يبحثون عن أقوى تغريدة فيها تحدي سياسي قبيل الخط الأحمر الأخير للسقف السياسي، دون تفكير جدي بسبل الإصلاح، وهذا بصراحة تفكير غير رسالي، وفيه استثمار للمنكرات لبناء جاه البسالة الوهمية.
ليس المطلوب منا عند الله أن نصنع المستحيل، ولا أن نفرض ما يخرج عن قدرتنا وإمكاننا، وإنما الواجب أن نضع بين يدينا الاجتهاد في " الإعذار " الذي قال الله عنه:
(وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).
وسبل الإصلاح في تقديري تجري في ثلاث أقنية: الأول عدم اليأس من التواصل مع المسؤولين لا لاسترجاع صلاحيات مؤسسة الحسبة فقط، بل لزيادة وتطوير إمكانياتها أيضاً.
الثاني: مواصلة نشر الوعي المجتمعي بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعبد لله بدعمها.
والثالث: عدم الاحتباس في مؤسسة الحسبة الرسمية واعتقال التفكير الإصلاحي برهاناتها السياسية بل ينبغي التجديد والإبداع في وسائل وآليات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنشاء الجميعات ودعم الأفكار الخلاقة والمبدعة والإشاعة المجتمعية لمفهوم النصيحة والتناصح.
يسعى المصلح لتقوية أي مؤسسة أكثر جدية في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتقرب لله بالغيرة والغضب لله ورسوله، ولكن إن لم يتحقق ما اجتهد في تحقيقه فلا يعني أن الصراع مع أهل الباطل انتهى، بل مايزال المصلح يستعين بالله ويجتهد بحسب إمكانه، والله سبحانه هو الذي يقدر ويختار، ثم يتلمس المصلح دقائق حكمة الله فيما يقع بخلاف غرضه، فما أكثر ما يُغلَق باب من الإصلاح تعلق الناس به ويفتح الحكيم الخبير أبواباً أخرى ما طرأت للناس ببال، (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئَاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
إن أخطر ما يقع ليس تكبيل أيدي جهاز قائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل أخطر منه بلا شك تكبيل القلوب باليأس والإحباط، وهذه أعظم ما يسعى له المفسدون المحاربون لأصل مبدأ النهي عن المنكر، فيما يسمى " الحرب النفسية "، فتراهم لا يكفون عن التهويل بانتهاء الأمور وموت الحسبة الخ لا ليغتالوا جهازاً ومؤسسة، بل ليغتالوا قلوب المصلحين ويحقنوا همتهم بسموم الإحباط..
وتأمل كلمة أحد سادات المصلحين في تاريخ البشرية، كيف يكتب بنور القرآن، وينظر بين غمرات المنكرات ومكر المفسدين بعين التوكل والثقة بالله، حيث يقول الإمام ابن تيمية:
(فالمؤمن منهي أن يحزن عليهم أو يكون في ضيق من مكرهم، وكثير من الناس إذا رأى المنكر أو تغير كثير من أحوال الإسلام جزع وكل وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
مختارات